authentication required

حلقة جديدة أخرى من كتابى: "من كُتّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد: محطات على مسيرتى الروحية"
إبراهيم عوض

وحدث، خلال السنة الأخيرة لى بالمرحلة الثانوية وطنطا، أن أعلن التلفاز عن لقاء بين د.طه حسين ولفيف من الأدباء والكتاب، فحرصت على أن أشاهده. وبالفعل شاهدته عند صديقى المرحوم أحمد الزاهد، واستمتعت برؤية الدكتور طه وبأسئلة الكُتَّاب له وردوده عليها وقوله: "لا تَعْنُفُوا بالبيت"، وأعجبتنى هذه العبارة كثيرا وأخذت أفكر فى الفعل الموجود فيها من ناحية وزنه الصرفى... ولفت نظرى بوجه خاص قوله إنه لم يفهم عبقريات العقاد، مما أثار زملائى الذين كانوا يشاهدون معنا اللقاء وسائر طلاب مصر على كتاب "عبقرية الصديق"، الذى كان مقررا علينا فى مادة اللغة العربية ذلك العام. وكان منطقهم أن طه حسين قد أعلن بكل صراحة ووضوح أنه لا يفهم العبقريات، فكيف يقررون علينا واحدة منها، ونحن لسنا طه حسين؟ وعبثا شرحت لهم ما فهمته من أن طه حسين لا يقصد المعنى الظاهرى، بل يريد أن يقول إنه لا يوافق العقاد على غايته من كتابة العبقريات ولا يوافق على ما فيها من آراء. ومن المؤكد أننى كنت قرأت قبل ذلك "عبقرية محمد"، وربما قرأت أيضا ما كتبه طه حسين عنها من أنه لا يفهم معنى المقارنة بين النبى عليه الصلاة والسلام وبين نابليون من ناحية القيادة العسكرية ووضع الخطط الحربية، إذ رأى طه حسين أن اختلاف الظروف بين طَرَفَىِ المقارنة لا تسمح بعقدها، فأين عصر نابليون والحروب التى خاضها والخطط التى كانت متبعة فيها من الرسول وعصره وحروبه؟ إلا أن الطلاب فى أنحاء الجمهورية كانوا قد وجدوا مناحة يشبعون فيها لطما. 
وأذكر بهذه المناسبة أن أنيس منصور قد كتب عقب هذا اللقاء مقالا يهاجم فيه طه حسين على لمزه للعقاد قرأته فى مسجد المنشاوى بطنطا حيث كنت أستذكر دروسى ظهر اليوم التالى إذا صحت ذاكرتى. والطريف أن أنيس منصور عاد بعد فترة فأخذ يثنى على طه حسين وعلى أستاذيته العطوف المتفهمة ووضوح فكرته وما إلى ذلك مما يجرى على العكس من هجومه المذكور على الرجل. ومع هذا فقد ظل يُكْبِر العقاد ويذكر مفاخره حتى لقد كتب كتابا كبيرا جدا عن تطوره هو فى دنيا الفكر والثقافة جعل منطلقه صالون العقاد. أقصد كتابه: "فى صالون العقاد كانت لنا أيام"، الذى تحدث فيه عن نفسه أكثر مما تحدث عن عملاق الفكر والأدب العربى.
وفى ذلك العام أيضا بدأت أكتب قصة قصيرة استوحيتها من فتاة متعلمة فى سننا كنت أسمع عنها من بعيد، لكنى لم أجد نفسى فى هذا اللون من الكتابة إذ أردت أن أصور عبثها واستهتارها مما لم أكن مهيأ له لبعدى عن عالم البنات والنساء العابثات وجهلى به وشعورى من ثم أن ما أكتبه عن عبث الفتاة ولهوها مع الشبان وتلاعبها بعواطفهم وغرورها المهلك هو كلامٌ متكلَّفٌ غير صادر عن خبرة وتجربة، فتركت القصة بعد صفحتين أو نحو ذلك. وكنت فى السنة الأولى الثانوية قد كتبت قصة أقلد فيها قصص أجاثا كريستى البوليسية، تلك القصص التى تختلف عن سائر شبيهاتها من قصص الجرائم فى أنها لا تقوم على الإثارة والمطاردة وحيل المجرمين فى الإفلات من تعقب الشرطة لهم، بل على الذكاء وتعمية القاتل استفزازا لعقل القراء كى ينهض وينشط ويحاول معرفة المجرم، الذى لم أفلح إلا مرة واحدة يتيمة فى تخمينه على كثرة ما قرأت لها من روايات وأقاصيص فى هذا الصدد. وبطبيعة الحال قد ضاعت تلك القصة مع ما ضاع من أشيائى فى تلك الفترة وما تلاها، وما أكثر ما ضاع من تلك الأشياء!
ولكن هل فى تلك الفترة اقتنيت تفسير محمد فريد وجدى الميسر؟ أم هل كان ذلك فى فترة لاحقة عندما ذهبت إلى القاهرة؟ لا أدرى. كل ما أذكره أننى عكفت على ذلك التفسير فقرأته، وقد أكون قرأته مرتين، وكنت سعيدا غاية السعادة أننى أطالع تفسير القرآن الكريم كاملا. لقد كتب الرجل تفسيره ذاك بأسلوب بسيط أقرب ما يكون لأسلوب الصحافة، مع شرح الكلمات التى تحتاج شرحا، فضلا عن إيراده أسباب النزول فى مواضعها، وفى وسط كل ذلك صفحة المصحف التى فيها النص المفسَّر. والآن كلما رأيت مع الطلبة أو الطالبات مصحفا يقرأون فيه أنبههم إلى أن قراءة القرآن هكذا لا تؤدى الغرض المطلوب، إذ ليس المقصود أن أتلفظ بكلماته، بل المقصود أن أفهمه، وهذا لن يتأتى إلا إذا عرفتُ أولا معانى تلك الكلمات، وقرأت تفسيرا له، مبسطا أول الأمر ثم موسعا بعد ذلك حسب ظروف كل شخص وغايته من قراءة التفسير. كما قرأت فى تلك الفترة تفسير جزء "عَمَّ" للشيخ محمد عبده، وتفسير جزء "تبارك" للشيخ عبد القادر المغربى السورى. وهكذا تعرفت إلى عظمة الإسلام وجماله من خلال العقاد ومحمد عبده وشلتوت ومن فى مستواهم. وهذه منة جليلة من الله سبحانه وتعالى لا أستطيع تأدية شكرها. وكان معى فى تلك الفترة معجم "مختار الصحاح"، أعطانيه طالب أزهرى كان قد أخذه من ابن عمه الذى يدرس فى مدرسة المعلمين بطنطا. وكنت سعيدا باقتنائى إياه سعادة عظمى، وكأنى قد ملكت اللغة العربية كلها فى يدى. إلا أننى لاحظت أننى لا أجد كثيرا من الكلمات فيه ولا فى معجم "المصباح المنير"، وبخاصة الكلمات الحديثة، غير متنبه إلى أن هذين المعجمين هما معجمان صغيران جدا أُلِّفا للطلاب المبتدئين منذ عدة قرون. لكن كان استعمالى لهذين المعجمين مع ذلك خطوة مهمة أشد الأهمية، وكان تعاملى معهما سهلا لمعرفتى الجيدة بالصرف ومقدرتى، بطريقة أو بأخرى، على تجريد أية كلمة من أحرف الزيادة واستطاعتى العثور عليها فى المعجم ومعرفتى لمعناها. 
