العباس بن الأحنف وشعره (2- 2)
د. إبراهيم عوض
وكان البحترى، كما جاء فى "الإعجاز والإيجاز" للثعالبى، يصف العباس بأنه "أغزل الناس". وفى "الأغانى": "أُنْشِدَ بشارٌ قولَ العباس بن الأحنف:
نزف البكاءُ دموعَ عينك، فاستعِرْ عينًا لغيرك دمعُها مِدْرَارُ
فقال بشار: لحق والله هذا الفتى بالمحسنين، وما زال يدخل نفسه معنا ونحن نخرجه حتى قال هذا الشعر".
ويقول أبو الفرج: "كان العباس شاعرا غزلا ظريفا مطبوعا من شعراء الدولة العباسية، وله مذهب حسن، ولديباجة شعره رونق، ولمعانيه عذوبة ولطف. ولم يكن يتجاوز الغزل إلى مديح ولا هجاء ولا يتصرف في شيء من هذه المعاني. وقدمه أبو العباس المبرد في كتاب "الروضة" على نظرائه، وأطنب في وصفه وقال: رأيت جماعة من الرواة للشعر يقدِّمونه. قال: وكان العباس من الظرفاء، ولم يكن من الخلعاء، وكان غزِلا ولم يكن فاسقا، وكان ظاهر النعمة ملوكي المذهب شديد التترف، وذلك بين في شعره. وكان قصده الغزل وشغله النسيب، وكان حلوا مقبولا غَزِلا غزير الفكر واسع الكلام كثير التصرف في الغزل وحده، ولم يكن هجاء ولا مداحًا...
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثني صالح بن عبد الوهاب أن العباس بن الأحنف كان من عرب خراسان، ومنشؤه ببغداد، ولم تزل العلماء تقدمه على كثير من المحدثين، ولا تزال قد ترى له الشيء البارع جدا حتى تلحقه بالمحسنين. أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا يموت بن المزرع قال: سمعت خالي (يعني الجاحظ) يقول: لولا أن العباس بن الأحنف أحذق الناس وأشعرهم وأوسعهم كلامًا وخاطرًا ما قدر أن يكثر شعره في مذهب واحد لا يجاوزه، لأنه لا يهجو ولا يمدح ولا يتكسب ولا يتصرف، وما نعلم شاعرًا لزم فنًا واحدًا لزومه فأحسن فيه وكثر.
حدثني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال: أنشد الحرمازي أبو علي وأنا حاضر للعباس بن الأحنف:
لا جزى الله دمع عيني خيرا وجزى الله كل خيرٍ لساني
نَمَّ دمعي، فليس يكتم شيئا ورأيتُ اللسان ذا كتمانِ
كنتُ مثل الكتاب أخفاه طيٌّ فاستدلوا عليه بالعنوانِ
... ثم قال الحرمازي: هذا والله طراز يطلب الشعراء مثله فلا يقدرون عليه".
فهذا بعض ما قاله كبار النقاد والشعراء فى العصر العباسى عن شعر العباس. وهو يستحق هذا بجدارة. ولكن هناك خبرا فى "الأغانى" أيضا يقول: "أخبرني محمد قال حدثني حسين بن فهم قال سمعت العطوي يقول: كان العباس بن الأحنف شاعرًا مجيدًا غزلًا، وكان أبو الهذيل العلاف يبغضه ويلعنه لقوله:
إذا أردتِ سُلُوًّا كان ناصرَكم قلبي، وما أنا من قلبي بمنتصرِ
فأَكْثِروا أو أَقِلُّوا من إساءتكم فكلّ ذلك محمولٌ على القَدَرِ
قال: فكان أبو الهذيل يلعنه لهذا ويقول: يعقد الكفر والفجور في شعره. قال محمد بن يحيى: وأنشدني محمد بن العباس اليزيدي شعرًا للعباس أظنه يهجو به أبا الهذيل، وما سمعت للعباس هجاء غيره:
