الهجوم على السنة النبوية
الهجوم على السنة النبويةإبراهيم عوض
السُّنَّة هى المصدر الثانى بعد القرآن للدين كله لا للتشريع فقط. نعم ليست السنة المصدر الثانى للتشريع فحسب بل للعقيدة والأخلاق والسلوك والذوق أيضا. ذلك أن الرسول لم يكن يتناول فى أحاديثه أمور التشريع وحدها بل كان يدعو معها إلى الأخلاق الكريمة والتصرفات القويمة والذوق الراقى والعقيدة السليمة وما إلى هذا. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنِّى أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معه". فمِثْلُ الكتاب هو السنة الشريفة. وهذا أمر طبيعى، فليس من المعقول أن يكون الرسول مجرد حامل للوحى لا يصنع شيئا آخر غير تبليغه دون مبالاة بعجز الناس عن فهم القرآن، أو حيرتهم أمام النص لا يدرون كيف يطبقونه أو كيف يُنَزِّلون الواقعة التى أمامهم على المبادئ العامة التى يتضمنها مثلا. فمن الطبيعى أن يتكلم الرسول فى هذه الحالات وأشباهها. ولا بد أن يكون كلام الرسول فى الدين صحيحا ما دام القرآن لم ينزل بتصحيحه، وإلا فمن يكون كلامه صحيحا يا ترى؟
أما إذا نزل القرآن يخالف ما قاله الرسول أو عمله فهذا أمر استثنائى، وأما سائر كلامه فى الدين فصحيح. وبالمناسبة فإن الأمور التى عاتبه القرآن فيها إنما تدل على حبه صلى الله عليه وسلم لدعوته وحرصه على خدمتها بكل ما يستطيع وميله للتيسير على العباد واجتهاده فى راحتهم، لكن الوحى قد ينزل رغم ذلك أحيانا مبينا له أن خلاف ما صنع هو الأولى، إذ فوق كل ذى علم عليم هو الله سبحانه، الذى يعرف مصلحة العباد أفضل من أى إنسان حتى لو كان ذلك الإنسان نبيا رسولا.
الرسول إذن ليس مجرد مبلغ للقرآن عن ربه، بل يتكلم ويحكم ويُفْتىِ ويشرع ويوجه الأخلاق والسلوك ويرقّى الذوق ويصحح العقيدة ويهدى الضمير. وعلى هذا فإن أحاديثه جزء أساسى من الدين. وقد حذر عليه السلام المسلمين إنكار السنة بحجة أن فى كتاب الله الكفاية: "ألا هل عسى رجلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عنى وهو مُتَّكِئٌ على أريكَتِهِ، فيقولُ: "بينَنَا وبينَكم كتابُ اللهِ: فما وجدْنا فيه حلالًا استحلَلْنَاه، وما وجدْنا فيه حرامًا حَرَّمناه". وإِنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما حرمَ الله"، "لا أُلْفِيَنَّ أحدَكُم مُتَّكِئًا على أريكَتهِ يأتيهِ الأمرُ من أمرى ممَّا أمرتُ بهِ أو نّهَيْتُ عنهُ، فيقول: "بيننا وبينكُم هذا القرآنُ. فما وجدنا فيه من حلالٍ أحللناهُ، وما وجدنا فيهِ من حرامٍ حَرَّمْناهُ". ألا وإنِّى أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَهُ معه".
والواقع أنه بدون الحديث يمكن أن يقع كثير من الناس فى أخطاء شنيعة، فيشربوا الخمر مثلا اعتمادا على الآية التالية: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمَنوا وعملوا الصالحات ثم اتَّقَوْا وآمَنوا ثم اتَّقَوْا وأحسَنوا". فالآية فى ظاهرها تقول إن المهم الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وليس هناك أى بأس بعد ذلك فى أن يأكل الإنسان ويشرب ما يشاء. إلا أن هناك فئة تنتسب إلى الإسلام ظهرت فى العصر الحديث تنكر الأحاديث ولا ترى سوى القرآن، وترفض ما أُثِر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير، ولا تجد له قيمة. بل إن بعضهم ينفى أن يكون الرسول قد نطق بشىء آخر سوى القرآن، وكأنه جهاز تسجيل وليس إنسانا ذا عقل وقلب وضمير وشعور بالمسؤولية وقدرة على الشرح والتوضيح والتطبيق والحكم والتوجيه. وهذه الفئة تسمى: القرآنيين.
ولتلك الطائفة بذرة قديمة، فقد ذكر ابن تيمية فى "رسالة الفرقان بين الحق والباطل" عن الخوارج أن "أصل مذهبهم تعظيم القرآن وطلب اتِّباعه، لكنْ خرجوا عن السنة والجماعة، فهم لا يَرَوْن اتِّباع السنة التى يظنون أنها تخالف القرآن كالرجم ونصاب السرقة وغير ذلك". وبالمثل نراهم لا يوافقون على المسح على الخفين لأنه ليس مذكورا فى كتاب الله. كذلك فإن النجدات أضافت إلى ذلك إسقاط حد الخمر لعدم وروده فى القرآن. وكان بعض المعتزلة على الأقل لا يَرَوْن فى الحديث المتواتر حجية، لجواز دخول الكذب عليه. كما كان النظّام يَعُدّ أبا هريرة أكذب الناس. وفى كتاب "الأم" يورد الشافعى حوارا بينه وبين أحد منكرى السنة فى عصره أواخر القرن الثانى الهجرى.
ومن الذين يقولون بذلك فى العصر الحديث طائفة من أهل الهند ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر منها مولوى عبد الله جكرالوى ومولوى أحمد الدين أمرتسرى ومولانا أسلم جراجبورى وغلام أحمد برويز على ما وضح د. خادم بخش فى كتابه القيم: "القرآنيون وشبهاتهم حول السنة". وقد انتشرت تلك الدعوة حتى وجدنا من أولئك القرآنيين عددا من المصريين يتزعمهم د. أحمد صبحى منصور المدرس السابق بجامعة الأزهر، والمقيم حاليا فى أمريكا. فهو، فى كتابه: "القرآن وكفى مصدرا للتشريع" المملوء بالأخطاء الإملائية والنحوية والصرفية، يهاجم بشراسةٍ بالغةٍ الأحاديثَ وجامعى الحديث. ومما قاله فى هذا الصدد أن كل واحد من أصحاب كُتُب الحديث النبوى الشريف قد انتخل أحاديث كتابه من عشرات آلاف الأحاديث مما يدل، كما يقول، على أن الغش كان قد استشرى فى ذلك الباب. والواقع أن هذا دليل ضده لا له، إذ لو كان المحدِّثون قد اخترعوا الأحاديث التى تضمها كتبهم حسبما يقول فلِمَ أتعبوا أنفسهم فى الغربلة والنخل؟ نعم لماذا لم يأخذوا كل حديث قابلهم وضمَّنوه كتبَهم ما دام الأمر تدليسا فى تدليس؟ إن هذا فى الواقع برهان على أن علماء الحديث، رضوان الله عليهم، كانوا يطبقون منهجا علميا محكما ولا يقبلون الأشياء على علاتها، وإلا فلو كانوا قد اخترعوا الأحاديث النبوية للإساءة إلى الإسلام كما يدعى فلم يا ترى كانوا يتعبون أنفسهم ويعيدون النظر فيما اخترعوه وزيّفوه لينتقوا منه أشياء ويحذفوا منه أشياء؟
أما قوله إن الإسلام لم ينتظر البخارى ومسلم وبقية علماء الحديث حتى يؤلفوا كتبهم تلك، بل كان المسلمون يمارسون دينهم قبل هؤلاء بقرون فالرد عليه من أسهل الأشياء. فقد كان المسلمون يستعينون طوال تلك القرون بالأحاديث النبوية أيضا، وكل ما فعله علماء الحديث أنهم أرادوا غربلة الأحاديث المنسوبة للنبى وتبويبها بحيث يجد القضاة والمفتون وأصحاب المذاهب الفقهية مجموعات الأحاديث بين أيديهم منظمةً جاهزةً لا تحوجهم كل مرة إلى تقويمها والتثبت من صحتها. وليس معنى هذا أن الأحاديث التى جمعها أهل الحديث هى فوق النقد، فما هم فى نهاية المطاف إلا بشر يصيبون ويخطئون، شأنهم شأن أى عالم آخر فى أى ميدان من ميادين العلم. لكنهم قد بذلوا مع ذلك جهودا عبقرية فى الفحص والتقويم والتصنيف!
كذلك يزعم أحمد صبحى منصور أن الأحاديث النبوية تناقض القرآن وتحاربه. وهذا كلام خاطئ، إذ متى كانت أحاديث الرسول مناقضة للقرآن؟ إن ذلك لو حدث فمعناه أن تلك الروايات ليست من كلام النبى عليه الصلاة والسلام، وهذا قليلٌ جِدُّ قليلٍ فى كتب الحديث المعتمدة كما يعرفه كل من له خبرة فى هذا المجال، اللهم إلا إذا ثبت أن التناقض المزعوم ليس تناقضا بل هو تخصيص لحكم عام مثلا، أو استثناء لحالة من الحالات التى لها ظروف مختلفة، أو حكم وقتى انتهى العمل به وبقى الحديث الذى يتناوله لم يندثر... وما إلى ذلك.
ومما استند إليه منصور أيضا فى محاربة السنة النبوية زعمه بأن وظيفة النبى محمد فى القرآن تنحصر فى التبليغ، والتبليغ وحده ليس غير. أى أنه عليه السلام لم يكن أكثر من جهاز تسجيل. والرسول عليه السلام لا يحق له، بمقتضى مزاعم منصور، أن يفتح فمه برأى أو اجتهاد أو تفسير أو فتوى أو تنزيل للحكم القرآنى على هذه الحالة أو تلك من الحالات الفردية... ترى ألم يحدث قط أن سأل أحد الصحابة النبى عليه السلام عن معنى آية قرآنية استعصى فهمها عليه، أو جاءه أحد المسلمين يستفتيه فى حالة خاصة لا يعرف كيف يطبق عليها الحكم القرآنى العام، أو تحركت نفسه الشريفة لوعظ أصحابه بكلام من عنده يستوحى فيه القرآن؟ كذلك كان الرسول الكريم حاكما وقائدا عسكريا وقاضيا، إلى جانب كونه نبيا مبلغا للوحى. وهو ما يعنى أنه عليه السلام قد ترك لنا تراثا من الأحاديث غاليا ينبغى أن نتمسك به حتى نفهم الإسلام فهما سليما. ولا يكتفى أحمد صبحى منصور بذلك بل يشتط فيدعى أن النبى عليه السلام خطب الجمعة أكثر من خمسائة مرة، ومع ذلك لم تحفظ له خطبة جمعة واحدة، إذ كان يخطب الجمعة بالقرآن.
إن القرآن بوجه عام إنما يمثل دستور المسلمين، فإذا قلنا إننا محتاجون إلى صوغ قوانين تنظم حياتنا، أيمكن أن يقول لنا قائل إن محاولة صياغة هذه القوانين تتناقض مع وجود القرآن؟ إن القرآن يكتفى فى كثير من الأحيان بالنص على الخطوط التشريعية العريضة والمبادئ الأخلاقية العامة، ثم يأتى الحديث النبوى فيقدم لنا الفتاوى والأحكام التفصيلية التى تستوحى تلك المبادئ العامة وتحولها إلى تطبيقات عملية يومية. والحق أن القرآن والسنة النبوية يشبهان كتابا ذا هوامشَ وحواشٍ: القرآن فيه يمثل المتن، والحديث يقوم بدور الشرح، ولا تعارض البتة بين الاثنين. وكلام الرسول وأفعاله هى جزء من الوحى، إلا إذا اجتهد الرسول عليه السلام من عند نفسه ولم توافقه السماء على ما اجتهد، فعندئذ ينزل القرآن منبها إياه بوجوب العدول عن هذا أو باستحسانه على الأقل: "عَبَسَ وتولَّى * أنْ جاءه الأعمى * وما يدريك؟ لعله يَزَّكَّى * أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه الذكرى * أما مَنِ استغنى * فأنت له تَصَدَّى * وما عليك أَلَّا يَزَّكَّى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تَلَهَّى * كلا، إنها تذكِرة"، "يا أيها النبى، لِمَ تحرِّم ما أَحَلَّ اللهُ لك تبتغى مرضاةَ أزواجك، والله غفور رحيم؟"، "وإذا قيل لهم: تَعَالَوْا يستغفرْ لكم رسولُ الله لَوَّوْا رؤوسَهم ورأيتَهم يَصُدّون وهم مستكبرون * سواءٌ عليهم أَسْتغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفرْ لهم. لن يغفر الله لهم، والله لا يَهْدِى القومَ الفاسقين".