أما الآن فنادرا ما يستطيع طالب أن يكشف فى المعجم عن أية كلمة، وذلك إن بدا له أصلا أن يفكر فى هذا الأمر، إذ هو لا يقرأ، وإذا قرأ فليست عايته الفهم بل الحفظ من أجل الامتحان لأنه لا يقرأ إلا الكتاب المقرر، بل فى كثير من الأحيان لا يقرأ ولا حتى الكتاب المقرر مكتفيا بالملخصات والمذكرات. ودعك من أن كثيرا منهم يعجز عن كتابة الكلمات كتابة صحيحة أو يفهم من أين جاءت وإلى أين تمضى. وما زلت أذكر كيف أتتنى منذ سنتين طالبة متفوقة فى السنة الرابعة بقسم اللغة العربية قائلة لى إنها لم تستطع أن تجد معنى كلمة "أَلْفَى"، التى أستخدمها كثيرا فى كتبى بدلا من "وَجَدَ"، وكانت قد سألتنى عن معناها كعادة الطلبة فى مثل هذه الحالة إذ لا يخطر ببالهم أبدا أن هناك شيئا اسمه المعاجم، وكل ما يفهمونه هو أن الدكتور على علم بكل شىء، فأحلتها على المعجم كى تعتمد على نفسها فى فهم ما يُشْكِل عليها من ألفاظ وعبارات. ثم أَرْدَفَتْ أنها لم تجد فى المعجم إلا أنها حرف من حروف اللغة اليونانية، فعَرَفْتُ أنها تقصد "ألفا باتا جاما دلتا". ومن الواضح أن السبب عجزها عن التمييز بين "أَلْفَى" فعلا عربيا مزيدا بهمزة، وبين "أَلْفَا" حرفا من حروف الأبجدية اليونانية. فإذا كان هذا هو مستوى طالبة ذكية كنت أشجعها هى وأمثالها بالكتب والفلوس كى تحب القراءة، وأحبتها فعلا، وكنتُ مسرورا بما تبديه من تقدم فى هذا المضمار، فما بالنا بسائر الطلاب ممن لا اهتمام عندهم بعلم ولا ثقافة، وكثيرٌ ما هم؟ 
وأنا هنا لا أحاول النيل من ذكاء طلاب هذا الجيل، فلا أظن أنهم يقلون عن جيلنا فى ذكائهم، بل لا بد أن يكون فيهم من يتفوقون علىَّ وعلى أمثالى فى ذلك. كل ما هنالك أنهم لم يَتَلَقَّوْا تعليما جيدا فى المدارس منذ الطفولة، بل إنهم فى السنة الثانية والثالثة الثانوية بتشجيع من مدرسيهم لا يذهبون إلى المدرسة أصلا، والبركة فى السناتر (أى مراكز الدروس الخصوصية التى تُدِرّ على الأستاذ الواحد فى اليوم الواحد بضعة عشر ألفا من الجنيهات وأكثر من ذلك فى كثير من الحالات)، ولا يجدون من الأمل ما يغريهم بالتعلم والقراءة وتحصيل أسباب الثقافة، إذ لا تنتظرهم بعد التخرج وظيفة يكسبون منها ما يطعمهم ويكسوهم ويوفر لهم المسكن ويساعدهم على إكمال نصف دينهم... وهكذا. ولو حدث أَنْ وجد أحدهم وظيفة كان المرتب ضئيلا لا يطعم عصفورا، مع أن أقل مرتب يمكن أن يكفى هذه الأيام شابا فى مقتبل عمره هو ألف وخمسمائة جنيه، على أن توفر له الدولة والمجتمع مسكنا إنسانيا يعيش فيه بأجر معقول. ولا ننس أن المجتمع كله تقريبا فى الوقت الحالى لا يقبل على القراءة، ولا يبالى بشؤون الثقافة والمعرفة والذوق السليم، ولا يقيم وزنا لقيمة الجمال للأسف الشديد، وما الطلاب إلا نبتة ذلك المجتمع، وهو ما يجعلنى أقيم لهم العذر، وإن كنت فى ذات الوقت أذكّرهم بأن إسلامهم يوجب عليهم حب المعرفة والاجتهاد بكل وسيلة فى تحصيلها مهما تكن ظروفهم وأحوال مجتمعهم، وأنه إذا جاز أن يهمل المتدين غير المسلم أمور المعرفة والذوق الجميل فإن هذا لا يجوز للمسلم بحال لأنه جزء من دينه لا يتجزأ، وسوف يكون محل حساب وثواب وعقاب. 
أما ترك الأمور هكذا فلن يكون له من ثمرة غير استمرار التخلف والضياع الذى تعيشه البلاد مهما حاولنا مع طلابنا فى الجامعة، إذ الكثير منهم يأتون إلينا وهم لا يصلحون تقريبا لأى شىء ذى بال، إلا إذا أعيد تأهيلهم فى مقررات المرحلة الابتدائية فصاعدا من جديد لأنهم لا يستطيعون أن يكوّنوا جملة واحدة سليمة، بَلْهَ أن الأغلبية منهم لا يمكنها الكتابة الإملائية الصحيحة أبدا، وأن عقولهم فاضية مما هو مفيد، إذ لا يقرأون ولا يعرفون الطريق إلى الكتاب ولا يجدون فى أنفسهم رغبة فى ذلك بَتَّةً. أما فيما لا يفيد فتراهم يسبقون شياطين عبقر ذاتها فى الألمعية واللوذعية بأشواط شاسعة، بخلاف ما لو كلفتَهم بشىء نافع فى ميدان العلم إذ ترى الواحد منهم وقد "بَلَّطَ فى الخَطّ" لا يَرِيم مكانه ولا يتحرك إلى الأمام خطوة واحدة.
وكانت رحلة الأقصر وأسوان التى اشتركت فيها مع بعض زملائى من طلاب الثانوية العامة حدثا هاما. لقد استقللنا القطار من طنطا وقضينا على متنه ساعات طوالا فى الذهاب ومثلها فى الإياب، ونمنا فيه وقمنا، وراقبت الشمس وهى تشرق وأنا أحاول الوضوء فلا أستطيعه لعدم وجود الماء فى دورات القطار. ولا أذكر الآن أكنت أتيمم أم أترك الشمس تطلع دون صلاة الصبح فى ميعاده انتظارا لتوافر الماء. وفى تلك الرحلة عرفنا على الطبيعة أشياء مهمة جدا عن تاريخنا الفرعونى وما خلَّفه من آثار ومعابد وتماثيل وما يرتبط به من عقائد وأفكار وشخصيات تاريخية، وكذلك عن السد العالى، الذى كان العمل فيه لا يزال يجرى على قدم وساق آنئذ. كما اطلعت من كَثَبٍ على بعض مدن الصعيد، وكذلك بعض قراه التى كنا نشاهدها من نوافذ القطار، فضلا عن تنبهى إلى ضيق الوادى بطول نهر النيل بدءا من جنوب القاهرة تقريبا على عكس الحال فى الدلتا، التى تُوهِمُنا أن مصر كلها أرض خضراء، على حين أن المسكون والمزروع منها كله لا يبلغ نسبة الخمسة بالمائة من مساحتها. وكان الطلبة الكبار (كبار الأجسام غير المعروفين بالبراعة فى الدراسة) يقضون الوقت فى لعب الورق وما أشبه فى طرقات القطار، وأحيانا ما يناوشون الأساتذة ببعض الكلام غير المباشر، فيتجاهل هؤلاء ما يسمعون من المناوشة. وهو، والحق يقال، لا يعد شيئا بمقاييس هذه الأيام. 