يا من يكذِّب أخبار الرسول، لقد أخطأتَ في كل ما تأتي وما تَذَرُ
كَذَّبْتَ بالقدر الجاري عليك، فقد أتاك مني بما لا تشتهي القَدَرُ"
والعجيب، إذا صحت الرواية، أن ينبرى الهذيل بن العلاف للعن العباس جراء إشارته العارضة فى بيتيه إلى القدر. ولا أدرى ما الخطأ فى ذلك؟ إن كل شىء فى الكون إنما هو بقضاء الله وقدره. ولا يعنى هذا أننا مجبورون فى كل أفعالنا، بل لنا قدر من الحرية والمشيئة به يتم إنجاز الحضارة البشرية على مدار التاريخ الماضى والحاضر والمستقبل. وهذا القدر من المشيئة هو أيضا مظهر من مظاهر القضاء والقدر، إذ القضاء والقدر هو إرادة الله سبحانه، وإرادة الله تتبدى فى قوانينه التى تحكم الكون، ومنها الحرية البشرية المحدودة والقادرة رغم هذه المحدودية على إنجاز العجائب الباهرة. فالحب القاهر هو مظهر من مظاهر قضاء الله وقدره. أليس سبحانه هو خالق البشر والقلوب والعواطف والشهوات؟ أليس هو الذى قدر الحب على العباد؟ نعم إن كثيرا من الناس يستطيعون فى بعض الأحيان على الأقل أن يستعلوا على الحب، لكن الأغلبية تخضع له أيما خضوع، وإن حاولت التفلت من طغيانه وعرامه لم تستطع. وهذا كله بقضاء من الله وقدر: الحب والرغبة فى الانفلات والعجز. فما المشكلة فى ذلك؟ هل يظن أبو الهذيل أن الإنسان قادر على كل شىء؟ ولو افترضنا أننا وافقناه على هذا أتراه يظن أن ذلك يناقض القول بالقضاء والقدر؟ كلا بالثلث. وأنا مع العباس فى كل ما قال. والله سبحانه يقول: "إنَّا كُلّ شىءٍ خلقناه بقَدَرٍ". ومن أحاديث الرسول عليه السلام: "العَجْزُ والكَيَسُ بقَدَرٍ"، "الإيمانُ أن تؤمنَ باللهِ وملائكتِه وكتبِه ورسلِه والبعثِ بعد الموتِ، وتؤمنَ بالقَدَرِ خَيْرِه وشَرِّه". وإذن فالعباس أفضل فهما للقضاء والقدر من العلاف، ولا معنى من ثم لأن يبغضه ويلعنه. وهل يصلح أن يلعن لاعنٌ العباسَ بنَ الأحنف ذلك المحب الأنيق الوسيم النبيل؟
وفى "الإمتاع والمؤانسة" لأبى حيان التوحيدى أن عبد الله المرزبانى كان "إذا سمع هذا (الشعر) جُنَّ واستغاث وشق الجيب وحوقل وقال: يا قوم أما ترون إلى العباس بن الأحنف؟ ما يكفيه أن يفجر حتى يكفر! متى كانت القبائح والفضائح والعيوب والذنوب محمولةً على القدر؟ ومتى قدر الله هذه الأشياء وقد نهى عنها؟ ولو قدرها كان قد رضي بها، ولو رضي بها لما عاقب عليها. لعن الله الغزل إذا شيب بمجانة، والمجانة إذا قرنت بما يقدح في الديانة. ورأيت أبا صالح الهاشمي يقول له: هون عليك يا شيخ، فليس هذا كله على ما تظن. القدر يأتي على كل شيء، ويتعلق بكل شيء، ويجري بكل شيء. وهو سر الله المكتوم، كالعلم الذي يحيط بكل شيء. وكل ما جاز أن يحيط به علمٌ جاز أن يجري به قدر، وإذا جاز هذا جاز أن ينشره خبر. وما هذا التضايق والتحارج في هذا المكان، والشاعر يهزل ويجد، ويقرب ويبعد، ويصيب ويخطئ، ولا يؤاخذ بما يؤاخذ به الرجل الديان، والعالم ذو البيان؟".