وهناك رُؤًى رآها صلى الله عليه وسلم فى المنام وحدّث بها مَنْ حوله، وحوارات دارت بينه وبين المؤمنين أو مجادلات قامت بينه وبين الكافرين. وهناك أيضا حُكْم النبى وقضاؤه بين المتخاصمين، وهذا طبعا غير القرآن. وهناك تصرفات تصرفها النبى ووافقه القرآن فيها أو عاتبه عليها. وهناك رأى ارتآه النبى من عند نفسه... إلخ. وهذا كله برهان على أن ما يصور به أحمد صبحى منصور رسولَ الله عليه الصلاة والسلام من أنه لم يكن أكثر من آلة تسجيل ليس فيها إلا أشرطة للقرآن الكريم هو ضلال فى ضلال!
فإذا أضفنا إلى ما مرّ أن فى القرآن أحكاما كثيرة أتت مجملة عامة، وتحتاج عند التطبيق إلى النظر فيها لاستخراج الحكم فى هذه الواقعة الخاصة أو تلك لتنزيلها عليها، تبيّن لنا على نحو يقينى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد مبلغ لنصوص القرآن ليس إلا. مثال ذلك آية السرقة فى سورة "المائدة"، التى لا بد أن تثير عند قراءتها الأسئلة التالية: ما قيمة المبلغ الذى تُقْطَع عنده يد السارق؟ وهل تُقْطَع فى كل الأحوال أم هل هناك ظروف وشروط معينة لا بد من توفرها حتى يتم القطع؟ وكيف ينفَّذ هذا القطع؟ بل ما معنى القطع؟ كذلك عندنا الزكاة، ولكن كيف يخرج المسلم زكاته؟ وما نِصَابُها؟ وما نسبتها إلى ماله؟ وهل الزَّكَوَات كلها شىء واحد أم هل تختلف حسب نوع المال المزكَّى عنه؟ وهل لا بد من إخراجها عَيْنًا أم هل من الجائز أن نخرجها نَقْدًا؟ وهكذا يرى القارئ أن هناك، إلى جانب القرآن الكريم، مندوحةً واسعةً للمساهمات النبوية من خلال القول والسلوك والتطبيق والحُكْم... إلخ.
أما بالنسبة لما قاله أحمد صبحى منصور عن الصلاة وأنها إنما وردت لنا من أيام إبراهيم عليه السلام ولم تَرِدْ عن طريق السنة النبوية فيا ترى كيف وصلت إلى العرب على أيام النبى؟ أترى العرب فى الجاهلية كانوا يصلون على النحو الذى كان يصلى عليه إبراهيم طوال كل هاتيك القرون منذ عصر أبى الأنبياء حتى عصر محمد؟ أم هل وصلتنا فى كتاب من كتب إبراهيم؟ فأين يا ترى ذلك الكتاب؟ وهل كانت صلاة إبراهيم تتضمن مثلا "الفاتحة" وآيات القرآن، التى لم تكن قد نزلت بعد، أم ماذا؟ ثم كيف يسكت القرآن فلا يذكر أن صلاة النبى محمد وأتباعه ليست شيئا آخر غير صلاة إبراهيم عليه السلام وسائر الأنبياء؟ الواقع أنه ليس أمامه إلا الإقرار بأنها إنما وصلت إلينا من خلال سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحدها. وبالمناسبة فأحمد صبحى منصور يصلى صلاة تختلف تماما عن صلاتنا فى مواعيدها وركعاتها وأقوالها وطريقة تأديتها. فكيف، وهو يقول إن مسألة كهذه لا يمكن أن يقع فيها الاختلاف؟ ثم ماذا كان يمكن أن تكون النتيجة لو لم تكن هناك أحاديث تضبط تلك المسألة؟ لا ريب أن الاختلاف سيكون فى تلك الحالة أشد وأزعج. وعلى ذلك فَقِسْ كل أمور الدين والحياة بالنسبة للمسلمين، إذ العلماء والفقهاء والمفتون مختلفون الآن رغم وجود الأحاديث، التى تضبط فهمنا للقرآن، وإن كان اختلافهم محدودا، فماذا يحدث إن لم تكن هناك أحاديث؟ يقينا لسوف تزداد شقة ذلك الخلاف ازديادا فاحشا يثمر فتنة لا تبقى ولا تذر، ويتفتت المسلمون ويصيرون شَذَرَ مَذَر!
وأما بالنسبة لخُطَبه صلى الله عليه وسلم فى الجمعة وغيرها فقد كانت كل خطبة من تلك الخطب تتكون من كلامه هو، وإن لم يمنع هذا من الاستشهاد أحيانا ببعض الآيات الكريمة. ومن بين تلك الخطب خطبته مثلا يوم أُحُد. وهذا نصها: "أيها الناس، أوصيكم بما أوصانى الله فى كتابه من العمل بطاعته والتناهى عن محارمه. ثم إنكم بمنزلِ أجرٍ وذخرٍ لمن ذكر الذى عليه ثم وَطَّن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديدٌ كَرْبُه، قليلٌ من يصبر عليه، إلا من عزم له على رشده. إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله. وعليكم بالذى أمركم به، فإنى حريص على رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطى عليه النصر. أيها الناس، إنه قُذِف فى قلبى أن من كان على حرامٍ فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر له ذنبه. ومن صلى على محمد صلى الله عليه وملائكته عشرا، ومن أحسن وَقَع أجرُه على الله فى عاجل دنياه أو فى آجل آخرته. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا. ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غنى حميد. ما أعلم مِنْ عَمَلٍ يقرّبكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه قد نفث الروحُ الأمينُ فى رُوعِى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى أقصى رزقها لا ينقص منه شىء، وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله ربكم وأَجْمِلوا فى طلب الرزق، ولا يحملنَّكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يُقْدَر على ما عنده إلا بطاعته. قد بُيِّن لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شُبَهًا من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا مَنْ عَصَمَ. فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعى إلى جنب الحِمَى أوشك أن يقع فيه. وليس مَلِكٌ إلا وله حِمًى. ألا وإن حِمَى الله محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد: إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده. والسلام عليكم".
وهو أيضا يهاجم من يعدون سنة البخارى وغيره مصدرا من مصادر التشريع فى الاسلام متسائلا: هل يعقل أن تظل مصادر التشريع فى الإسلام ناقصة الى أن يأتى البخارى وغيره بعد موت النبى بقرون ليكملوها؟ وماذا نفعل بقوله تعالى: "اليوم أكملتُ لكم دينَكم، وأتممتُ عليكم نعمتى، ورَضِيتُ لكم الاسلام دينا"؟ فعنده أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للتشريع، إلا أن المسلمين أضافوا له مصادر أخرى توسعت بها الفجوة بينهم وبين الاسلام. ومن بين تلك المصادر الأحاديث والسنن، وكلهم مختلفون فيها جزئيا وكليا. وعنده أن تلك الأحاديث ليست جزءا من الإسلام. وأولئك الذين يعدونها من الإسلام إنما يتهمون النبى عليه السلام بأنه لم يبلغ الدين كاملا وبأنه فرَّط فى تبليغ هذا الجزء.
هذا ما قاله أحمد صبحى منصور. والواقع أنه يتلاعب هنا بالكلمات، فنحن لا نؤمن بسنة البخارى ولا غير البخارى بل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التى جمعها ودونها هؤلاء الأفذاذ. وكانت تلك السنة موجودة منذ أيام النبى، ودوَّن بعض الصحابة أشياء منها، وكان المسلمون يحفظونها، ويلجأون إليها فى تشريعاتهم حين لا يجدون فى القرآن مبتغاهم وجودا مباشرا مثلما كانوا ولا يزالون يستخدمون عقولهم واستنتاجاتهم وقياساتهم عندما لا يجدون فى القرآن والحديث مبتغاهم وجودا مباشرا. وكل ما صنعه أصحاب كتب الحديث هو أنهم نقلوا أحاديث النبى من الصدور والأفواه والصحف إلى كتب ألفوها هم وبَوَّبُوها حتى تكون تحت يد من يريد فلا يضيع وقته فى البحث عنها ولا فى التحقق منها بدءا من نقطة الصفر. ترى هل يصح أن نقول إن الناس لم تكن تتنفس إلى أن صنف العلماء والأطباء كتبا فى الجهاز التنفسى والشهيق والزفير وشرحوا عملية التنفس؟ فكذلك الحال فى كتب الحديث.
أما قوله إن المسلمين يعدون ما كتبه البخارى وغيره هو السنة النبوية، ويدّعون أنها وحى من السماء رغم أن ذلك الوحى قد امتنع عن كتابته الرسول والخلفاء الراشدون وغير الراشدين إلى أن جاء بعض الناس كالبخارى وغيره فتطوعوا بدافع شخصى لتدوين تلك السنة، بما يعنى أن الإسلام ظل ناقصا إلى أن تقدم البخارى وغيره لإكماله فى عصور الفتن والاستبداد والانحلال، أما قوله هذا فهو قول متهافت لا يصمد أمام النظر العقلى. فأى دافع شخصى بعث البخارى أو غيره على تأليف "صحيحه" أو "مسنده" يا ترى؟ هل كان يريد ملكا أو مالا أو جاها؟ فكيف؟ إننا لا نقول إن كل ما جمعه البخارى أو غير البخارى فى كتابه صحيح مائة فى المائة، بل نقول إنهم قد بذلوا فى تلك السبيل جهودا عبقرية نبيلة نرجو أن يجازيهم الله عليها خير الجزاء. وهم لم يأتوا بتلك النصوص من عندياتهم بل جمعوا ما كان متداولا على الألسن أو محفوظا فى القلوب أو مثبتا فى الصحف ويعمل به المسلمون فى تصريف شؤونهم التشريعية والأخلاقية والسلوكية والعقيدية. إنهم، كما قلنا ونقول، لم ينشئوها من العدم، بل كانت موجودة، وكل ما صنعوه هو أنهم جمعوها وتحققوا من صحتها وبَوَّبُوها حتى يكون استعمالها سهلا ميسورا لمن يريد.
وهنا نراه يلجأ إلى اتهام البخارى بأنه أساء بأحاديثه تلك إلى مقام النبى الكريم، موردا حديثا يقرؤه بطريقته المريبة، زاعما أن البخارى يصور فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بصورة من يريد اغتصاب امرأة من النساء، مع أن الحديث إنما يتكلم عن سيدة كان النبى قد خطبها وعقد عليها لكنه لم يكن قد دخل بها. وتصادف أن وصلت الزوجة المذكورة إلى النبى وهو فى بعض الطريق مع صحابته، وأُنْزِلَتْ فى بستان، فترك النبى أصحابه ليرى زوجته الجديدة، فما كان منها حين رأته يمد يده إليها إلا أن استعاذت بالله ظنا منها أن ذلك سيجعلها أحظى عنده حسبما أفهمها بعض زوجاته. فكان أن أجابها الرسول عليه الصلاة والسلام قائلا: عُذْتِ بمعاذ. أى أنت الآن فى حماية الله ما دمت قد استعذت به. ثم سرَّحها إلى أهلها تسريحا جميلا وأكرمها وأعطاها بعض المال تطييبا لخاطرها رغم انخداعها بما سمعت وتنفيذها له بالحرف مما لا يجعلها أهلا لأن تكون زوجة النبى. إن الحديث الذى استشهد به أحمد صبحى منصور على صحة اتهامه للبخارى هو حديث موجز لا يعطى الصورة كاملة كما شرحتها هنا، بيد أن الرجوع إلى روايات الحديث الأخرى من شأنه أن يجلِّى الصورة تجلية تامة ويوضح ما أراد منصور التعمية عليه ليصدّق القراء المتعجلون اتهامه المجحف للبخارى رضى الله عنه.
ومن الحجج التى يلجأ إليها أحمد صبحى منصور فى محاربته للحديث النبوى الشريف تفسيره العامى لقوله تعالى شأنه: "ما فرَّطنا فى الكتاب من شىء"، ولقوله سبحانه: "ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شىء"، متصورا أنه يمكنه الاستدلال به على وجوب استغناء المسلم بالقرآن عن كل شىء آخر. والحق أنه لو كان صادقا فى هذا الذى يقول لكان أولى به أن يمزق كتبه ومقالاته أيضا. أليس القرآن قد ذكر كل شىء، وبيّن كل شىء، ولم يفرط فى أى شىء؟ وهذا يذكِّرنى بالسؤال الذى كنا نسمعه فى صبانا من بعض العامة حولنا: "إذا كان القرآن فيه تبيان كل شىء فكيف لم يذكر عدد الأرغفة التى تنتجها أفران مصر على سبيل المثال؟". إننا لا نشاحّ فى أن القرآن قد بيّن كل شىء ولم يفرِّط فى ذكر أى شىء، ولكن بمعنى غير هذا المعنى العامى الساذج. إن القرآن كثيرا ما يكتفى برسم الخطوط العامة ثم يتركنا نستخلص منها ما نعالج به مشاكلنا التى تتجدد مع الأيام.