ومما علق فى ذهنى من هذه الرحلة أننى جلست فى بعض الطريق مع أستاذ من أساتذة اللغة العربية أخذ يسألنى بعض الأسئلة اللغوية من مثل معنى كلمة "أسوان"، فأجبته فسُرَّ بى وأثنى علىَّ، وهو ما رفع معنوياتى بطبيعة الحال. ولست أذكر أننى رأيت ذلك الأستاذ بعد ذلك، وأغلب الظن أنه كان من مدرسة أخرى غير مدرستى. وكنت أصلى فى آخر العربة بعيدا عن المقاعد بين زملائى الذين كانوا يفترشون الأرض. ورغم أن العربة كانت مقصورة علينا نحن الطلاب فقد كان بعض الزملاء يهتبل توقف القطار ويثيرون المشاكل مع بياعى القصب الصعايدة على الرصيف. وأستغرب أنا هذا الحرص على إثارة المشاكل، وبخاصة مع أهل الصعيد المشهورين بالتهاب مشاعرهم وعدم تسامحهم مع أية إهانة تلحق بهم، وأخاف من انفجار معركة قد تخرج عن السيطرة. ولكن كان الله يسلم دائما. 
وفى هذه الرحلة أيضا رأيت بعض السائحات فى الأقصر يلبسن البنطلونات، فكانت هذه أول مرة أرى ذلك فى الواقع لا فى السينما. ثم رأينا بعد ذلك أيام الجامعة بعض المضيفات الباكستانيات فى شارع سليمان وقد ارتدين سرواويلَ فضفاضةً وسُتَرًا طويلة وأغطيةَ رأسٍ أنيقةً، فقلنا: هذا ملبس إسلامى وعصرى وأنيق فى ذات الوقت. وكان اكتشافا رائعا بالنسبة لنا. والآن ها هن أولاء الفتيات والنسوة المسلمات فى كل مكان يرتدين البنطال، وإن كان كثيرات من مستعمِلاته يخترنه محزقا، وأحيانا محزقا جدا. ولكنى أقول فى نفسى مع ذلك إنه أفضل من العرى الصريح، عرى الميكروجيب والبلوزات الكاشفة الصدر العديمة الأكمام. ثم إن الغالبية الآن من الجنس اللطيف يصلين، وإن كان تدينهن، وتدين كثير من الرجال معهن، يقف عند الصلاة والصيام، والحجاب (بالنسبة لهن) واللحية (بالنسبة للرجال)، ثم لا شىء ذا أهمية بعد هذا، وهو ما يجرد الإسلام من أعظم مزاياه، وهو أنه دين حضارى، بل هو الدين الحضارى الأوحد، إذ يُحِلّ العلم والعمل والإبداع والذوق الجميل والنظام والتخطيط والتضامن الاجتماعى ومد يد المساعدة للفقراء العاجزين والمحرومين المظلومين أرفع مكان فى الوقت الذى لا يُولِِى كثير من المسلمين شيئًا من ذلك اهتماما. لكنى أعود رغم هذا فأقول: شىء أفضل من لاشىء. ولخيرٌ للمسلمين أن يرتبطوا بدينهم ولو بشعرة معاوية من أن ينفلتوا من كل صلة لهم به، لكن على أمل أن يفهموا دينهم يوما من الأيام نرجو أن يكون قريبا، وإلا فعلى الدنيا والذوق والفهم والعزة والكرامة العَفَاء.
وقد انتهت الرحلة ويداى مشققتان جراء التوضؤ فى الهواء الطلق والبرد فى الأقصر وأسوان حتى إننى، لشدة ألمى بسبب هذه التشققات، قد أجلت صلاة المغرب حين وصولى إلى طنطا، فلم أؤدها فى مسجد محطة السكة الحديد رغم أنه كان هناك وقت كاف جدا لتأديتها، وصليتها فى البيت مع العشاء والشعور بالإثم رغم ذلك مع أن الرسول كان يجمع الصلاتين أحيانا فى الحَضَر. لكن أنى لى أن أعرف هذا فى ذلك الوقت المبكر؟ بل إننى، حين عرفت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم أفهم الأمر فى البداية كما ينبغى، بل ظننت أنه، عليه السلام، كان يؤخر الظهر إلى آخر الوقت مع التبكير بصلاة العصر فى بداية وقته، فتبدو الصلاتان وكأنهما مجموعتان. ورأيت بعد ذلك بنحو ست سنوات عالما من علماء الدين المشاهير جدا يؤجل صلاة الظهر إلى ما بعد عودته لبيته، فأنكرت ذلك عليه فى قلبى جاهلا أنه جائز. وقد استغرق الأمر وقتا طويلا حتى أفهم الوضع على وجهه الصحيح. وكنت، وأنا فى الثالثة الثانوية، أنزل كل صلاة من الدور الرابع فى الشقة التى كنا نشغل غرفة منها فى شارع السيد عبد اللطيف قريبا من تقاطعه مع شارع سعيد لأؤديها فى مسجد المنشاوى القريب على بعد أمتار. وكنت أكون فى عِزّ انهماكى فى الاستذكار، فأترك كل شىء وأسرع إلى المسجد. أما فيما بعد ذلك فكنت أصلى أحيانا فى البيت متى حانت الصلاة وأنا هناك كما يصنع كثير من الناس فى مصر المحروسة، اللهم إلا إذا كنت فى القرية، فإننى عندئذ كنت أذهب للمسجد. أما الآن فأصلى عادة فى بيتى بالقرية متى كنت فى زيارة لها.
وفى الصيف السابق على آخر سنة لى فى المرحلة الثانوية اتفقنا أنا وبعض الأصدقاء من طلاب الأزهر بالقرية ممن يكبروننى فى السن أن من يقوم منا من النوم أولا قبل الشمس عليه أن يوقظ الآخرين كى نصلى الصبح حاضرا. وقد وقعتْ فى ذلك الإِبَّان بعض الأمور المضحكة: فمثلا كان هناك طالب طب بيتهم يقابل بيت خالى، الذى كنت أنام فيه فى تلك الأيام، فكنت إذا ذهبت لأوقظه أول واحد من الثلة عبر شباكهم المطل على الشارع بالدور الأول من بيتهم وسمعته يرد على تحيتى ماطًّا ياء "صباح الخير" (هكذا: "صباح الخيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر") بصوته المتكاسل الأجش بفعل النوم عرفت فى الحال أنه لا ينوى أن يقوم حتى لو ضربته بالقنبلة النووية، فأضحك وأمضى لأوقظ الآخرين. وهذا الطالب هو د. سيد الحسينى صيرة، وهو الآن على المعاش. وأحيانا ما نلتقى فى دكان ابن خالى محمد العزلة، فنتذاكر الماضى الهانئ الجميل، أو بالأقل: الذى نظنه هانئا جميلا.
ومرة جاء إبراهيم الزواوى من بيتهم البعيد نسبيا ليوقظنى، ولم يكن الظلام قد انقشع بعد، وكانت خالتى رحمها الله تنام معى فى نفس الغرفة بالدور الثانى، فحين شرع ينادينى وجدت خالتى الطيبة توقظنى بصوت عال يسمعه الناس فى بلاد الإسكيمو قائلة: يا بُرْهُم (تدليل "إبراهيم")، هناك نَدَّاهَة تناديك فى الشارع وتريدك أن تنزل لتخطفك، فلا تسمعْ كلامها ولا تستيقظْ. فأخذت أضحك وأنا أستيقظ رافعا صوتى أطمئن زميلى بأنى استيقظت وأنى نازل فى الحال. وكان هو بدوره قد سمعها وهى توقظنى وتحذرنى من النداهة، فأخذنا طول الطريق نضحك أنا وهو وسائر الزملاء من طيبة الخالة، التى كان من الممكن أن تتركنى نائما "قتيلا" دون أن توقظنى أولا ثم تضطر إلى تحذيرى ثانيا، وكفى الله الخالات تعب الإيقاظ والتحذير. وكانت تلك الواقعة حديثنا وتفكهنا بقية أيام الصيف، رحمها الله. 