وأخذ عليه أيضا قوله لحبيبته:
فإِنْ تقتلوني لا تَفُوتُوا بِمُهْجتي مَصالِيتَ قَوْمي مِن حنيفةَ أو عِجْلِ
بحجة أن "هذه المعاني تصلح لتهدُّد الأعداء وتبعد عن الرقة إلى الجفاء. فأما المحبوبون فيقال لهم كما قال القائل:
لَوْ جُزَّ بالسيف رأسي في مَودَّتِكمْ لمرَّ يهوي سريعًا نَحْوكم راسي
... فهذا ما أشبه عادة العشاق المتيمين مع الأحباب المعشوقين. فأما طلب الدماء والثارات فيصلح في الحروب والغارات" كما جاء فى "المنصف للسارق والمسروق منه" لابن وكيع التنيسى. ولست أوافق الناقد على قوله، إذ لا أظن العباس يقصد شيئا مما دار فى ذهن هذا العائب، بل كل ما أراده هو التظرف لحبيبته ومداعبتها، فاستعار لذلك ألفاظ الحرب والثأر وما إلى ذلك. ولعل البيت التالى يشهد على صحة ما أقول، إذ يؤكد أنها ليست ممن يثأر منهم، ومن ثم فلن يطالبها قومه بدمه:
وَلَو كُنتُمو مِمَّن يُقَادُ لَمَا وَنَتْ مَصَالِيتُ قَوْمي مِن حَنِيفَةَ أَو عِجْلِ
ثم من قال إن كل شاعر لا بد أن يقول الشىء ذاته فى كل مرة ينسب فيها بحبيبته؟ أين الفروق الفردية واستقلال الشخصية وتفرد الإبداع؟
وانتقده الأصمعى كذلك فى بعض ألفاظه كما قال. جاء فى "نور القبس" لليغمورى أن بعض الناس تذاكروا عند الأصمعى شعر العباس بن الأحنف، "فتسخَّطه وقال: والله ما يُؤْتَى من جودة المعنى، ولكنه سخيف اللفظ. ألا ترى قوله:
اليومُ مثلُ الحَوْل حتى أرى وجهَك، والساعاتُ كالشهرِ
إنَّ الذي أُضْمِر عند الذي أُظْهِر كالقطرة في البحرِ
لو شُقَّ عن قلبي قُرِي وَسْطَه ذكرُك والتوحيدُ في سطرِ
ثمّ قال:
يا من تمادى قلبه في الهوى سال بك السيلُ، وما تدري
أبعد أن قد صرتَ أحدوثة في الناس مِثْلَ الحسن البصري؟
لعمري إنّ الحسن البصري مشهورٌ، ولكن ليس هذا موضع ذكره!".
فأما الأبيات الثلاثةالأولى فلا ندرى موضع الشاهد فيها. وهى على كل حال من أحلى الشعر وأطرفه. وأما البيتان الأخيران فليسا بالسخف الذى يزعمه الأصمعى. ولا أظن من السهل العثور على مثال آخر من هذا الضربب فى شعر العباس. ومن ثم فإن حكم الأصمعى على الشاعر وشعره غير مقبول. ولا يعقل أن نطرح شعر الرجل، وكله تقريبا بديع ممتع، من أجل عيب صغير، إن عُدَّ عيبا أصلا.
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن سعيد عن الرياشي قال: قيل للأصمعي (أو قلت له): ما أحسن ما تحفظ للمُحْدَثين؟ قال: قول العباس بن الأحنف:
لو كنتِ عاتبةً لسَكَّنَ روعتي أملي رضاك وزرتُ غير مراقبِ
لكن مللت فلم تكن لي حيلة صد الملول خلاف صد العاتب
... أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن العباس اليزيدي قالا، واللفظ لهاشم، قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: دخل عمي على الرشيد والعباس بن الأحنف عنده، فقال العباسي للرشيد: دعني أعبث بالأصمعي. قال له الرشيد: إنه ليس ممن يحتمل العبث. فقال: لست أعبث به عبثًا يشق عليه. قال: أنت أعلم. فلما دخل عمي قال له: يا أبا سعيد، من الذي يقول:
إذا أحببت أن تصــــــــــــــــــ ـــــنع شيئا يعجب الناسا
فصَوِّرْ هاهنا فوزًا وصَوِّرْ ثَمَّ عباسا
فإن لم يَدْنُوَا حتى ترى رأسيهما راسا
فكَذِّبْها بما قاستْ وكَذِّبْه بما قاسى"
وفى "حلية المحاضرة" للحاتمى أن أحسن ما قيل في امتزاج القلوب وتصافيها فى رأى ابن أبى فنن هو قول العباس بن الأحنف:
ما أنس لا أنس يمناها معطفة على فؤادي ويسراها على راسي
وقولها: ليته ثوب على جسدي وليتني كنت سربالا لعباسِ
أو ليته كان لي خمرا، وكنت له من ماء مزن، فكنا الدهر في كاسِ
وهذه أبيات تلك القصيدة كاملة:
اليَومَ طابَ الهَوى يا مَعشَرَ الناسِ وَأُلبِسَت فَوزُ حُبّي كُلَّ إِلباسِ
ما أَنسَ لا أَنسَ يُمناها مُعَطَّفَةً عَلى فُؤادي وَيُسراها عَلى راسي
قالَت وَإِنسانُ ماءِ العَينِ في لُجَجٍ يَكادُ يَنطِقُ عَن كَربٍ وَوَسواسِ
يَطفو وَيَرسو غَريقاً ما تُكَفكِفُهُ كَفٌّ فَيا لَكَ مِن طافٍ وَمِن راسِ
عَبّاسُ لَيتَكَ سِربالي عَلى جَسَدي أَو لَيتَني كُنتُ سِربالاً لِعَبّاسِ
أَو لَيتَهُ كانَ لي راحاً وَكُنتُ لَهُ مِن ماءِ مُزنٍ فَكُنّا الدَهرَ في كاسِ
أَو لَيتَنا طائِرا إِلفٍ بِمَهمَهَةٍ نَخلو جَميعاً وَلا نَأوي إِلى الناسِ
مَن هابَ فيكَ عَدُوّاً أَو أَخا ثِقَةٍ فَاِمسَح يَدَيكَ وَكُن مِنهُ عَلى الياسِ
وَلائِمينَ عَلى حُبّيكِ قَد عَلِموا أَن لَيسَ بِالحُبِّ مِن عارٍ وَلا باسِ
يا رُبَّ جارِيَةٍ أَسبَلَتُ عَبرَتَها مِن رِقَّةٍ وَلِغَيري قَلبُها قاسِ
كَم مِن كَواعِبَ ما أَبصَرنَ خَطَّ يَدي إِلّا تَشَهَّينَ أَن يَأَكُلَنَ قرطاسي
لَو كُنتُ بَعضَ نَباتِ الأَرضِ مِن طَرَبي لِلَّهوِ ما كُنتُ إِلّا طاقَةَ الآسِ
ومن شعره البديع:
قالت: "مرضْتُ"، فعدتُها فتبرَّمَتْ وهي الصحيحةُ، والمريضُ العائدُ
والله لو أنَّ القلوبَ كقلبِها ما رقَّ للولدِ الضعيفِ الوالِدُ
* * *
وحدّثْتَنِي يا سعدُ عنها فزدتَنِي جنونا، فزدنِي منْ حديثكَ يا سعدُ
هواهَا هوًى لمْ يعرفِ القلبُ غيرهُ فليسَ لهُ قبلٌ، وليسَ لهُ بعدُ
* * *
أبكِي الذينَ أذاقونِي مودَّتهمْ حتّى إذَا أيقظُونِي للهوَى رقدُوا
واستنهضُونِي، فلمَّا قمتُ منتصبًا بثِقْلِ مَا حمّلونِي منهمُو قعدُوا
* * *
نَقْلُ الجبال الرواسي من أماكنها أخفُّ من رد قلب حين ينصرفُ
* * *
أتأذنون لِصَبٍّ في زيارتكم فعندكم شهواتُ السمعِ والبصرِ
لا يضمر السوءَ إن طال الجلوس به عف الضمير، ولكن فاسق النظرِ
* * *
أُحْرَمُ منكمْ بما أقولُ، وقد نال بهِ العاشقون مَنْ عَشِقُوا
صِرْتُ كأني ذُبَالةٌ نُصِبَتْ تُضِيء لِلناسِ، وَهْيَ تَحْتَرِقُ
* * *
هي الشمسُ مسْكَنُها في السماء فعَزِّ الفُؤَاد عَزَاءً جَمِيلا
فلَنْ تستطيع إليها الصعودَ ولنْ تستطيعَ إليكَ النزولا
* * *
وَما الناسُ إِلّا العاشِقون ذَوُو الهَوَى وَلا خَيْرَ في من لا يُحِبُّ وَيَعْشَقُ
* * *
أستغفر الله إلا من محبتكم فإنها حسناتي يوم ألقاهُ
فإن زعمت بأن الحب معصية فالحبُّ أحسنُ ما يُعْصَى به اللهُ
* * *