وقد كان الرسول هو أول من قام بتطبيق مبادئ القرآن واستخراج الأحكام التفصيلية من مبادئه وتشريعاته العامة وتطبيقها على الوقائع التى تستجد كل يوم، فكيف يُطْلَب منا أن نهمل ما تركه لنا الرسول الكريم على اعتبار أنه يتناقض مع إيماننا بالقرآن؟ أما قوله إن "النبى يوم القيامة سيعلن براءته من أولئك الذين تركوا كتاب الله وهجروه جريا وراء مصادر أخرى ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان: "وقال الرسول: يا ربِّ، إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًّا من المجرمين، وكفى بربك هاديا ونصيرا" فهو تكرير للاتهامات الظالمة التى لا يَكِلّ ولا يَمَلّ من توجيهها لعلماء الحديث خاصة، والمسلمين عامة، إذ لا يوجد مسلم يستعيض بكتب الحديث عن كتاب الله، بل كل ما هناك أنها تساعدنا على فهم القرآن وتطبيقه على أحسن وجه ممكن بدلا من الانفلات فى أجواز الفضاء دون ضابط ولا رابط كما يفعل هو نفسه ومن على شاكلته. ثم هل يمكن أن يعلن النبىُّ براءتَه ممن يشهد له صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، ويقف مع من يكفِّر الذى يقول: "أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"؟ وإذا كانت الشهادة لمحمد بالنبوة والرسالة كفرا وشركا وإثما، فما هى الشهادة يا ترى التى تُرْضِى اللهَ ورسولَه؟
وهو يؤكد، ونحن أيضا نؤكد معه، أن النبى صلى الله عليه وسلم هو المثال الأعلى فى الخلق والسلوك والعقل والفصاحة والدعوة والتخطيط والقيادة العسكرية والزعامة السياسية. لكننا نتساءل: ترى كيف تواتى المسلمَ الحقَّ نفسُه على إهمال ذلك التراث النبوى العظيم والبدء كل مرة من جديد دون محاولة الاستفادة من هذا التراث الذى يقول فيه منصور قصائد وَلْهَى ليستدير فيفاجئنا بأن علينا نبذه تماما، وإلا كنا مشركين كافرين؟ ثم إذا كان الوحى قد عاتبه عليه السلام فيما لم يوافقه عليه، وفى ذات الوقت لم يعترض على شىء مما وصلنا من أحاديثه وتصرفاته الشريفة الأخرى، أفلا يحق لنا أن نفهم أن هذه الأحاديث والتصرفات تحظى من القرآن بالرضا والقبول؟ ألا يرى القارئ أن منصور يتخبط تخبطا عنيفا ولا يستطيع أن يهتدى إلى الخروج من المأزق الذى أوقع نفسه فيه سبيلا؟
كذلك نراه يقول إن ما وصلنا من روايات الأحاديث النبوية فيه الصواب والخطأ. وتعليقنا عليه هو أن علماء الحديث، كما هو معروف، لم يقبلوا كل ما وصلهم من كلام أو فعل منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم قد بذلوا جهودا جبارة فى تمحيص سنته الكريمة، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن هذه الجهود العبقرية لا يخرّ منها الماء: فهناك أحاديث منسوبة للنبى ردها بعض العلماء، وهناك أحاديث أخرى لا يطمئن إليها القلب، بل منها ما لا يقتنع به العقل، لكن ذلك قليل بوجه عام. أما منصور فقد غالى فى الرفض مغالاة رهيبة ودعا إلى اطّراح الأحاديث النبوية جملة وتفصيلا.
والغريب أنه فى الوقت الذى يهاجم المحدّثين والأحاديث التى يروونها هجوما شديدا لا يُبْقِى ولا يَذَر نراه يعتمد عليهم ويصدّق رواياتهم تمام التصديق كلما ظن أنه يستطيع توظيفها فى الهجوم عليهم. ومن ذلك قوله: "ويؤكد أن النبى نَهَى عن كتابة غير القرآن أن الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنَهَوْا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها: فأبو بكر الصدّيق جمع الناس بعد وفاة النبى فقال: "إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا. فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحِلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه"، وهذا ما يرويه الذهبى فى تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقى أن عُمَر الفاروق قال: "إنى كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبدا. ورواية البيهقى: "لا أَلْبِس كتاب الله بشىء أبدا". وروى ابن عساكر قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، فقال: ما هذه الأحاديث التى أفشيتم عن رسول الله فى الآفاق؟ أقيموا عندى. لا والله لا تفارقونى ما عشت. فما فارقوه حتى مات".
ومنه كذلك قوله: "وعلماء الحديث يتفقون على صحة حديث "من كذب علىَّ فليتبوأ مقعده من النار"، وبعضهم يضيف إليه كلمة "متعمدا": "من كذب علىّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار". وهم يجعلون هذا الحديث من المتواتر، وعدد الحديث المتواتر لا يصل إلى بضعة أحاديث عند أكثر المتفائلين. والمهم أنهم، بإقرارهم بصحة هذا الحديث، يثبتون أن الكذب على النبى بدأ فى حياة النبى نفسه، وإلا ما قال النبى هذا الحديث يحذّر من الكذب عليه".
ومنه أيضا قوله: "وأكثرَ أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر، إذ أصبح لا يخشى أحدا. وكان أبو هريرة يقول: إنى أحدثكم بأحاديث لو حدّثتُ بها زمن عمر لضربنى بالدِّرّة (وفى رواية: "لَشَجَّ رأسى"). ويروى الزهرى أن أبا هريرة كان يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: "قال رسول الله" حتى قُبِض عمر. ثم يقول أبو هريرة: أفكنتُ محدِّثَكم بهذه الأحاديث، وعُمَرُ حَى؟ أما والله إذن لأيقنت أن المِخْفَقَة (العصا) ستباشر ظهرى، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن، فإن القرآن كلام الله". والآن ما دام ينكر الأحاديث فلماذا يستعين بها لتعضيد رأيه، وهى مزيفة فى نظره ليس لها حقيقة؟
كما أنه، فى تفسيره للقرآن، لا يستطيع أن يقول شيئا ذا بال دون الاستعانة بالحديث. ولنأخذ مثلا ما قاله فى أخلاق النبى عليه السلام إذ وصفه المولى سبحانه بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم"، فقد أضاف أنه صلى الله عليه وسلم "كان خلقه القرآن". وهذا الكلام لم يرد فى القرآن، بل هو من كلام عائشة رضى الله عنها، وقد أوردته لنا الأحاديث النبوية. ومن ذلك أيضا ما كتبه بشأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة، إذ يقول: "والنبى كان عليه أن ينفذ سُنّة الله، أى شرع الله وأوامره، حتى لو كان فيها حرج. وقد نزلت آية "ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قدرا مقدورا" فى موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زوجته...". والسؤال هو: كيف عرف منصور أن الكلام فى الآية عن زينب، وأن زيدا هو زيد بن حارثة، وليس زيدا آخر؟ ذلك أن الآية لم تذكر إلا اسم "زيد" وحده دون اسم أبيه، وكذلك دون اسم زوجته التى أصبحت طليقته. الواقع أنْ ليس هناك من مصدر لهذا إلا الأحاديث، فكيف أصبحت الأحاديث هنا شيئا موثوقا به بعد أن قال فيها ما قال؟
قد يقول إن القرآن يحدد زيدا بأنه من "أدعيائكم"، لكنْ مرة أخرى: من أين نعرف أن زيدا كان دَعِىّ النبى عليه السلام (أى ابنه بالتَّبَنِّى) إلا من الأحاديث النبوية؟ قد يقول: لكن هذا تاريخ، ونحن نُعْمِل عقولنا فى روايات التاريخ فنقبل ما تطمئن إليه ونرد ما سواه. وهذا هو ما أريد أن أُفْهِمه إياه من الصبح: أن نُعْمِل عقولنا فى الأحاديث، لكن بشرط أن نحترم منطق العقل ومنهج العلم وأن نقلّب الأمر على كل وجوهه وأن نتريث قبل إصدار الأحكام وأن ننظر جيدا فيما يقوله الآخرون، وبخاصةٍ من يخالفوننا فى الرأى، وهو ما لم يدخر فيه المحدّثون وسعا، وإن لم يمنع هذا من وجوب إضافة المزيد من الجهود فى هذا السبيل. أما نبذ الأحاديث جملة وتفصيلا عن جهل واندفاع فهو عمل أخرق.
وهذا مثال آخر على أن منصور نفسه، رغم كل الطنطنات والتطاولات على المحدّثين والأحاديث، لا يستطيع أن يتقدم فِتْرًا فى تفسير القرآن دون الاستعانة بها وبهم، مع أنه يؤكد أننا، فى فهمنا للقرآن، لسنا بحاجة على الإطلاق إلى الاستعانة بالحديث أو بغيره، فقد كتب فى تفسير الآيات 105- 113 من سورة "النساء" ما يلى: "وباعتبار النبى بشرا فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه. حدث ذلك حين سرق أحدهم درعا، وشاع بين الناس أمره، وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق فى بيت شخص يهودى برىء. وفى الصباح جاءوا للنبى يبرئون ساحة ابنهم المظلوم. وانخدع النبى وصدّقهم ودافع عن ابنهم، وبذلك أصبح اللص بريئا، وأصبح البرىء لصا. وهى قصة تتكرر فى كل زمان ومكان مُوجَزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البرىء السجن ظلما. والقرآن الكريم ذكر القصة وحوّلها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر فى كل عصر. وفى البداية عاتب الله تعالى النبى ووجّه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذّره من أن يكون مدافعا عن الخائنين: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما". أى أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله فى ذلك الكتاب، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر بالاستغفار: "واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما"، ثم جاءه النهى عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البرىء: "ولا تجادلْ عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيما * يَسْتَخْفُون من الناس ولا يَسْتَخْفُون من الله وهو معهم، إذ يبيّتون ما لا يَرْضَى من القول. وكان الله بما يعملون محيطا".
والسؤال هو: من أين له بأن الآيات نزلت فى أحد اللصوص، وأن هذا اللص قد سرق درعا، وأن أهله لما أحسوا أن أمره سينفضح ذهبوا فوضعوا الدرع فى بيت يهودى... إلخ؟ ترى هل هناك من مصدر آخر اعتمد عليه أحمد صبحى منصور هنا عدا الحديث؟ أما قوله إننا، فى فهمنا للقرآن الكريم، لا نحتاج إلى أى شىء آخر خارج نصوصه، وإن "كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات، أى التى لا تحتاج فى تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. والذى جعل الكتاب مبينا وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل: "بعدما بيَّنّاه للناس فى الكتاب"، والقائل عن كتابه: "ولقد يَسَّرْنا القرآن للذِّكْر، فهل من مُدَّكِر؟"، "فإنما يسَّرناه بلسانك لتبشِّر به المتقين وتُنْذِر به قومًا لُدًّا، "فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون"، أما قوله هذا فجهل فاحش، فمعروف أن أى نص يحتاج إلى وسائل تعين على فهمه، كالمعرفة باللغة التى ينتمى إليها، والمعرفة بالمعجم الخاص به، والمعرفة بالظروف التى كُتِب أو سُجِّل أو أُوحِىَ فيها، والمعرفة بالمصدر الذى جاء منه... إلخ. والقول بغير هذا هو كلام لا يستحق أن نصغى آذاننا له. ولقد رأينا كيف أن منصور نفسه لم يستطع أن يفهم الآيات القرآنية إلا بالاستعانة بأسباب النزول، وهى جزء من الأحاديث النبوية.