أما النداهة فلمن لم يسمع بها هى امرأة أسطورية من الجانّ تتنصت على أى اثنين من الفلاحين يتفقان ليلا على القيام مبكرا قبل الفجر لسقى الأرض، فتذهب إلى أحدهما قبل الميعاد الذى ضربه مع رفيقه لتوقظه مصطنعة صوت ذلك الرفيق، وحينما ينزل إليها تأخذه فى الطريق إلى الحقل منفردة به وتقتله هناك أو تخبِّل عقله وتصيبه بالجنون. وبالمناسبة فقد ألف يوسف إدريس قصة بعنوان "النداهة" تقوم على إغواء أحد سكان عمارة من أهل المدينة لزوجة بوابها الريفية التى ظل يلح عليها بألوان الإغراءات المختلفة حتى أوقعها فى حبالته وأفسدها على زوجها، التى انتهى أمرها معه بأن تركت حجرة بئر السلم فى مدخل العمارة حيث كانت تعيش معه على الحلوة والمرة، وانطلقت إلى المجهول كما ينطلق الرجل الريفى مع النداهة إلى حيث الأذى الذى ليس منه اتقاء ولا شفاء. 
والعجيب الغريب أن النداهة فى ذلك الصباح المبكر لم تصبنى بأى أذى، فهأنذا معكم "صاغ سليم" كما يقول العامة فى بلادنا المحروسة، ولم أُجَنّ، بل ما زال "عقلى فى راسى أعرف به خلاصى". ولكن ما وجه العجب فى هذا، والنداهة، كما هو معروف، لا توقظ الناس لصلاة الفجر، بل لا تنتظر أصلا حتى يؤذن الفجر بل تأتيهم قبل ذلك فى الظلام، وسائر أهل القرية نيام نيام؟ وأخيرا فقد يظن بعض القراء أن الفعل: "نَدَهَ"، الذى اشْتُقَّت منه كلمة "النداهة"، هو تحريف عامى للفعل: "نادَى" كما كنت أظن وأنا صغير. بيد أن "نَدَهَ" صيغة فعلية فصيحة صحيحة تماما، وتعنى شيئا قريبا من النداء. ومنه اشْتُقَّ اسم بعض أهل الريف: "المندوه"، أى الذى ندهته النداهة فيما أتصور. كفاكم الله، وكفانا معكم نحن والسامعين والقارئين، شرور النداهة! آمين. 
ومن بين الفكاهات المتعلقة بصلاتنا الفجر فى ذلك الصيف أننا كنا، بعد الانتهاء من الصلاة، ننطلق إلى الساحل نتمشى ونأكل جميزا طازجا من قطب الحبشى حيث نجده هناك فوق جميزة يجمع ثمارها ويدلّيها فى سَفَطٍ لمن ينتظر دوره على الأرض من الشارين. فكان أحدنا، وهو الشيخ حمامة (اسم التدليل لـ"محمد أبو كوهية" رحمه الله)، يقضى وقت الانتظار فى لعب بعض التمرينات السويدية التى تعلمها فى فريق الكشافة بتجارة الأزهر، فلا يكون من الحبشى إلا أن يترك عمله ليشاهده من أعلى الجميزة وهو يضحك ويقول لنا مداعبا بطريقته الريفية: "بُصّ يا جدع أنت وهو: الشيخ حمامة بيدوِّر الطنبور!" لتشابه الحركة التى كان يأتيها كشافنا مع حركة الفلاح حين يشغِّل الطنبور فى رى الأرض من الترعة. ثم يمضى فى التهكم على تلك الحركات الرياضية بأسلوبه الريفى المضحك، فنضحك نحن بدورنا من أعماق قلوبنا على هذه التعليقات الظريفة الساذجة. هيه! لقد كانت القلوب خفيفة لم تثقلها أعباء الحياة ولا غزتها المرارات ولا جرحتها الخيبات التى تصيبنا بها الدنيا "بنت الَّذِين". رحم الله تلك الأيام، ورحم سذاجتنا القديمة وخُلُوّ قلوبنا من القلاقل والإزعاجات! 
لو أننا 
لو أننا 
لو أننا، وآهِ من قسوةِ "لَوْ"
يا فتنتي، إذا افتتحنا بالـمُنَى كلامَنا 
لكنّنا...
وآهِ من قسوتها: "لكننا"!
لأنها تقول في حروفها الملفوفةِ المشتبِكهْ 
بأننا نُنْكِرُ ما خَلَّفَتِ الأيامُ في نفوسنا 
نودُّ لو نخلعهُ 
نودُّ لو ننساه ْ
نودّ لو نُعِيده لرَحِمِ الحياهْ 
لكنني، يا فتنتي، مُجرِّبٌ قعيدْ 
على رصيف عالمٍ يموج بالتخليطِ والقمامهْ 
كونٍ خلا من الوَسامهْ
أكسبني التعتيمَ والجهامهْ
حين سقطْتُ فوقه في مطلع الصِّبا 
قد كنتُ في ما فات من أيّامْ 
يا فتنتي محاربًا صُلْبًا، وفارسًا هُمَامْ 
من قبل أن تدوس في فؤاديَ الأقدامْ 
من قبل أن تجلدني الشموسُ والصقيعْ 
لكي تُذِلَّ كبريائيَ الرفيعْ 
كنتُ أعيش في ربيعٍ خالدٍ، أيّ ربيعْ
...
ماذا جرى للفارس الهمامْ؟ 
انخلع القلبُ، وولَّى هاربًا بلا زِمامْ 
وانكسرتْ قوادمُ الأحلامْ 
يا من يدلُّ خطوتي على طريقِ الدمعةِ البريئهْ!
يا من يدلُّ خطوتي على طريقِ الضحكةِ البريئهْ! 
لكَ السلامْ 
لكَ السلامْ 
أُعْطِيكَ ما أعطتنيَ الدنيا من التجريب والمهاره ْ
لقاءَ يومٍ واحدٍ من البكاره ْ
لا، ليس غيرَ "أنتِ" من يُعيدُني للفارسِ القديمْ 
دونَ ثمنْ 
دون حسابِ الربحِ والخسارهْ 
هذا ما قاله صلاح عبد الصبور فى قصيدة "أحلام الفارس القديم"، وهذا ما أشعر به الآن وأنا أستعيد ذكريات الشباب، الذى يقول عنه أبو العتاهية: "روائح الجنة فى الشباب"!. فأما إذا أراد القارئ أن يعرف رأيى فى تلك القصيدة الصَّبُورِيَّة فيمكنه مشكورا الرجوع إلى كتابى: "فى الشعر العربى الحديث- تحليل وتذوق"، وهناك سوف يجد ما أرجو أن تَقَرَّ به عينه.