وهو يرى أن أحاديث رسول الله وتصرفاته إنما هى انعكاس لثقافات عصره وبيئته يمكن ألا تتفق مع القرآن ولا ينبغى أن نُولِيَها أى اعتبار، وهو ما كنت سمعته من مستشرق أمريكى أتى إلى كلية الآداب بجامعة عين شمس فى ثمانينات القرن المنصرم، ودار بينى وبينه حوار على الماشى قبل الندوة التى حاضر فيها الطلابَ فى أحد المدرجات. وهذا نص ما قاله منصور: "ونحن، وإن كنا نعتبر القرآن هو المصدر الوحيد لسنة النبى وشريعة الرحمن ودين الله الأعلى، فإننا نضع تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح، وهى أنها تاريخ بشرى للنبى وللمسلمين وصدًى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع القرآن". معنى ذلك ببساطة أن كلامه هو التفسير الصحيح للقرآن، ولا يمكن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته، أما فهم الرسول للقرآن فمن الممكن ألا يتفق مع كتاب الله لأنه لا يزيد عن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته! ومن هنا نراه يقول إنه لا ينبغى أن نتأسى بالرسول إلا فى كتاب الله، وكأن الرسول يمكن أن يتصرف أو يقول شيئا يخالف فيه كتاب الله! وهذا نص كلامه: "إن الاقتداء والتأسى يعنى الاتِّباع، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا بكتاب الله. والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد فى موقف معين فإنه أمر النبى نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال: "أولئك الذين هدى اللهُ فبِهُداهُم اقْتَدِهْ"، فلم يقل تعالى: "فبِهِم اقْتَدِهْ"، وإنما قال: فبِهُدَاهم اقْتَدِهْ".
أما الصلاة والزكاة والصيام، وهذه الشعائر مجرد أمثلة، فإن أحدا لا يستطيع أن يؤديها دون الاستعانة بالسنة النبوية المشرفة. لنأخذ مثلا نسبة الزكاة فى الإسلام، فهى لم ترد فى القرآن بل فى الأحاديث الشريفة. كما زعم أن الصلاة على النحو الذى نؤديها به الآن فى الإسلام قد انحدرت إلينا من ديانة إبراهيم. يريد أن يقول إنه ليس للسُّنّة المحمدية فضل فى هذا. لكن لو كان الأمر كما يقول لكان معناه أن الجاهليين كانوا يصلّون بصلاتنا ويقرأون فيها بقرآننا ويصلّون على نبينا قبل أن ينزل القرآن من السماء ويُبْعَث محمد عليه السلام بدين جديد. فهل هذا مما يعقله العاقلون؟ هل كان إبراهيم عليه السلام مثلا يقرأ الفاتحة وآيات القرآن مثلما نفعل الآن... إلخ؟ بل هل كان العرب الجاهليون يعرفون الصلاة أصلا بهذا المعنى؟ لقد كانت الصلاة فى حياة العرب آنذاك تعنى الدعاء مطلقا، أما الأفعال والأقوال على تلك الهيئة المخصوصة التى نطلق عليها فى دين محمد: "الصلاة" فلم يكونوا يعرفونها، وإلا لجاءت فى الشِّعْر الجاهلى بهذا المعنى.
ثم إن هناك آيات قرآنية لا يمكن فهمها، أو لا يمكن فهمها فهما سليما أو دقيقا، إلا إذا عُرِفَ سبب نزولها مما ذكرته الأحاديث، وإن لم ندّع لهذه الروايات العصمة دائما. ونضرب على ما نقول الأمثلة التالية، وقد اعتمدتُ فيها على كتاب "أسباب النزول" للواحدى النيسابورى: ففى الآية 104 من سورة "البقرة" نقرأ قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، لا تقولوا: راعِنَا، وقولوا: انْظُرْنا..."، فكيف يا ترى يمكن أن نفهم ما فيها من الأمر والنهى دون أن نعرف ما جاء فى سبب نزولها مما هو مرتبط بسيرة النبى عليه السلام وأحاديثه؟ "قال ابن عباس فى رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها (أى يستعملون فى تخاطبهم كلمة "راعنا")، فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبى صلى الله عليه وسلم أعجبهم ذلك، وكان "رَاعِنَا" فى كلام اليهود سبًّا قبيحًا، فقالوا: إنا كنا نسبّ محمدًا سرًّا. فالآن أَعْلِنوا السبّ لمحمد لأنه من كلامهم. فكانوا يأتون نبى الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد، رَاعِنَا. ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن عبادة، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله! والذى نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقه. فقالوا: ألستم تقولونها له؟ فأنـزل الله تعالى: يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا لا تَقولوا: رَاعِنَا... الآية". ولزيادة الأمر إيضاحا أذكر أنى قرأت منذ فترة أن الكلمة فى العبرية مأخوذة من "الرعونة". ومن هنا نهى الله سبحانه المسلمين عن استعمالها فى خطابهم لسيد الأنبياء والمرسلين حتى لا يعطوا الأوغاد فرصة للسخرية منه ومنهم بخباثتهم وقلة أدبهم المعروفة عنهم.
كذلك كيف يمكن فهم قوله تعالى فى الآية 187 من ذات السورة: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" دون أن نطلع على الرواية الخاصة بسبب نزولها حتى لا نصنع كما كان بعض الصحابة يصنعون فى البداية؟ وهذا نصها: "أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد قال: أخبرنا جدى قال: أخبرنا أبو عمرو الحيرى قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا ابن أبى مريم قال: أخبرنا أبو غسان قال: حدثنى أبو حازم عن سهل بن سعد قال: نـزلت هذه الآية: "وَكلوا وَاشْرَبوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكم الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَد"ِ ولم ينزل "مِنَ الْفَجْرِ". وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فى رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك "مِنَ الْفَجْرِ"، فعلموا أنه أنما يعنى بذلك الليل والنهار. رواه البخارى عن ابن أبى مريم، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن أبى مريم".
وبالمثل كيف يمكن فهم قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كَرْهًا..." (النساء/ 19) دون أن نعرف أن الميراث هنا ليس أن نرث ما تركه هؤلاء النسوة من مال، بل أن يرثهن الرجل أنفسهن كأنهن متاع حسبما وضّحت الرواية التالية؟ "قال المفسرون: كان أهل المدينة فى الجاهلية وفى أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره. فإن شاء أن يتزوّجها بغير صداق إلا الصداق الذى أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلها وضارّها لتفتدى منه بما ورثت من الميت أو تموت هى فيرثها. فتوفى أبو قيس بن الأسلت الأنصارى وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها يقال له: حصن (وقال مقاتل: اسمه قيس بن أبى قيس)، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها: يضارّها لتفتدى منه بمالها. فأتت كبيشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا قيس توفى، وورث ابنه نكاحى. وقد أضرّ بى وطوَّل على، فلا هو ينفق على ولا يدخل بى ولا هو يخلِّى سبيلى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعدى فى بيتك حتى يأتى فيك أمر الله. قال: فانصرفتْ وسمعت بذلك النساء فى المدينة، فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: ما نحن إلا كهيئة كبيشة، غير أنه لم ينكحنا الأبناء، ونَكَحَنا بنو العم. فأنزل الله تعالى هذه الآية".
وإلى القارئ هذا المثال كذلك من رواية "جونتانامو" للدكتور يوسف زيدان، إذ يفسر قوله تعالى: "وإن خفتم ألا تُقْسِطوا فى اليتامى فانْكِحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاع..." على أساس أن المقصود هو أمر الله لكافل اليتيمات بالزواج من واحدة منهن إلى أربع، متجاهلا سبب نزول الآية، الذى يبين أن معناها هو العكس تماما مما يقول: فعن "عروة بن الزبير أنه سأل عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم عن قول الله تبارك وتعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فى الْيَتَامَى فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ...". قالت: يا ابن أختى، هذه اليتيمة تكون فـى حجر وليها تشاركه فـى ماله، فـيعجبه مالها وجمالها، فـيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقْسِط فـى صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سُنَّتِهنّ فـى الصداق، وأُمِرُوا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن"، بمعنى "اتركوهنّ، فقد أحللت لكم أربعا من غيرهن". ولو كان المعنى كما زعم د. زيدان لقال سبحانه: "فانكحوا ما طاب لكم منهن (أى من اليتيمات) مثنى وثلاث ورباع". ذلك أن الله أراد أن يبعد الكفلاء عن اليتيمات اللاتى كانوا يكفلونهن ويطمعون فى أموالهن، ومن ثم يريدون الزواج منهن حتى تكون تلك الأموال تحت تصرفهم وحتى لا يدفعوا فيهن مهرا كبيرا، لا أنه يريد منهم أن يتزوجوهن. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما يدعو إليه بعض النقاد الحداثيين من الدخول إلى النص مباشرة دون أن نلقى بالا لأى شىء خارجه من حياة صاحبه أو ظروفه أو السياق الذى كتب فيه ما كتب، وبالنسبة للقرآن ألا نرجع إلى أسباب النزول ولغة العرب وأسلوب الكتاب العزيز وتفسيرات المفسرين... إلخ بحيث يستطيع الكاتب أن يقول ما يريد تمريره من أفكار خطيرة دون معقِّب. كذلك فمقتضى كلام زيدان أنه، لو كان فى كفالة الرجل أربع يتيمات أخوات، وهذا طبعا ممكن جدا، فمن حقه التزوج بهن جميعا. وهذا يناقض ما يقول به الإسلام، الذى يحرم الجمع بين أختين اثنتين، فما بالنا بأربع؟
ثم ما الذى فى الأحاديث التى قالها النبى صلى الله عليه وسلم فعلا مما يمكن أن يكون مناقضا للقرآن أو يؤدى بمن يصدّقه ويعمل على احتذائه إلى البوار؟ ترى ماذا فى الحديث الذى ينص على أن العلماء هم ورثة الأنبياء، أو الحديث الذى يؤكد أن فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، أو الحديث الذى يقول إن مداد العلماء يُوزَن بدماء الشهداء، أو ذلك الذى ينبئنا بأن إماطة الأذى عن الطريق أو أن تبسُّم الواحد منا فى وجه أخيه صدقة، أو ذلك الذى يستحثنا على التفكير المستقل القائم على أساس المنطق والعقل والإحاطة بالموضوع من كل أطرافه والتعمق فيه، ويبشّرنا بما لا وجود له فى أى نظام تربوى أو فلسفى أو سياسى من أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ فى اجتهاده، أو الذى ينبهنا فيه عليه السلام إلى أن الصدقة فى السر تطفئ غضب الرب، أو أن اليد الخشنة من أثر العمل والكدّ هى يد يحبها الله ورسوله، أو أن العين التى بكتْ من خشية الله أو باتت تحرس فى سبيل الله لا تَمَسّها النار أبدا، أو أن من رُزِق من البنات ولو بواحدة فأحسن تربيتها وزوّجها دخل الجنة، أو أن الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه، أو أن السِّقْط يأخذ بيد أبويه فى موقف الحساب ويراغم ربه حتى يُدْخِلهما الجنة، أو أن أحق الناس بصحبة الابن هى أمه ثم أمه ثم أمه ثم أبوه، أو أن معاشرة الرجل لزوجته حسنة من الحسنات يُؤْجَر عليها من الله وليست مجرد شهوة تُشْبَع، أو أن إتباع السيئة الحسنة يمحوها فلا يحاسَب الإنسان عليها، أو أنه سبحانه قد رفع عنا السهو والنسيان وما استُكْرِهْنا عليه،
السُّنَّة هى المصدر الثانى بعد القرآن للدين كله لا للتشريع فقط. نعم ليست السنة المصدر الثانى للتشريع فحسب بل للعقيدة والأخلاق والسلوك والذوق أيضا. ذلك أن الرسول لم يكن يتناول فى أحاديثه أمور التشريع وحدها بل كان يدعو معها إلى الأخلاق الكريمة والتصرفات القويمة والذوق الراقى والعقيدة السليمة وما إلى هذا. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا وإنِّى أوتيتُ الكتابَ ومثلَهُ معه". فمِثْلُ الكتاب هو السنة الشريفة. وهذا أمر طبيعى، فليس من المعقول أن يكون الرسول مجرد حامل للوحى لا يصنع شيئا آخر غير تبليغه دون مبالاة بعجز الناس عن فهم القرآن، أو حيرتهم أمام النص لا يدرون كيف يطبقونه أو كيف يُنَزِّلون الواقعة التى أمامهم على المبادئ العامة التى يتضمنها مثلا. فمن الطبيعى أن يتكلم الرسول فى هذه الحالات وأشباهها. ولا بد أن يكون كلام الرسول فى الدين صحيحا ما دام القرآن لم ينزل بتصحيحه، وإلا فمن يكون كلامه صحيحا يا ترى؟
أما إذا نزل القرآن يخالف ما قاله الرسول أو عمله فهذا أمر استثنائى، وأما سائر كلامه فى الدين فصحيح. وبالمناسبة فإن الأمور التى عاتبه القرآن فيها إنما تدل على حبه صلى الله عليه وسلم لدعوته وحرصه على خدمتها بكل ما يستطيع وميله للتيسير على العباد واجتهاده فى راحتهم، لكن الوحى قد ينزل رغم ذلك أحيانا مبينا له أن خلاف ما صنع هو الأولى، إذ فوق كل ذى علم عليم هو الله سبحانه، الذى يعرف مصلحة العباد أفضل من أى إنسان حتى لو كان ذلك الإنسان نبيا رسولا.
الرسول إذن ليس مجرد مبلغ للقرآن عن ربه، بل يتكلم ويحكم ويُفْتىِ ويشرع ويوجه الأخلاق والسلوك ويرقّى الذوق ويصحح العقيدة ويهدى الضمير. وعلى هذا فإن أحاديثه جزء أساسى من الدين. وقد حذر عليه السلام المسلمين إنكار السنة بحجة أن فى كتاب الله الكفاية: "ألا هل عسى رجلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عنى وهو مُتَّكِئٌ على أريكَتِهِ، فيقولُ: "بينَنَا وبينَكم كتابُ اللهِ: فما وجدْنا فيه حلالًا استحلَلْنَاه، وما وجدْنا فيه حرامًا حَرَّمناه". وإِنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كما حرمَ الله"، "لا أُلْفِيَنَّ أحدَكُم مُتَّكِئًا على أريكَتهِ يأتيهِ الأمرُ من أمرى ممَّا أمرتُ بهِ أو نّهَيْتُ عنهُ، فيقول: "بيننا وبينكُم هذا القرآنُ. فما وجدنا فيه من حلالٍ أحللناهُ، وما وجدنا فيهِ من حرامٍ حَرَّمْناهُ". ألا وإنِّى أُوتِيتُ الكتابَ ومثلَهُ معه".
والواقع أنه بدون الحديث يمكن أن يقع كثير من الناس فى أخطاء شنيعة، فيشربوا الخمر مثلا اعتمادا على الآية التالية: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُنَاحٌ فيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوْا وآمَنوا وعملوا الصالحات ثم اتَّقَوْا وآمَنوا ثم اتَّقَوْا وأحسَنوا". فالآية فى ظاهرها تقول إن المهم الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وليس هناك أى بأس بعد ذلك فى أن يأكل الإنسان ويشرب ما يشاء. إلا أن هناك فئة تنتسب إلى الإسلام ظهرت فى العصر الحديث تنكر الأحاديث ولا ترى سوى القرآن، وترفض ما أُثِر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير، ولا تجد له قيمة. بل إن بعضهم ينفى أن يكون الرسول قد نطق بشىء آخر سوى القرآن، وكأنه جهاز تسجيل وليس إنسانا ذا عقل وقلب وضمير وشعور بالمسؤولية وقدرة على الشرح والتوضيح والتطبيق والحكم والتوجيه. وهذه الفئة تسمى: القرآنيين.
ولتلك الطائفة بذرة قديمة، فقد ذكر ابن تيمية فى "رسالة الفرقان بين الحق والباطل" عن الخوارج أن "أصل مذهبهم تعظيم القرآن وطلب اتِّباعه، لكنْ خرجوا عن السنة والجماعة، فهم لا يَرَوْن اتِّباع السنة التى يظنون أنها تخالف القرآن كالرجم ونصاب السرقة وغير ذلك". وبالمثل نراهم لا يوافقون على المسح على الخفين لأنه ليس مذكورا فى كتاب الله. كذلك فإن النجدات أضافت إلى ذلك إسقاط حد الخمر لعدم وروده فى القرآن. وكان بعض المعتزلة على الأقل لا يَرَوْن فى الحديث المتواتر حجية، لجواز دخول الكذب عليه. كما كان النظّام يَعُدّ أبا هريرة أكذب الناس. وفى كتاب "الأم" يورد الشافعى حوارا بينه وبين أحد منكرى السنة فى عصره أواخر القرن الثانى الهجرى.
ومن الذين يقولون بذلك فى العصر الحديث طائفة من أهل الهند ظهرت فى أواخر القرن التاسع عشر منها مولوى عبد الله جكرالوى ومولوى أحمد الدين أمرتسرى ومولانا أسلم جراجبورى وغلام أحمد برويز على ما وضح د. خادم بخش فى كتابه القيم: "القرآنيون وشبهاتهم حول السنة". وقد انتشرت تلك الدعوة حتى وجدنا من أولئك القرآنيين عددا من المصريين يتزعمهم د. أحمد صبحى منصور المدرس السابق بجامعة الأزهر، والمقيم حاليا فى أمريكا. فهو، فى كتابه: "القرآن وكفى مصدرا للتشريع" المملوء بالأخطاء الإملائية والنحوية والصرفية، يهاجم بشراسةٍ بالغةٍ الأحاديثَ وجامعى الحديث. ومما قاله فى هذا الصدد أن كل واحد من أصحاب كُتُب الحديث النبوى الشريف قد انتخل أحاديث كتابه من عشرات آلاف الأحاديث مما يدل، كما يقول، على أن الغش كان قد استشرى فى ذلك الباب. والواقع أن هذا دليل ضده لا له، إذ لو كان المحدِّثون قد اخترعوا الأحاديث التى تضمها كتبهم حسبما يقول فلِمَ أتعبوا أنفسهم فى الغربلة والنخل؟ نعم لماذا لم يأخذوا كل حديث قابلهم وضمَّنوه كتبَهم ما دام الأمر تدليسا فى تدليس؟ إن هذا فى الواقع برهان على أن علماء الحديث، رضوان الله عليهم، كانوا يطبقون منهجا علميا محكما ولا يقبلون الأشياء على علاتها، وإلا فلو كانوا قد اخترعوا الأحاديث النبوية للإساءة إلى الإسلام كما يدعى فلم يا ترى كانوا يتعبون أنفسهم ويعيدون النظر فيما اخترعوه وزيّفوه لينتقوا منه أشياء ويحذفوا منه أشياء؟
أما قوله إن الإسلام لم ينتظر البخارى ومسلم وبقية علماء الحديث حتى يؤلفوا كتبهم تلك، بل كان المسلمون يمارسون دينهم قبل هؤلاء بقرون فالرد عليه من أسهل الأشياء. فقد كان المسلمون يستعينون طوال تلك القرون بالأحاديث النبوية أيضا، وكل ما فعله علماء الحديث أنهم أرادوا غربلة الأحاديث المنسوبة للنبى وتبويبها بحيث يجد القضاة والمفتون وأصحاب المذاهب الفقهية مجموعات الأحاديث بين أيديهم منظمةً جاهزةً لا تحوجهم كل مرة إلى تقويمها والتثبت من صحتها. وليس معنى هذا أن الأحاديث التى جمعها أهل الحديث هى فوق النقد، فما هم فى نهاية المطاف إلا بشر يصيبون ويخطئون، شأنهم شأن أى عالم آخر فى أى ميدان من ميادين العلم. لكنهم قد بذلوا مع ذلك جهودا عبقرية فى الفحص والتقويم والتصنيف!
كذلك يزعم أحمد صبحى منصور أن الأحاديث النبوية تناقض القرآن وتحاربه. وهذا كلام خاطئ، إذ متى كانت أحاديث الرسول مناقضة للقرآن؟ إن ذلك لو حدث فمعناه أن تلك الروايات ليست من كلام النبى عليه الصلاة والسلام، وهذا قليلٌ جِدُّ قليلٍ فى كتب الحديث المعتمدة كما يعرفه كل من له خبرة فى هذا المجال، اللهم إلا إذا ثبت أن التناقض المزعوم ليس تناقضا بل هو تخصيص لحكم عام مثلا، أو استثناء لحالة من الحالات التى لها ظروف مختلفة، أو حكم وقتى انتهى العمل به وبقى الحديث الذى يتناوله لم يندثر... وما إلى ذلك.
ومما استند إليه منصور أيضا فى محاربة السنة النبوية زعمه بأن وظيفة النبى محمد فى القرآن تنحصر فى التبليغ، والتبليغ وحده ليس غير. أى أنه عليه السلام لم يكن أكثر من جهاز تسجيل. والرسول عليه السلام لا يحق له، بمقتضى مزاعم منصور، أن يفتح فمه برأى أو اجتهاد أو تفسير أو فتوى أو تنزيل للحكم القرآنى على هذه الحالة أو تلك من الحالات الفردية... ترى ألم يحدث قط أن سأل أحد الصحابة النبى عليه السلام عن معنى آية قرآنية استعصى فهمها عليه، أو جاءه أحد المسلمين يستفتيه فى حالة خاصة لا يعرف كيف يطبق عليها الحكم القرآنى العام، أو تحركت نفسه الشريفة لوعظ أصحابه بكلام من عنده يستوحى فيه القرآن؟ كذلك كان الرسول الكريم حاكما وقائدا عسكريا وقاضيا، إلى جانب كونه نبيا مبلغا للوحى. وهو ما يعنى أنه عليه السلام قد ترك لنا تراثا من الأحاديث غاليا ينبغى أن نتمسك به حتى نفهم الإسلام فهما سليما. ولا يكتفى أحمد صبحى منصور بذلك بل يشتط فيدعى أن النبى عليه السلام خطب الجمعة أكثر من خمسائة مرة، ومع ذلك لم تحفظ له خطبة جمعة واحدة، إذ كان يخطب الجمعة بالقرآن.
إن القرآن بوجه عام إنما يمثل دستور المسلمين، فإذا قلنا إننا محتاجون إلى صوغ قوانين تنظم حياتنا، أيمكن أن يقول لنا قائل إن محاولة صياغة هذه القوانين تتناقض مع وجود القرآن؟ إن القرآن يكتفى فى كثير من الأحيان بالنص على الخطوط التشريعية العريضة والمبادئ الأخلاقية العامة، ثم يأتى الحديث النبوى فيقدم لنا الفتاوى والأحكام التفصيلية التى تستوحى تلك المبادئ العامة وتحولها إلى تطبيقات عملية يومية. والحق أن القرآن والسنة النبوية يشبهان كتابا ذا هوامشَ وحواشٍ: القرآن فيه يمثل المتن، والحديث يقوم بدور الشرح، ولا تعارض البتة بين الاثنين. وكلام الرسول وأفعاله هى جزء من الوحى، إلا إذا اجتهد الرسول عليه السلام من عند نفسه ولم توافقه السماء على ما اجتهد، فعندئذ ينزل القرآن منبها إياه بوجوب العدول عن هذا أو باستحسانه على الأقل: "عَبَسَ وتولَّى * أنْ جاءه الأعمى * وما يدريك؟ لعله يَزَّكَّى * أو يَذَّكَّرُ فتنفعَه الذكرى * أما مَنِ استغنى * فأنت له تَصَدَّى * وما عليك أَلَّا يَزَّكَّى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تَلَهَّى * كلا، إنها تذكِرة"، "يا أيها النبى، لِمَ تحرِّم ما أَحَلَّ اللهُ لك تبتغى مرضاةَ أزواجك، والله غفور رحيم؟"، "وإذا قيل لهم: تَعَالَوْا يستغفرْ لكم رسولُ الله لَوَّوْا رؤوسَهم ورأيتَهم يَصُدّون وهم مستكبرون * سواءٌ عليهم أَسْتغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفرْ لهم. لن يغفر الله لهم، والله لا يَهْدِى القومَ الفاسقين".
وهناك رُؤًى رآها صلى الله عليه وسلم فى المنام وحدّث بها مَنْ حوله، وحوارات دارت بينه وبين المؤمنين أو مجادلات قامت بينه وبين الكافرين. وهناك أيضا حُكْم النبى وقضاؤه بين المتخاصمين، وهذا طبعا غير القرآن. وهناك تصرفات تصرفها النبى ووافقه القرآن فيها أو عاتبه عليها. وهناك رأى ارتآه النبى من عند نفسه... إلخ. وهذا كله برهان على أن ما يصور به أحمد صبحى منصور رسولَ الله عليه الصلاة والسلام من أنه لم يكن أكثر من آلة تسجيل ليس فيها إلا أشرطة للقرآن الكريم هو ضلال فى ضلال!