ومن منابع النشوة فى تلك الفترة كرة القدم، التى كنت ألعبها ضمن الفريق الأول بالقرية بعد أن كنت ألعب مع الصغار قبل ذلك. وكنت من المتميزين إلى حد معقول. وكان لنا جمهورنا، الذى يتبعنا من قريتنا إلى القرى التى نذهب لملاقاة فرقها، فيهتف لنا ويحملنا على الأعناق إذا انتصرنا، وكثيرا ما كنا ننتصر. ومن أحلى اللحظات فى مباريات الكرة تلك حين نتحلق شابكين أيدينا فوق أكتاف بعضنا البعض قبيل انطلاق صفارة البدء قريبا من دائرة منتصف الملعب، فنقرأ الفاتحة ثم يصيح قائد الفريق بصوتٍ جَهْوَرِىٍّ يسمعه الجمهور حول الملعب قائلا: "فريق كتامة يا"، فيرد باقى الفريق عليه للتو مكملا الكلمة الأخيرة المعلقة على لسانه قائلين: "عِيشْ"، فيعود ويقول: "يا"، فيقول الفريق مرة أخرى: "عيش"، "يا"، "عيش". والمعنى: "فريق كتابة يعيش"! وسر الفرحة أن ذلك معناه بدء المبارة وتعليق الأنفاس وانتظار الحركات النصف كُمّ التى يأتيها اللاعبون من ترقيص وتمرير وتهديف وصد وهجوم مضاد ينتهى بالانتصار فى كثير من الأحيان، فتعود القرية إلى بيوتها شاعرة بالمجد والفخار وكأننا حررنا فلسطين أو على الأقل: فتحنا عكا. 
وكان فريقنا من الفرق المرهوبة بين القرى المحيطة بقريتنا، إذ كان التوفيق حليفه فى كثير من الأحوال. وفى أول دورة على مستوى المركز، وكان ذلك خلال صيف 1966م قبل وقوع النكسة بنحو عام، جاء ترتيبنا الأول بعد أن تغلبنا على كل الفرق التى واجهناها، فقد سحقنا الفرقة الأولى أربعة دون رد، وكان من نصيبى تسجيل هدف منها، وهزمنا الثانية اثنين، كان لى شرف تسجيل أحدهما، إلى أن كانت المبارة الأخيرة بيننا وبين مشال (قرية د. زغلول النجار كما عرفت منذ عدة سنوات)، وفريقها من الفرق القوية، إلا أننا هزمناه بهدف دون مقابل على ساحة بسيون، وسجله مصطفى الجعيدى، وهو من كبار لاعبى الفريق. لكن عندما ترقينا إلى دورة المحافظة لم نحظ بنفس التوفيق. صحيح أننا غلبنا فريق الشين لانسحابه من أمامنا رغم أننا كنا متعادلين بهدف أحرزه العبد لله. وسر انسحاب الشين هو أن اللاعب الدولى الأسبق توتو، الذى كان يحكم اللقاء، قد احتسب لنا ضربة جزاء. أما كيف سجلت هدف التعادل فقد ركلتُ الكرة ضعيفة متهافتة كأنها إنسان فقير جائع يعانى الإعياء ويترنح، فمضت تشق طريقها فى كسل وتثاؤب بين الأرجل، التى بدا أصحابها وكأنهم قد أصيبوا بالشلل أو اعتراهم الخدر، أو كأن الكرة كانت مرصودة مَرْقِيَّة، فلم يحاول أى من لاعبى الفريق المضاد، على كثرة الأرجل التى قابلتها الكرة فى طريقها إلى المرمى، أن يوقفها مع أن أيا منهم لو نفخها بفمه لكانت وقفت مكانها لا تتحرك، إلى أن دخلت المرمى. وتوتو، لمن لا يعرفه، كان لاعبا دوليا مشهورا فى أيامه بفريقى الأهلى وطنطا.
لكننا انهزمنا بعد ذلك أربعة مقابل صفر من أبو صوير فى المباراة التى تلت، ووقعت أحداثها كالمباراة السابقة أيضا على إستاد طنطا، الذى أَمُرّ به عادة فى طريق الذهاب إلى القرية وإلإياب منها، فأتذكر هاتين المباراتين العجيبتين. وقد غاب عن الفريق فى تلك المباراة اثنان من أهم أعمدته، وكانا الأكبر عمرا والأكثر خبرة بيننا، ولا أدرى السبب الحقيقى فى تخلفهما عن اللعب رغم أننا رأيناهما أثناء المباراة فى المدرجات بين الجمهور. وقد سرت شائعة يومئذ أنهما كانا يعرفان قوة الفريق المنافس، الذى قيل إنه استعان ببعض لاعبى فريق غزل المحلة ذاته، وأننا لن نصمد أمامه، فآثرا ألا يشاركا فى مباراة كهذه تجنبا للخزى والعار. والله أعلم. وأذكر أننى يومها قد صوبت أربع كرات قوية على مرمى أبو صوير، إلا أنها جميعا قد علت العارضة. وقد خرجنا من المباراة مكسورين كسرة مؤلمة. ولم يخفف عنى سوى ذهابى إلى البيت الذى كنت أسكنه أثناء العام الدراسى السابق، وكانت علاقتى بالأسرة صاحبة البيت جيدة وتهش لاستقبالى إذا زرتها، وكانت لها ابنة فى مثل سنى رقيقة وجميلة، فمكثت هناك مع الأسرة والفتاة الرقيقة الجميلة وقتا أزال عن نفسى بعض ألمها جراء الهزيمة، وأدخل عليها بدلا من ذلك قسطا عظيما من السعادة. صدقت يا أبا العتاهية: "روائح الجنة فى الشباب"!
ومن المرات التى ذقت فيها أنا بالذات طعم الفشل الكروى الـمُرّ تلك الـمَرّة التى انتصر فيها علينا فريق كفر أبو جندى (قرية محمد فوزى وهدى سلطان وهند علام الفنانين الإخوة المعروفين) ستة لصفر، وهى المرة الوحيدة تقريبا التى انهزمنا فيها من إحدى القرى المحيطة على أرضنا. وكنت للأسف قائد الفريق، وكان يوما يعلم به ربنا، ولا أدرى ما الذى أصاب أفراد الفريق فى تلك المباراة، إذ أذكر مثلا أننى مَرَّرْتُ الكرة عدة مرات لهذا أو ذاك من زملائى فيجد نفسه وقد انفرد بالمرمى المنافس، إلا أنه إما أن يتزحلق ويقع على الأرض فجأة وإما أن تطيش تصويبته فتخرج الكرة بعيدا عن المرمى. وشيعتنا القرية إلى بيوتنا يومها بشماتة غريبة وهتافات مسيئة، ناسيةً البهجات التى كثيرا ما أدخلناها على القلوب. ولكن ماذا تقول فى الكرة ومشجعيها، وهذا حالها دائما؟
المرحلة الجامعية
ما إن حولتُ أوراقى من كلية الاقتصاد إلى كلية الآداب حتى انتظمت على التو فى محاضرات قسم اللغة العربية شاعرا بالسعادة أنْ تركت الكلية التى تخرج رجال السلك الدبلوماسى والسفراء كما كان الطلاب يظنون فى ذلك الوقت، ولم أنتظر حتى تأتى الموافقة على قبول أوراقى فى الكلية الجديدة، اطمئنانا منى إلى أن درجاتى أعلى كثيرا من درجات تلك الكلية، ووجدت نفسى فى الحال فى مقررات اللغة العربية وآدابها. وكان من أساتذتنا د. يوسف خليف ود. عبد الحميد يونس ود. عبد العزيز الأهوانى ود. شكرى عياد ود. حسين نصار ود. كامل جمعة ود. النعمان القاضى ود. عبد المنعم تليمة ود. محمود فهمى حجازى ود. أحمد مرسى، وكذلك الأستاذ عبد الحميد السيورى والأستاذ عبد الحكيم راضى (اللذان صارا دكتورين فيما بعد)... إلخ. 
وكان بعضهم يملى علينا ما يريد قوله، وبعضهم يحاضرنا. وكنت أناقش كل الأساتذة تقريبا فيما يقولون. وكتبت أول بحث فى مادة التاريخ العربى قبل الإسلام، التى كان يدرسها لنا فى السنة الأولى د. حجازى، ولم يكن البحث أكثر من تلخيص لما قرأت فى بعض الكتب المتعلقة بالموضوع. وأذكر أننى ألقيته فى المحاضرة برباطة جأش وثقة بالنفس وصوت قوى، وكان زملائى ينصتون جيدا دون أن يحدث أحدهم أية ضجة، وهذا من فضل الله رغم أنى لم أقدم أى جديد آنذاك. ويتضح معنى ما أقول إذا ذكرت أن أحد زملائى التوانسة، وكان معنا منهم فى الفرقة ثلاثة، وهو الأخ محمد بو زركونة، حين ألقى محاضرته لم يكن هناك ذلك الصمت الكامل, وربما كان ذلك راجعا إلى انخفاض صوته وغرابة لهجته. 
أما فى السنة التالية فكان علينا مادة بحث بإشراف د. خليف، وكانت تدور حول موضوع الشك فى الشعر الجاهلى. ولا أدرى الآن السبب فى عزوفى عن مجرد القراءة فى ذلك الموضوع، الذى كنت أسمع ما قالته لنا زميلتنا حسنة الزهار، الأستاذة الآن بكلية البنات بجامعة عين شمس، والتى لم أقابلها إلا أمس بعد انقطاع دام نحو ثلاثة وأربعين عاما لم ير فيها أحدنا الآخر، وكان ذلك فى كليتها حين ذهبت، كما أفعل كل أسبوع، لإعطاء طلبة الدراسات العليا محاضرتين فى نصوص المستشرقين ومناهج البحث، وهما المحاضرتان اللتان أعتمد فيهما على استحثاث الطلاب إلى إخراج ما عندهم والحديث بكل حرية عن رأيهم فيما قرأوه فى الموضوع الذى أحاضرهم فيه، شاعرا بالنشوة وأنا أستمع إليهم وأعقب على ما يقولون أو أبدى رأيى فى أمر من الأمور التى يسألوننى فيها... إلخ، موضحا لهم أننى أستفيد منهم كما يستفيدون هم منى وأن المحاضرة دون مشاركة الطلاب فى النقاش لا تساوى الكثير، وأن كثيرا من الأفكار التى أعتز بالتوصل إليها وأعد نفسى ابن بجدتها هى فى الغالب ثمرة أسئلتهم أو اعتراضهم أو تعبيرهم عن رأيهم حتى لو اختلفت معهم فيما يقولون، إذ الحوار هو الأساس فى كثير من الاكتشافات الفكرية، وأن الأستاذ هو فى الحقيقة مجرد طالب علم، وكل ما فى الأمر أنه سبق طلابه إلى طريق المعرفة وأنه قرأ أكثر منهم، وإن كان منهم من قد يفوقه ذكاء وفهما، وأنه من الطبيعى جدا أن يقع فى الأخطاء من كل نوع، وأن ما يقوله ليس كلاما معصوما، بل هو مجرد اجتهاد قد يصح وربما لا يصح، وأن الحقيقة لا يعلمها على وجه اليقين والكمال إلا الله، أما نحن فغايتنا أن ندندن حولها، وأن هذا هو ما سوف يحاسبنا الله على أساسه بغض النظر عن إصابتنا إياها أو لا، وأنه لا يصح أن يحقر أى منهم قدراته العقلية والفكرية. 
ترى هل يعى طلابى أبعاد ما أقول؟ أرجو هذا، وإن كان منهم من يؤكد لى أنهم قد تأثروا بكلامى وبإلحاحى الذى لا يفتر أبدا فصاروا يقرأون بعد أن كانوا لا يبالون بالكتاب ولا بالقراءة. وأحيانا ما أقول لنفسى إن كلامى سوف يؤتى ثماره بكل تأكيد ولو بعد حين، إذ لا يعقل أن يستحيل كل هذا الذى أقوله هباء منثورا دون أن يخلف وراءه أى أثر. ذلك أننى فى العادة لا أتصور أن يكون لكلامى تأثير ذو قيمة فى الطلاب، فأحاول أن أدخل الطمأنينة على قلبى بهذه الطريقة.
وكعادتى هنا فى استباق الأحداث للمقابلة بين ما كان وبين ما صار (وتكرير "بين" هنا مع اسمين ظاهرين سليم ليس فيه شائبة لغوية بالمناسبة) أقول: لقد دارت الأيام، وإذا بى أنغمس فى تلك القضية وأتناول ما كتبه مرجليوث فى بحثه الذائع الصيت: "The Origins of Arabic Poetry: أصول الشعر العربى"، فأترجمه وأعلق عليه وأدرسه فى كتاب مستقل، مع تفنيد كل ما جاء فيه مثلما فعلت مع كتاب "فى الشعر الجاهلى" لطه حسين فى كتابى: "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وكذلك فى بحث لى طويل بعنوان "نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى: سرقة أم ملكية صحيحة؟"، وهو منشور فى كتابى: "دراسات فى اللغة والأدب والدين"، ثم ينتهى بى الأمر إلى كتابة دراسة من عشرات الصفحات عما كتبه ابن سلام، الذى كنت فى البداية كغيرى من الباحثين أتصور أن ما قاله فى ذلك الموضوع هو الاعتدال المطلق والمنطق المحكم بعينه، فإذا بى منذ عدة أعوام قليلة أعكف عليه لأتبين أن معظم ما قاله ليس له أساس من الصحة، والباقى غير مقطوع به، إذ هو مجرد أحكام انطباعية أو مبتسَرة أو متسرعة من ناقدنا الكبير. وعنوان البحث المذكور هو "ابن سلام والشك فى الشعر الجاهلى"، وهو عبارة عن الفصل الأول من كتابى: "الأدب العربي- نظرة عامة لبيير كاكيا: عرض ومناقشة".
أما سبب عودتى إلى بحث ابن سلام فى الأعوام الأخيرة فهو دليل قاطع على صحة ما أقوله من أن مشاركة الطلاب فى المحاضرة، حتى لو قالوا كلاما غير ذى قيمة، من شأنه أن يحفز عقل الأستاذ على التفكير والإبداع. وهذا هو البيان: فقد حدث منذ عدة سنين قليلة أن كنت داخلا محاضرة "الثقافة العربية قبل الإسلام" للفرقة الأولى بقسم اللغة العربية بآداب عين شمس ظهرا، فوجدت طالبا كان يدرس فى السنة التمهيدية للماجستير يعترض طريقى فى الممر المؤدى إلى قاعة المحاضرة طالبا منى السماح له بحضور الدرس لأن أستاذهم لم يحضر ذلك اليوم، فرحبت به. وما إن شرعت أتكلم فى موضوع المحاضرة وأتناول الكلام عن الشك فى الشعر الجاهلى حتى علق قائلا إن ابن سلام قد أشار إلى أن الشعر الذى وردنا عن عاد وثمود غير صحيح لأن تينك القبيلتين قد بادتا عن آخرهما، ومن ثم لم يكن هناك من يمكن أن يكون قد روى شعرهما. قال الطالب ذلك دون أن تكون تلك هى النقطة التى أتحدث فيها ساعتئذ. ولكنى لم أُعِرْ تلك الشكلية اهتماما، بل ألفيت نفسى أقول له: اسمع يا فلان. هل تظن أن الله سبحانه قد أهلك نبييه: هودا وصالحا مع قوميهما؟ أجاب: لا. فعدت أسأله مرة أخرى: وهل تظن أن من آمنوا من هاتين القبيلتين بذينك النبيين قد عوقبوا وأُهْلِكُوا مع الهالكين؟ فعاد يجيب أنْ لا. فقلت للطلاب: ليعطنى أحدكم مصحفا لأقرأ الآيات التى تعرضت لعاد وثمود وعقابهما. ثم أردفت سريعا: وبالذات سورة "هود"، التى أحسب أنها أكثر السور القرآنية تفصيلا فى هذا الموضوع. 