فإذا أضفنا إلى ما مرّ أن فى القرآن أحكاما كثيرة أتت مجملة عامة، وتحتاج عند التطبيق إلى النظر فيها لاستخراج الحكم فى هذه الواقعة الخاصة أو تلك لتنزيلها عليها، تبيّن لنا على نحو يقينى أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد مبلغ لنصوص القرآن ليس إلا. مثال ذلك آية السرقة فى سورة "المائدة"، التى لا بد أن تثير عند قراءتها الأسئلة التالية: ما قيمة المبلغ الذى تُقْطَع عنده يد السارق؟ وهل تُقْطَع فى كل الأحوال أم هل هناك ظروف وشروط معينة لا بد من توفرها حتى يتم القطع؟ وكيف ينفَّذ هذا القطع؟ بل ما معنى القطع؟ كذلك عندنا الزكاة، ولكن كيف يخرج المسلم زكاته؟ وما نِصَابُها؟ وما نسبتها إلى ماله؟ وهل الزَّكَوَات كلها شىء واحد أم هل تختلف حسب نوع المال المزكَّى عنه؟ وهل لا بد من إخراجها عَيْنًا أم هل من الجائز أن نخرجها نَقْدًا؟ وهكذا يرى القارئ أن هناك، إلى جانب القرآن الكريم، مندوحةً واسعةً للمساهمات النبوية من خلال القول والسلوك والتطبيق والحُكْم... إلخ.
أما بالنسبة لما قاله أحمد صبحى منصور عن الصلاة وأنها إنما وردت لنا من أيام إبراهيم عليه السلام ولم تَرِدْ عن طريق السنة النبوية فيا ترى كيف وصلت إلى العرب على أيام النبى؟ أترى العرب فى الجاهلية كانوا يصلون على النحو الذى كان يصلى عليه إبراهيم طوال كل هاتيك القرون منذ عصر أبى الأنبياء حتى عصر محمد؟ أم هل وصلتنا فى كتاب من كتب إبراهيم؟ فأين يا ترى ذلك الكتاب؟ وهل كانت صلاة إبراهيم تتضمن مثلا "الفاتحة" وآيات القرآن، التى لم تكن قد نزلت بعد، أم ماذا؟ ثم كيف يسكت القرآن فلا يذكر أن صلاة النبى محمد وأتباعه ليست شيئا آخر غير صلاة إبراهيم عليه السلام وسائر الأنبياء؟ الواقع أنه ليس أمامه إلا الإقرار بأنها إنما وصلت إلينا من خلال سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحدها. وبالمناسبة فأحمد صبحى منصور يصلى صلاة تختلف تماما عن صلاتنا فى مواعيدها وركعاتها وأقوالها وطريقة تأديتها. فكيف، وهو يقول إن مسألة كهذه لا يمكن أن يقع فيها الاختلاف؟ ثم ماذا كان يمكن أن تكون النتيجة لو لم تكن هناك أحاديث تضبط تلك المسألة؟ لا ريب أن الاختلاف سيكون فى تلك الحالة أشد وأزعج. وعلى ذلك فَقِسْ كل أمور الدين والحياة بالنسبة للمسلمين، إذ العلماء والفقهاء والمفتون مختلفون الآن رغم وجود الأحاديث، التى تضبط فهمنا للقرآن، وإن كان اختلافهم محدودا، فماذا يحدث إن لم تكن هناك أحاديث؟ يقينا لسوف تزداد شقة ذلك الخلاف ازديادا فاحشا يثمر فتنة لا تبقى ولا تذر، ويتفتت المسلمون ويصيرون شَذَرَ مَذَر!
وأما بالنسبة لخُطَبه صلى الله عليه وسلم فى الجمعة وغيرها فقد كانت كل خطبة من تلك الخطب تتكون من كلامه هو، وإن لم يمنع هذا من الاستشهاد أحيانا ببعض الآيات الكريمة. ومن بين تلك الخطب خطبته مثلا يوم أُحُد. وهذا نصها: "أيها الناس، أوصيكم بما أوصانى الله فى كتابه من العمل بطاعته والتناهى عن محارمه. ثم إنكم بمنزلِ أجرٍ وذخرٍ لمن ذكر الذى عليه ثم وَطَّن نفسه على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديدٌ كَرْبُه، قليلٌ من يصبر عليه، إلا من عزم له على رشده. إن الله مع من أطاعه، وإن الشيطان مع من عصاه، فاستفتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله. وعليكم بالذى أمركم به، فإنى حريص على رشدكم. إن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف، وهو مما لا يحبه الله، ولا يعطى عليه النصر. أيها الناس، إنه قُذِف فى قلبى أن من كان على حرامٍ فرغب عنه ابتغاء ما عند الله غفر له ذنبه. ومن صلى على محمد صلى الله عليه وملائكته عشرا، ومن أحسن وَقَع أجرُه على الله فى عاجل دنياه أو فى آجل آخرته. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبدا مملوكا. ومن استغنى عنها استغنى الله عنه، والله غنى حميد. ما أعلم مِنْ عَمَلٍ يقرّبكم إلى الله إلا وقد أمرتكم به، ولا أعلم من عمل يقربكم إلى النار إلا وقد نهيتكم عنه. وإنه قد نفث الروحُ الأمينُ فى رُوعِى أنه لن تموت نفس حتى تستوفى أقصى رزقها لا ينقص منه شىء، وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله ربكم وأَجْمِلوا فى طلب الرزق، ولا يحملنَّكم استبطاؤه على أن تطلبوه بمعصية ربكم، فإنه لا يُقْدَر على ما عنده إلا بطاعته. قد بُيِّن لكم الحلال والحرام، غير أن بينهما شُبَهًا من الأمر لم يعلمها كثير من الناس إلا مَنْ عَصَمَ. فمن تركها حفظ عرضه ودينه، ومن وقع فيها كان كالراعى إلى جنب الحِمَى أوشك أن يقع فيه. وليس مَلِكٌ إلا وله حِمًى. ألا وإن حِمَى الله محارمه. والمؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد: إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده. والسلام عليكم".
وهو أيضا يهاجم من يعدون سنة البخارى وغيره مصدرا من مصادر التشريع فى الاسلام متسائلا: هل يعقل أن تظل مصادر التشريع فى الإسلام ناقصة الى أن يأتى البخارى وغيره بعد موت النبى بقرون ليكملوها؟ وماذا نفعل بقوله تعالى: "اليوم أكملتُ لكم دينَكم، وأتممتُ عليكم نعمتى، ورَضِيتُ لكم الاسلام دينا"؟ فعنده أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد للتشريع، إلا أن المسلمين أضافوا له مصادر أخرى توسعت بها الفجوة بينهم وبين الاسلام. ومن بين تلك المصادر الأحاديث والسنن، وكلهم مختلفون فيها جزئيا وكليا. وعنده أن تلك الأحاديث ليست جزءا من الإسلام. وأولئك الذين يعدونها من الإسلام إنما يتهمون النبى عليه السلام بأنه لم يبلغ الدين كاملا وبأنه فرَّط فى تبليغ هذا الجزء.
هذا ما قاله أحمد صبحى منصور. والواقع أنه يتلاعب هنا بالكلمات، فنحن لا نؤمن بسنة البخارى ولا غير البخارى بل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التى جمعها ودونها هؤلاء الأفذاذ. وكانت تلك السنة موجودة منذ أيام النبى، ودوَّن بعض الصحابة أشياء منها، وكان المسلمون يحفظونها، ويلجأون إليها فى تشريعاتهم حين لا يجدون فى القرآن مبتغاهم وجودا مباشرا مثلما كانوا ولا يزالون يستخدمون عقولهم واستنتاجاتهم وقياساتهم عندما لا يجدون فى القرآن والحديث مبتغاهم وجودا مباشرا. وكل ما صنعه أصحاب كتب الحديث هو أنهم نقلوا أحاديث النبى من الصدور والأفواه والصحف إلى كتب ألفوها هم وبَوَّبُوها حتى تكون تحت يد من يريد فلا يضيع وقته فى البحث عنها ولا فى التحقق منها بدءا من نقطة الصفر. ترى هل يصح أن نقول إن الناس لم تكن تتنفس إلى أن صنف العلماء والأطباء كتبا فى الجهاز التنفسى والشهيق والزفير وشرحوا عملية التنفس؟ فكذلك الحال فى كتب الحديث.
أما قوله إن المسلمين يعدون ما كتبه البخارى وغيره هو السنة النبوية، ويدّعون أنها وحى من السماء رغم أن ذلك الوحى قد امتنع عن كتابته الرسول والخلفاء الراشدون وغير الراشدين إلى أن جاء بعض الناس كالبخارى وغيره فتطوعوا بدافع شخصى لتدوين تلك السنة، بما يعنى أن الإسلام ظل ناقصا إلى أن تقدم البخارى وغيره لإكماله فى عصور الفتن والاستبداد والانحلال، أما قوله هذا فهو قول متهافت لا يصمد أمام النظر العقلى. فأى دافع شخصى بعث البخارى أو غيره على تأليف "صحيحه" أو "مسنده" يا ترى؟ هل كان يريد ملكا أو مالا أو جاها؟ فكيف؟ إننا لا نقول إن كل ما جمعه البخارى أو غير البخارى فى كتابه صحيح مائة فى المائة، بل نقول إنهم قد بذلوا فى تلك السبيل جهودا عبقرية نبيلة نرجو أن يجازيهم الله عليها خير الجزاء. وهم لم يأتوا بتلك النصوص من عندياتهم بل جمعوا ما كان متداولا على الألسن أو محفوظا فى القلوب أو مثبتا فى الصحف ويعمل به المسلمون فى تصريف شؤونهم التشريعية والأخلاقية والسلوكية والعقيدية. إنهم، كما قلنا ونقول، لم ينشئوها من العدم، بل كانت موجودة، وكل ما صنعوه هو أنهم جمعوها وتحققوا من صحتها وبَوَّبُوها حتى يكون استعمالها سهلا ميسورا لمن يريد.
وهنا نراه يلجأ إلى اتهام البخارى بأنه أساء بأحاديثه تلك إلى مقام النبى الكريم، موردا حديثا يقرؤه بطريقته المريبة، زاعما أن البخارى يصور فيه الرسول عليه الصلاة والسلام بصورة من يريد اغتصاب امرأة من النساء، مع أن الحديث إنما يتكلم عن سيدة كان النبى قد خطبها وعقد عليها لكنه لم يكن قد دخل بها. وتصادف أن وصلت الزوجة المذكورة إلى النبى وهو فى بعض الطريق مع صحابته، وأُنْزِلَتْ فى بستان، فترك النبى أصحابه ليرى زوجته الجديدة، فما كان منها حين رأته يمد يده إليها إلا أن استعاذت بالله ظنا منها أن ذلك سيجعلها أحظى عنده حسبما أفهمها بعض زوجاته. فكان أن أجابها الرسول عليه الصلاة والسلام قائلا: عُذْتِ بمعاذ. أى أنت الآن فى حماية الله ما دمت قد استعذت به. ثم سرَّحها إلى أهلها تسريحا جميلا وأكرمها وأعطاها بعض المال تطييبا لخاطرها رغم انخداعها بما سمعت وتنفيذها له بالحرف مما لا يجعلها أهلا لأن تكون زوجة النبى. إن الحديث الذى استشهد به أحمد صبحى منصور على صحة اتهامه للبخارى هو حديث موجز لا يعطى الصورة كاملة كما شرحتها هنا، بيد أن الرجوع إلى روايات الحديث الأخرى من شأنه أن يجلِّى الصورة تجلية تامة ويوضح ما أراد منصور التعمية عليه ليصدّق القراء المتعجلون اتهامه المجحف للبخارى رضى الله عنه.
ومن الحجج التى يلجأ إليها أحمد صبحى منصور فى محاربته للحديث النبوى الشريف تفسيره العامى لقوله تعالى شأنه: "ما فرَّطنا فى الكتاب من شىء"، ولقوله سبحانه: "ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شىء"، متصورا أنه يمكنه الاستدلال به على وجوب استغناء المسلم بالقرآن عن كل شىء آخر. والحق أنه لو كان صادقا فى هذا الذى يقول لكان أولى به أن يمزق كتبه ومقالاته أيضا. أليس القرآن قد ذكر كل شىء، وبيّن كل شىء، ولم يفرط فى أى شىء؟ وهذا يذكِّرنى بالسؤال الذى كنا نسمعه فى صبانا من بعض العامة حولنا: "إذا كان القرآن فيه تبيان كل شىء فكيف لم يذكر عدد الأرغفة التى تنتجها أفران مصر على سبيل المثال؟". إننا لا نشاحّ فى أن القرآن قد بيّن كل شىء ولم يفرِّط فى ذكر أى شىء، ولكن بمعنى غير هذا المعنى العامى الساذج. إن القرآن كثيرا ما يكتفى برسم الخطوط العامة ثم يتركنا نستخلص منها ما نعالج به مشاكلنا التى تتجدد مع الأيام.