فأعطتنى إحدى الطالبات مصحفا بعدما فتحتْه على الآيات المذكورة من تلك السورة الأخيرة، فقرأتُ على الطلاب بصوت عال ما جاء فى ختام الكلام عن كل قبيلة من القبيلتين وتمردها على نبيها: "وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ"، "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ"، ثم عقبت بقولى: إذن فعاد وثمود لم تبيدا عن آخرهما كما ظن ابن سَلاَّم جَرَّاءَ فهمه الخاطئ لقوله تعالى فى سورتى "النَّجْم" و"الحاقَّة" على التوالى: "وأنه أهلك عادا الأولى * وثمود فما أَبْقَى"، "فأما ثمودُ فأُهْلِكوا بالطاغية * وأما عادٌ فأُهْلِكوا بريحٍ صَرْصَرٍ عاتية". ذلك أنه ظن أن الهلاك كان عاما شاملا لم يُبْقِ ولم يَذَرْ أحدا من هاتين القبيلتين، غير متنبه إلى أن الكلام هو عن الكافرين منهما لا عن كل أفرادهما واحد واحدا، وإلا لكان معنى الكلام هو أن الله قد عاقب نبييه: هودا وصالحا ومن آمن بهما ضمن من عاقبهم واستأصلهم من الكفار المتمردين، وهو ما لا يمكن أن يكون. 
ثم أردفتُ مرة أخرى: ولنفترض أن عادا وثمود قد استؤصلتا استئصالا تاما أفلم يكن هناك من القبائل العربية الأخرى من سمع بعض أشعار هاتين القبيلتين ورواها للأجيال القادمة؟ ثم مضيت فى توضيح فكرتى منبها إلى أن كلامى هذا لا يعنى بالضرورة أن ما جاءنا عن تينك القبيلتين من أشعار هو صحيح بالضرورة، بل كل ما أقصده هو أن حجة ابن سلام حجة داحضة، وإن كانت قد جازت على عقولنا قرونا طوالا. ثم قمت بتغيير سطر أو سطرين فى الطبعة الجديدة التى كانت توشك أن تظهر من كتابى: "فصول فى ثقافة العرب قبل الإسلام" فيهما خلاصة هذا كله باختصار شديد كيلا أفسد طبعة الكتاب كلها. لكنى لم أكتف بذلك، بل عكفت على مقدمة ابن سلام لكتابه: "طبقات الشعراء" أقرؤها بتدقيق لأنتهى بوضع دراسة مطولة عن الموضوع برمته لم أكد أترك فيها شيئا مما قاله ابن سلام فى تلك القضية إلا بينت أن أدلته فيها ضعيفة أو معدومة، ونشرتها أولا على المشباك (الإنترنت)، ثم ضمَّنتها بعد ذلك كتابى: "الأدب العربى- نظرة عامة لبيير كاكيا: عرض ومناقشة" كما وضحت آنفا. 
وكنت قد تنبهت إلى أهمية الحوار فى تحريك العقول وبلورة الأفكار وإبداعها منذ كنت فى الثانوية العامة، إذ قد أذكر أننى كنت ذات عصرية أستذكر دروسى فى مسجد السيد البدوى بطنطا، فجاءنى زميل لى (هو الذى ضربنى قبل عدة سنوات بالقبقاب فى رأسى) يسألنى عن شىء فى أحد المقررات، وكنت أظن أن معلوماتى فيه مشوشة فى ذاكرتى تشويشا تاما بحيث لا يمكننى أن أجمع أطرافها، لكنى ما إن بدأت أجيبه إلى مطلبه حتى ألفيتُ ما كنتُ قد نَسِيتُه من معلومات قد أخذ ينثال على تلك الذاكرة المظلومة، فتعجبتُ وعَزَوْتُ ذلك إلى أن سؤال زميلى لى قد أثار اعتزازى بنفسى حين قصدنى لأشرح له شيئا وكأنى أستاذ لا مجرد زميل له. ولست أظن هذا التعليل فاسدا لا قيمة له، ولكنى أضيف إليه الآن أن استفاضتى فى الكلام يرجع فى جانب منه على الأقل إلى أننى لم أكن أفكر وحدى فى الأمر، بل كان يحاورنى شخص آخر يستفز ذاكرتى وعقلى بسؤاله وإنصاته لى، وإن كان حواره سلبيا، بمعنى أنه اكتفى بالسؤال ثم صمت وأخذ يسمع، وأنا أستفيض فيما كنت أحسب أنه قد طار من ذهنى.
وفى الجامعة صارت القراءة أغزر وأعمق، وتصدرتْ قائمةَ الكتب التى أقرؤها تلك المتصلةُ بتخصصى من نحو وصرف وتفسير وتاريخ أدب ونقد وما إلى ذلك. وكانت زمالتى وصداقتى لبعض طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية سببا فى انغماسى فى المناقشات السياسية، والدينية أيضا، فقرأنا وتناقشنا فى الشيوعية والوجودية والاتحاد السوفييتى، الذى كان له بين زملائنا أنصار ومفتونون، مثلما كان له كارهون، وإن كانوا فى ذلك الوقت قليلين، وكنا منهم، إلا أننا كنا نتميز عنهم بأننا لا نحب أمريكا أيضا، ونرى ولا نزال أن الإسلام أفضل من الشيوعية والرأسمالية معا جميعا. ومما أذكره من الكتب التى قرأناها فى ذلك الحين كتاب "آثرت الحرية" لفيكتور كرافتشنكو، الذى اشتريناه بعشرة قروش من سور الأزبكية القديم أيام كانت حديقة الأزبكية مكانا شاعريا مخضوضرا. وكنت أسمع من زملائنا الكارهين للشيوعية قولهم: نار الرأسمالية ولا جنة الشيوعية. وكنا نقرأ كتب العقاد التالية: "الشيوعية والإنسانية فى شريعة الإسلام" و"لا شيوعية ولا استعمار" و"هتلر فى الميزان" و"فى عالم السدود والقيود" والعبقريات، بالإضافة إلى ردوده على المستشرقين والمبشرين من خصوم الإسلام، وكنا نعتز بما كتبه أيما اعتزاز، ونعد ما خطه يراعه هو القول الفصل، ونفضله كثيرا على طه حسين، على العكس من اليساريين والعلمانيين، الذين كانوا يَرَوْن أن طه حسين أفضل من العقاد. 
وكان نجيب محفوظ ضمن اكتشافاتى الجامعية، إذ لم أكن قرأت له شيئا من قبل، وكانت معرفتى به مقصورة على ما كنت أسمعه أوأقرؤه عنه. ومنه حديث سمعته له فى الإذاعة المصرية وجدته ينطق فيه كلمة "مغربى" بفتح الراء بدلا من كسرها، فأثار هذا استغرابى بشدة. كما كان لنا زميل أزهرى من القرية يصغرنا فى التعليم بسنة أو سنتين قال لنا، ونحن فى الإعدادية، إنه أرسل إلى نجيب محفوظ رسالة ضمنها بعض تجاريبه فى الكتابة فرد عليه الأديب الكبير برسالة مثلها. إلا أننا لم نشأ أن نصدق ما يقول، وألححنا عليه أن يطلعنا على الرسالة إن كان ما يقوله حقا، فكان يَعِدنا ثم يسوّف... إلى أن كنا على مئذنة الجامع الكبير ذات ظهرية، ورأيناه من هناك على سطح بيتهم، وكان قريبا نسبيا من الجامع، فأبصرناه يمسك ورقة فى الهواء ويقول إنها هى رسالة نجيب محفوظ. وانتهت المسألة عند هذا الحد، ولكننا بطبيعة الحال لم نصدق هذه الحيلة الساذجة. ولعل أول عمل طالعته لأديبنا العبقرى، الذى اتهمنى طبيب أسنان منذ عدة سنوات ظلما وافتراء بأنى شتمته فى المحاضرة أمام طلبتى قائلا إنه كافر وابن كلب، هو "الثلاثية"، التى أبكتنا وأضحكتنا حتى القهقهة بما فيها من حيوية وحياة لا أظن رواية عربية تحظى بهما أو بنصفهما. ثم كانت الثلاثية معبرا إلى عدد آخر من أعمال محفوظ والاستمتاع الضخم بما يكتبه. 
ومرت الأيام والشهور والأعوام، وإذا بى أكتب عن الرجل عددا من الدراسات منها الفصل الأخير من كتابى: "فصول من النقد القصصى" حيث تناولت بالتحليل المفصل روايته: "رحلة ابن فطومة"، والفصل الثانى من كتابى: "ست روايات مصرية مثيرة للجدل"، الذى خصصت فيه عشرات الصفحات للحديث عن "أولاد حارتنا" والرموز التى تتضمنها وما قاله النقاد عنها على اختلاف مشاربهم وأهوائهم وغاياتهم، ورأيى أنا فى تلك القضية. وهذا إلى جانب ما كتبتُه عَرَضًا عن الرجل فى هذا الكتاب أو ذاك من كتبى. ورأيى الذين أدين به وعلى استعداد للشهادة به أمام الله يوم القيامة أن محفوظ، أيا ما يكن رأينا فى اتجاهه الفكرى ومواقفه السياسية، هو أديب عالمى بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. وقد كررت مرارا أنه أفضل كثيرا من بعض من حصلوا من الأوربيين والأمريكيين على جائزة نوبل فى الآداب، وأنه كان يستحقها قبل زمن طويل من حصوله عليها فى أواخر ثمانينات القرن المنصرم. كذلك أرى أن العقاد مثلا قلما يوجد له ضريع بين مفكرى العالم وكُتَّابه، وأنه يستحق نوبل مثلما يستحقها محفوظ، بل أكثر مما يستحقها محفوظ. ولقد أكد محفوظ هذا المعنى حين فاز بالجائزة، وإن لم يقتصر على ذكر اسم العقاد فى هذا السياق، بل أرفق به طه حسين فيما أذكر، وكذلك توفيق الحكيم.
وكان زملائى فى الجامعة الذين مر ذكرهم من خيرة طلابها، إن لم أقل إنهم خيرهم بإطلاقٍ ذكاءً وثقافةً ونقاءً وتدينًا واستنارةً. ولم نكن ننتمى إلى أية جماعة أو تنظيم، وكنا نستقى ديننا من العقاد وشلتوت وأمثالهما فى المقام الأول، كما كنا نقرأ فى الفلسفة والمذاهب السياسية، ولم نعرف الانغلاق ولا التبعية لأى شخص. كذلك كنا نحب أن نقرأ لزكى نجيب محمود لنصاعة أسلوبه وسخريته المبطنة رغم مخالفتنا لكثير مما يكتب. وقد شعرنا بالفرحة حين علمنا أنه سوف يناقش طالبا من طلابه فى المدرج الكبير بكلية الآداب، وهو الطالب إمام أحمد إمام، فذهبنا لحضور تلك المناقشة، وكانت أول مرة نحضر مناقشة رسالة جامعية. واشترك معه فى مناقشة الطالب د. فؤاد زكريا، الذى أذكر أنه اعترض، ضمن ما اعترض عليه من لغة الطالب، على استعماله كلمة "لاَشَى"، قائلا إنه لا وجود لها فى المعجم، فاستغربت أنا من تلك التخطئة لتصورى أنه ما دام هناك "تلاشى" فمن الطبيعى أن يكون الفعل: "لاشى" موجودا أيضا لأن "تلاشى" هو المطاوِع له، والمطاوِع فرع من المطاوَع، وهو هنا "لاشَى". ذلك أننى أحب أن يطرد القياس فى اللغة إلى أبعد مدى، وإلا فما معنى القواعد اللغوية؟ وما لزومها؟ هكذا كنت أفكر. والانطباع الذى خرجت به من جَرْس صوت د. فؤاد زكريا هو الحذلقة، إلا أنها كانت حذلقة محببة. كما كان هناك كذلك د. يحيى هويدى، الذى حظى منا بأقل قبول بين الأساتذة الثلاثة المناقشين، الذين أَثْنَوْا على مقدرة الباحث فى الترجمة من "الألمانية"، إن كنت لا أزال أتذكر ما حصل جيدا.
وكعادتى فى سبق الأحداث قبل حلول موعدها أذكر أننى قد دخلت مع د. فؤاد زكريا بعد ذلك بنحو عشرين سنة فى معركة فكرية على صفحات "الوفد"، إذ كانت تلك الصحيفة قد اتفقت معى فى منتصف ثمانينات القرن المنصرم على كتابة مقال نقدى كل أسبوع فى نحو ست صفحات أو سبع، وزودنى الأستاذ جمال بدوى مدير التحرير ببعض الكتب أتخذ منها فى البداية موضوعات لمقالاتى، فاستقر عزمى على تناول كتاب د. زكريا عن "الحقيقة والوهم فى الحركات الإسلامية"، واختلفت معه فيما قال، لأفاجأ فى الاسبوع التالى بنشر الصحيفة ردا له على ما كتبت، وهو أمر طبيعى، إلا أن ما ليس طبيعيا أنهم لم يخبرونى بالأمر، علاوة على أنهم أجّلوا مقالى التالى ودون أن يخطرونى مسبقا كذلك. ثم زادوا فقالوا إنهم يغلقون باب الأخذ والرد فى الأمر، ودون أن يرجعوا إلىَّ أيضا، معتذرين عن نشر ردى على رد الرجل، فزاد هذا من حنقى، إلا أننى ضغطت على نفسى وقلت: دعك من العصبية المعروفة عنك يا خِلّ، وامض فى الكتابة وكأن شيئا لم يكن. بيد أننى فوجئت بهم ينشرون مقالا فى الرد على رد د. فؤاد زكريا لدكتور آخر ينتمى إلى الإسلاميين، فكانت هذه قاصمة الظهر، إذ توقفت عن إرسال أى شىء لهم بعد المقالين الآخرين اللذين كنت بعثت بهما إلى الصحيفة. 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 57 مشاهدة
نشرت فى 24 يونيو 2016 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

32,862