وقد كان الرسول هو أول من قام بتطبيق مبادئ القرآن واستخراج الأحكام التفصيلية من مبادئه وتشريعاته العامة وتطبيقها على الوقائع التى تستجد كل يوم، فكيف يُطْلَب منا أن نهمل ما تركه لنا الرسول الكريم على اعتبار أنه يتناقض مع إيماننا بالقرآن؟ أما قوله إن "النبى يوم القيامة سيعلن براءته من أولئك الذين تركوا كتاب الله وهجروه جريا وراء مصادر أخرى ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان: "وقال الرسول: يا ربِّ، إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوًّا من المجرمين، وكفى بربك هاديا ونصيرا" فهو تكرير للاتهامات الظالمة التى لا يَكِلّ ولا يَمَلّ من توجيهها لعلماء الحديث خاصة، والمسلمين عامة، إذ لا يوجد مسلم يستعيض بكتب الحديث عن كتاب الله، بل كل ما هناك أنها تساعدنا على فهم القرآن وتطبيقه على أحسن وجه ممكن بدلا من الانفلات فى أجواز الفضاء دون ضابط ولا رابط كما يفعل هو نفسه ومن على شاكلته. ثم هل يمكن أن يعلن النبىُّ براءتَه ممن يشهد له صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، ويقف مع من يكفِّر الذى يقول: "أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله"؟ وإذا كانت الشهادة لمحمد بالنبوة والرسالة كفرا وشركا وإثما، فما هى الشهادة يا ترى التى تُرْضِى اللهَ ورسولَه؟
وهو يؤكد، ونحن أيضا نؤكد معه، أن النبى صلى الله عليه وسلم هو المثال الأعلى فى الخلق والسلوك والعقل والفصاحة والدعوة والتخطيط والقيادة العسكرية والزعامة السياسية. لكننا نتساءل: ترى كيف تواتى المسلمَ الحقَّ نفسُه على إهمال ذلك التراث النبوى العظيم والبدء كل مرة من جديد دون محاولة الاستفادة من هذا التراث الذى يقول فيه منصور قصائد وَلْهَى ليستدير فيفاجئنا بأن علينا نبذه تماما، وإلا كنا مشركين كافرين؟ ثم إذا كان الوحى قد عاتبه عليه السلام فيما لم يوافقه عليه، وفى ذات الوقت لم يعترض على شىء مما وصلنا من أحاديثه وتصرفاته الشريفة الأخرى، أفلا يحق لنا أن نفهم أن هذه الأحاديث والتصرفات تحظى من القرآن بالرضا والقبول؟ ألا يرى القارئ أن منصور يتخبط تخبطا عنيفا ولا يستطيع أن يهتدى إلى الخروج من المأزق الذى أوقع نفسه فيه سبيلا؟
كذلك نراه يقول إن ما وصلنا من روايات الأحاديث النبوية فيه الصواب والخطأ. وتعليقنا عليه هو أن علماء الحديث، كما هو معروف، لم يقبلوا كل ما وصلهم من كلام أو فعل منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على أنهم قد بذلوا جهودا جبارة فى تمحيص سنته الكريمة، وإن كنا لا نستطيع الزعم بأن هذه الجهود العبقرية لا يخرّ منها الماء: فهناك أحاديث منسوبة للنبى ردها بعض العلماء، وهناك أحاديث أخرى لا يطمئن إليها القلب، بل منها ما لا يقتنع به العقل، لكن ذلك قليل بوجه عام. أما منصور فقد غالى فى الرفض مغالاة رهيبة ودعا إلى اطّراح الأحاديث النبوية جملة وتفصيلا.
والغريب أنه فى الوقت الذى يهاجم المحدّثين والأحاديث التى يروونها هجوما شديدا لا يُبْقِى ولا يَذَر نراه يعتمد عليهم ويصدّق رواياتهم تمام التصديق كلما ظن أنه يستطيع توظيفها فى الهجوم عليهم. ومن ذلك قوله: "ويؤكد أن النبى نَهَى عن كتابة غير القرآن أن الخلفاء الراشدين بعده ساروا على طريقه فنَهَوْا عن كتابة الأحاديث وعن روايتها: فأبو بكر الصدّيق جمع الناس بعد وفاة النبى فقال: "إنكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئا. فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحِلّوا حلاله، وحرِّموا حرامه"، وهذا ما يرويه الذهبى فى تذكرة الحفاظ. ويروى ابن عبد البر والبيهقى أن عُمَر الفاروق قال: "إنى كنت أريد أن أكتب السنن، وإنى ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله. وإنى والله لا أشوب كتاب الله بشىء أبدا. ورواية البيهقى: "لا أَلْبِس كتاب الله بشىء أبدا". وروى ابن عساكر قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، فقال: ما هذه الأحاديث التى أفشيتم عن رسول الله فى الآفاق؟ أقيموا عندى. لا والله لا تفارقونى ما عشت. فما فارقوه حتى مات".
ومنه كذلك قوله: "وعلماء الحديث يتفقون على صحة حديث "من كذب علىَّ فليتبوأ مقعده من النار"، وبعضهم يضيف إليه كلمة "متعمدا": "من كذب علىّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار". وهم يجعلون هذا الحديث من المتواتر، وعدد الحديث المتواتر لا يصل إلى بضعة أحاديث عند أكثر المتفائلين. والمهم أنهم، بإقرارهم بصحة هذا الحديث، يثبتون أن الكذب على النبى بدأ فى حياة النبى نفسه، وإلا ما قال النبى هذا الحديث يحذّر من الكذب عليه".
ومنه أيضا قوله: "وأكثرَ أبو هريرة من الحديث بعد وفاة عمر، إذ أصبح لا يخشى أحدا. وكان أبو هريرة يقول: إنى أحدثكم بأحاديث لو حدّثتُ بها زمن عمر لضربنى بالدِّرّة (وفى رواية: "لَشَجَّ رأسى"). ويروى الزهرى أن أبا هريرة كان يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: "قال رسول الله" حتى قُبِض عمر. ثم يقول أبو هريرة: أفكنتُ محدِّثَكم بهذه الأحاديث، وعُمَرُ حَى؟ أما والله إذن لأيقنت أن المِخْفَقَة (العصا) ستباشر ظهرى، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن، فإن القرآن كلام الله". والآن ما دام ينكر الأحاديث فلماذا يستعين بها لتعضيد رأيه، وهى مزيفة فى نظره ليس لها حقيقة؟
كما أنه، فى تفسيره للقرآن، لا يستطيع أن يقول شيئا ذا بال دون الاستعانة بالحديث. ولنأخذ مثلا ما قاله فى أخلاق النبى عليه السلام إذ وصفه المولى سبحانه بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم"، فقد أضاف أنه صلى الله عليه وسلم "كان خلقه القرآن". وهذا الكلام لم يرد فى القرآن، بل هو من كلام عائشة رضى الله عنها، وقد أوردته لنا الأحاديث النبوية. ومن ذلك أيضا ما كتبه بشأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة، إذ يقول: "والنبى كان عليه أن ينفذ سُنّة الله، أى شرع الله وأوامره، حتى لو كان فيها حرج. وقد نزلت آية "ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له. سُنّةَ الله فى الذين خَلَوْا من قبل، وكان أمر الله قدرا مقدورا" فى موضوع زيد بن حارثة وزواجه وطلاقه من زوجته...". والسؤال هو: كيف عرف منصور أن الكلام فى الآية عن زينب، وأن زيدا هو زيد بن حارثة، وليس زيدا آخر؟ ذلك أن الآية لم تذكر إلا اسم "زيد" وحده دون اسم أبيه، وكذلك دون اسم زوجته التى أصبحت طليقته. الواقع أنْ ليس هناك من مصدر لهذا إلا الأحاديث، فكيف أصبحت الأحاديث هنا شيئا موثوقا به بعد أن قال فيها ما قال؟
قد يقول إن القرآن يحدد زيدا بأنه من "أدعيائكم"، لكنْ مرة أخرى: من أين نعرف أن زيدا كان دَعِىّ النبى عليه السلام (أى ابنه بالتَّبَنِّى) إلا من الأحاديث النبوية؟ قد يقول: لكن هذا تاريخ، ونحن نُعْمِل عقولنا فى روايات التاريخ فنقبل ما تطمئن إليه ونرد ما سواه. وهذا هو ما أريد أن أُفْهِمه إياه من الصبح: أن نُعْمِل عقولنا فى الأحاديث، لكن بشرط أن نحترم منطق العقل ومنهج العلم وأن نقلّب الأمر على كل وجوهه وأن نتريث قبل إصدار الأحكام وأن ننظر جيدا فيما يقوله الآخرون، وبخاصةٍ من يخالفوننا فى الرأى، وهو ما لم يدخر فيه المحدّثون وسعا، وإن لم يمنع هذا من وجوب إضافة المزيد من الجهود فى هذا السبيل. أما نبذ الأحاديث جملة وتفصيلا عن جهل واندفاع فهو عمل أخرق.
وهذا مثال آخر على أن منصور نفسه، رغم كل الطنطنات والتطاولات على المحدّثين والأحاديث، لا يستطيع أن يتقدم فِتْرًا فى تفسير القرآن دون الاستعانة بها وبهم، مع أنه يؤكد أننا، فى فهمنا للقرآن، لسنا بحاجة على الإطلاق إلى الاستعانة بالحديث أو بغيره، فقد كتب فى تفسير الآيات 105- 113 من سورة "النساء" ما يلى: "وباعتبار النبى بشرا فقد استطاع بعض المنافقين أن يخدعه. حدث ذلك حين سرق أحدهم درعا، وشاع بين الناس أمره، وأحس أهل اللص بالعار مما ارتكبه ابنهم فتآمروا بالليل على أن يضعوا الدرع المسروق فى بيت شخص يهودى برىء. وفى الصباح جاءوا للنبى يبرئون ساحة ابنهم المظلوم. وانخدع النبى وصدّقهم ودافع عن ابنهم، وبذلك أصبح اللص بريئا، وأصبح البرىء لصا. وهى قصة تتكرر فى كل زمان ومكان مُوجَزها أن ينجو المجرم صاحب النفوذ وأن يدخل البرىء السجن ظلما. والقرآن الكريم ذكر القصة وحوّلها من حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان والأشخاص إلى قضية إنسانية عامة تتكرر فى كل عصر. وفى البداية عاتب الله تعالى النبى ووجّه نظره إلى أن يحكم بالكتاب وحذّره من أن يكون مدافعا عن الخائنين: "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما". أى أنزل الكتاب الحق ليحكم بين الناس بما أراه الله فى ذلك الكتاب، فالاحتكام للكتاب. ولأنه نسى فقد جاء الأمر بالاستغفار: "واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما"، ثم جاءه النهى عن الدفاع عن أولئك الخونة الذين تآمروا لتبرئة المجرم واتهام البرىء: "ولا تجادلْ عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيما * يَسْتَخْفُون من الناس ولا يَسْتَخْفُون من الله وهو معهم، إذ يبيّتون ما لا يَرْضَى من القول. وكان الله بما يعملون محيطا".
والسؤال هو: من أين له بأن الآيات نزلت فى أحد اللصوص، وأن هذا اللص قد سرق درعا، وأن أهله لما أحسوا أن أمره سينفضح ذهبوا فوضعوا الدرع فى بيت يهودى... إلخ؟ ترى هل هناك من مصدر آخر اعتمد عليه أحمد صبحى منصور هنا عدا الحديث؟ أما قوله إننا، فى فهمنا للقرآن الكريم، لا نحتاج إلى أى شىء آخر خارج نصوصه، وإن "كتاب الله هو الكتاب المبين بذاته، وآياته موصوفة بالبينات، أى التى لا تحتاج فى تبيينها إلا لمجرد القراءة والتلاوة والتفكر والتدبر فيها. والذى جعل الكتاب مبينا وجعل آياته بينات هو رب العزة القائل: "بعدما بيَّنّاه للناس فى الكتاب"، والقائل عن كتابه: "ولقد يَسَّرْنا القرآن للذِّكْر، فهل من مُدَّكِر؟"، "فإنما يسَّرناه بلسانك لتبشِّر به المتقين وتُنْذِر به قومًا لُدًّا، "فإنما يسَّرناه بلسانك لعلهم يتذكرون"، أما قوله هذا فجهل فاحش، فمعروف أن أى نص يحتاج إلى وسائل تعين على فهمه، كالمعرفة باللغة التى ينتمى إليها، والمعرفة بالمعجم الخاص به، والمعرفة بالظروف التى كُتِب أو سُجِّل أو أُوحِىَ فيها، والمعرفة بالمصدر الذى جاء منه... إلخ. والقول بغير هذا هو كلام لا يستحق أن نصغى آذاننا له. ولقد رأينا كيف أن منصور نفسه لم يستطع أن يفهم الآيات القرآنية إلا بالاستعانة بأسباب النزول، وهى جزء من الأحاديث النبوية.
وهو يرى أن أحاديث رسول الله وتصرفاته إنما هى انعكاس لثقافات عصره وبيئته يمكن ألا تتفق مع القرآن ولا ينبغى أن نُولِيَها أى اعتبار، وهو ما كنت سمعته من مستشرق أمريكى أتى إلى كلية الآداب بجامعة عين شمس فى ثمانينات القرن المنصرم، ودار بينى وبينه حوار على الماشى قبل الندوة التى حاضر فيها الطلابَ فى أحد المدرجات. وهذا نص ما قاله منصور: "ونحن، وإن كنا نعتبر القرآن هو المصدر الوحيد لسنة النبى وشريعة الرحمن ودين الله الأعلى، فإننا نضع تلك الروايات الحديثية موضعها الصحيح، وهى أنها تاريخ بشرى للنبى وللمسلمين وصدًى لثقافتهم وأفكارهم سواء اتفقت أم لم تتفق مع القرآن". معنى ذلك ببساطة أن كلامه هو التفسير الصحيح للقرآن، ولا يمكن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته، أما فهم الرسول للقرآن فمن الممكن ألا يتفق مع كتاب الله لأنه لا يزيد عن أن يكون انعكاسا لثقافة عصره وبيئته! ومن هنا نراه يقول إنه لا ينبغى أن نتأسى بالرسول إلا فى كتاب الله، وكأن الرسول يمكن أن يتصرف أو يقول شيئا يخالف فيه كتاب الله! وهذا نص كلامه: "إن الاقتداء والتأسى يعنى الاتِّباع، ولا يكون الاقتداء والتأسى على إطلاقه إلا بكتاب الله. والله تعالى كما أمرنا بالتأسى برسول الله محمد فى موقف معين فإنه أمر النبى نفسه بالاقتداء بهدى الأنبياء السابقين فقال: "أولئك الذين هدى اللهُ فبِهُداهُم اقْتَدِهْ"، فلم يقل تعالى: "فبِهِم اقْتَدِهْ"، وإنما قال: فبِهُدَاهم اقْتَدِهْ".
أما الصلاة والزكاة والصيام، وهذه الشعائر مجرد أمثلة، فإن أحدا لا يستطيع أن يؤديها دون الاستعانة بالسنة النبوية المشرفة. لنأخذ مثلا نسبة الزكاة فى الإسلام، فهى لم ترد فى القرآن بل فى الأحاديث الشريفة. كما زعم أن الصلاة على النحو الذى نؤديها به الآن فى الإسلام قد انحدرت إلينا من ديانة إبراهيم. يريد أن يقول إنه ليس للسُّنّة المحمدية فضل فى هذا. لكن لو كان الأمر كما يقول لكان معناه أن الجاهليين كانوا يصلّون بصلاتنا ويقرأون فيها بقرآننا ويصلّون على نبينا قبل أن ينزل القرآن من السماء ويُبْعَث محمد عليه السلام بدين جديد. فهل هذا مما يعقله العاقلون؟ هل كان إبراهيم عليه السلام مثلا يقرأ الفاتحة وآيات القرآن مثلما نفعل الآن... إلخ؟ بل هل كان العرب الجاهليون يعرفون الصلاة أصلا بهذا المعنى؟ لقد كانت الصلاة فى حياة العرب آنذاك تعنى الدعاء مطلقا، أما الأفعال والأقوال على تلك الهيئة المخصوصة التى نطلق عليها فى دين محمد: "الصلاة" فلم يكونوا يعرفونها، وإلا لجاءت فى الشِّعْر الجاهلى بهذا المعنى.
ثم إن هناك آيات قرآنية لا يمكن فهمها، أو لا يمكن فهمها فهما سليما أو دقيقا، إلا إذا عُرِفَ سبب نزولها مما ذكرته الأحاديث، وإن لم ندّع لهذه الروايات العصمة دائما. ونضرب على ما نقول الأمثلة التالية، وقد اعتمدتُ فيها على كتاب "أسباب النزول" للواحدى النيسابورى: ففى الآية 104 من سورة "البقرة" نقرأ قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، لا تقولوا: راعِنَا، وقولوا: انْظُرْنا..."، فكيف يا ترى يمكن أن نفهم ما فيها من الأمر والنهى دون أن نعرف ما جاء فى سبب نزولها مما هو مرتبط بسيرة النبى عليه السلام وأحاديثه؟ "قال ابن عباس فى رواية عطاء: وذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها (أى يستعملون فى تخاطبهم كلمة "راعنا")، فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبى صلى الله عليه وسلم أعجبهم ذلك، وكان "رَاعِنَا" فى كلام اليهود سبًّا قبيحًا، فقالوا: إنا كنا نسبّ محمدًا سرًّا. فالآن أَعْلِنوا السبّ لمحمد لأنه من كلامهم. فكانوا يأتون نبى الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد، رَاعِنَا. ويضحكون، ففطن بها رجل من الأنصار، وهو سعد بن عبادة، وكان عارفا بلغة اليهود، وقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله! والذى نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربن عنقه. فقالوا: ألستم تقولونها له؟ فأنـزل الله تعالى: يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنوا لا تَقولوا: رَاعِنَا... الآية". ولزيادة الأمر إيضاحا أذكر أنى قرأت منذ فترة أن الكلمة فى العبرية مأخوذة من "الرعونة". ومن هنا نهى الله سبحانه المسلمين عن استعمالها فى خطابهم لسيد الأنبياء والمرسلين حتى لا يعطوا الأوغاد فرصة للسخرية منه ومنهم بخباثتهم وقلة أدبهم المعروفة عنهم.
كذلك كيف يمكن فهم قوله تعالى فى الآية 187 من ذات السورة: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" دون أن نطلع على الرواية الخاصة بسبب نزولها حتى لا نصنع كما كان بعض الصحابة يصنعون فى البداية؟ وهذا نصها: "أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد قال: أخبرنا جدى قال: أخبرنا أبو عمرو الحيرى قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا ابن أبى مريم قال: أخبرنا أبو غسان قال: حدثنى أبو حازم عن سهل بن سعد قال: نـزلت هذه الآية: "وَكلوا وَاشْرَبوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكم الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَد"ِ ولم ينزل "مِنَ الْفَجْرِ". وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فى رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك "مِنَ الْفَجْرِ"، فعلموا أنه أنما يعنى بذلك الليل والنهار. رواه البخارى عن ابن أبى مريم، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن أبى مريم".
وبالمثل كيف يمكن فهم قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كَرْهًا..." (النساء/ 19) دون أن نعرف أن الميراث هنا ليس أن نرث ما تركه هؤلاء النسوة من مال، بل أن يرثهن الرجل أنفسهن كأنهن متاع حسبما وضّحت الرواية التالية؟ "قال المفسرون: كان أهل المدينة فى الجاهلية وفى أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره. فإن شاء أن يتزوّجها بغير صداق إلا الصداق الذى أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلها وضارّها لتفتدى منه بما ورثت من الميت أو تموت هى فيرثها. فتوفى أبو قيس بن الأسلت الأنصارى وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية، فقام ابن له من غيرها يقال له: حصن (وقال مقاتل: اسمه قيس بن أبى قيس)، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها: يضارّها لتفتدى منه بمالها. فأتت كبيشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبا قيس توفى، وورث ابنه نكاحى. وقد أضرّ بى وطوَّل على، فلا هو ينفق على ولا يدخل بى ولا هو يخلِّى سبيلى. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقعدى فى بيتك حتى يأتى فيك أمر الله. قال: فانصرفتْ وسمعت بذلك النساء فى المدينة، فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: ما نحن إلا كهيئة كبيشة، غير أنه لم ينكحنا الأبناء، ونَكَحَنا بنو العم. فأنزل الله تعالى هذه الآية".
وإلى القارئ هذا المثال كذلك من رواية "جونتانامو" للدكتور يوسف زيدان، إذ يفسر قوله تعالى: "وإن خفتم ألا تُقْسِطوا فى اليتامى فانْكِحوا ما طاب لكم من النساء مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاع..." على أساس أن المقصود هو أمر الله لكافل اليتيمات بالزواج من واحدة منهن إلى أربع، متجاهلا سبب نزول الآية، الذى يبين أن معناها هو العكس تماما مما يقول: فعن "عروة بن الزبير أنه سأل عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم عن قول الله تبارك وتعالى: "وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فى الْيَتَامَى فَانْكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ من النِّسَاءِ...". قالت: يا ابن أختى، هذه اليتيمة تكون فـى حجر وليها تشاركه فـى ماله، فـيعجبه مالها وجمالها، فـيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقْسِط فـى صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سُنَّتِهنّ فـى الصداق، وأُمِرُوا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن"، بمعنى "اتركوهنّ، فقد أحللت لكم أربعا من غيرهن". ولو كان المعنى كما زعم د. زيدان لقال سبحانه: "فانكحوا ما طاب لكم منهن (أى من اليتيمات) مثنى وثلاث ورباع". ذلك أن الله أراد أن يبعد الكفلاء عن اليتيمات اللاتى كانوا يكفلونهن ويطمعون فى أموالهن، ومن ثم يريدون الزواج منهن حتى تكون تلك الأموال تحت تصرفهم وحتى لا يدفعوا فيهن مهرا كبيرا، لا أنه يريد منهم أن يتزوجوهن. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما يدعو إليه بعض النقاد الحداثيين من الدخول إلى النص مباشرة دون أن نلقى بالا لأى شىء خارجه من حياة صاحبه أو ظروفه أو السياق الذى كتب فيه ما كتب، وبالنسبة للقرآن ألا نرجع إلى أسباب النزول ولغة العرب وأسلوب الكتاب العزيز وتفسيرات المفسرين... إلخ بحيث يستطيع الكاتب أن يقول ما يريد تمريره من أفكار خطيرة دون معقِّب. كذلك فمقتضى كلام زيدان أنه، لو كان فى كفالة الرجل أربع يتيمات أخوات، وهذا طبعا ممكن جدا، فمن حقه التزوج بهن جميعا. وهذا يناقض ما يقول به الإسلام، الذى يحرم الجمع بين أختين اثنتين، فما بالنا بأربع؟
ثم ما الذى فى الأحاديث التى قالها النبى صلى الله عليه وسلم فعلا مما يمكن أن يكون مناقضا للقرآن أو يؤدى بمن يصدّقه ويعمل على احتذائه إلى البوار؟ ترى ماذا فى الحديث الذى ينص على أن العلماء هم ورثة الأنبياء، أو الحديث الذى يؤكد أن فضل العالم على العابد كفضل البدر على سائر الكواكب، أو الحديث الذى يقول إن مداد العلماء يُوزَن بدماء الشهداء، أو ذلك الذى ينبئنا بأن إماطة الأذى عن الطريق أو أن تبسُّم الواحد منا فى وجه أخيه صدقة، أو ذلك الذى يستحثنا على التفكير المستقل القائم على أساس المنطق والعقل والإحاطة بالموضوع من كل أطرافه والتعمق فيه، ويبشّرنا بما لا وجود له فى أى نظام تربوى أو فلسفى أو سياسى من أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ فى اجتهاده، أو الذى ينبهنا فيه عليه السلام إلى أن الصدقة فى السر تطفئ غضب الرب، أو أن اليد الخشنة من أثر العمل والكدّ هى يد يحبها الله ورسوله، أو أن العين التى بكتْ من خشية الله أو باتت تحرس فى سبيل الله لا تَمَسّها النار أبدا، أو أن من رُزِق من البنات ولو بواحدة فأحسن تربيتها وزوّجها دخل الجنة، أو أن الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه، أو أن السِّقْط يأخذ بيد أبويه فى موقف الحساب ويراغم ربه حتى يُدْخِلهما الجنة، أو أن أحق الناس بصحبة الابن هى أمه ثم أمه ثم أمه ثم أبوه، أو أن معاشرة الرجل لزوجته حسنة من الحسنات يُؤْجَر عليها من الله وليست مجرد شهوة تُشْبَع، أو أن إتباع السيئة الحسنة يمحوها فلا يحاسَب الإنسان عليها، أو أنه سبحانه قد رفع عنا السهو والنسيان وما استُكْرِهْنا عليه،