وأحسن أيام الهوى يومك الذي تُرَوَّع بالهجران فيه وبالعَتْبِ
إذا لم يكن في الحب سخطٌ ولا رضًى فأين حلاوات الرسائل والكُتْبِ؟
وفى "المثل السائر" يقول ابن الأثير لدن حديثه عن وجوب تجنب الحوشى من الكلام مما ينافر معيشة الحضر: "ما بال قوم سكنوا الحضر يتعاطَوْن وحشيَّ الألفاظ وشظف العبارات؟ ولا يخلد إلى ذلك إلا جاهل بأسرار الفصاحة أو عاجز عن سلوك طريقها، فإن كل أحد يمكنه أن يأتي بالوحشي من الكلام، وذلك بأن يلتقطه من كتب اللغة، أو يتلقفه من أربابها. هذا العباس بن الأحنف قد كان من أوائل الشعراء في الإسلام، وشعره كمر النسيم على عذبات أغصان أو كلؤلؤ آت طل على طرر ريحان، وليس فيه لفظة واحدة غريبة يحتاج إلى استخراجها من كتب اللغة. فمن ذلك قوله:
وإني ليرضيني قليل نوالكم وإن كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم من الود إلا عدتم بجميل
وهكذا ورد قوله في فوز التي كان يشبب بها في شعره:
يا فوز، يا منية عباس، قلبي يفدِّي قلبك القاسي
أسأتُ إذ أحسنتُ ظني بكم والحزم سوء الظن بالناسِ
يقلقني الشوق فآتيكم والقلب مملوء من الياسِ
وهل أعذب من هذه الألفاظ، وأرشق من هذه الأبيات، وأعلق في الخاطر، وأسرى في السمع؟ ولمثلها تخف رواجع الأوزان، وعلى مثلها يسهر راقد الأجفان، وعن مثلها يتأخر السوابق عند الرهان. ولم أُجْرِها بلساني يومًا من الأيام إلا تذكرت قول أبي الطيب:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق أراه غباري ثم قال له الحق
ومن ذا الذي يستطيع أن يسلك هذا الطريق التي هي سهلة وعروة قريبة بعيدة؟".
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أنشدني إبراهيم بن العباسي للعباس بن الأحنف:
قالت ظلوم سمية الظلم مالي رأيتك ناحل الجسم
يا من رمى قلبي فاقصده أنت العليم بموضع السهم
فقلت له: إن أبا حاتم السجستاني حكى عن الأصمعي أنه أنشد للعباس بن الأحنف:
أتأذنون لصب في زيارتكم فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إن طال الجلوس به عف الضمير ولكن فاسق النظر
فقال الأصمعي: ما زال هذا الفتى يدخل يده في جرابه فلا يخرج شيئًا، حتى أدخلها فأخرج هذا، ومن أدمن طلب شيء ظفر ببعضه. فقال إبراهيم بن العباس: أنا لا أدري ما قال الأصمعي، ولكن أنشدك للعباس ما لا تدفع أنت ولا غيرك فضله، ثم أنشدني قوله:
والله لو أن القلوب كقلبها مارق للولد الضعيف الوالد
وقوله:
لكن مللت فلم تكن لي حيلة صد الملول خلاف صد العاتب
وفى "الموازنة بين أبى تمام والبحترى" أن أبا تمام أخذ بيت العباس بن الأحنف التالى:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
فقال:
أآلفة النحيب، كم افتراقٍ أظلَّ فكان داعية اجتماعِ؟
كما وضع المتنبى قول العباس:
والنجم في كبد السماء كأنه أعمى تحير ما لديه قائد
أمام عينيه فقال:
ما بال هذي النجوم حائرة كأنها العمي ما لها قائد؟
وعلق عليها الثعالبى فى كتابه: "أبوالطيب المتنبى وما له وما عليه" قائلا: "هذه مصالتة لا سرقة، وهي مذمومة جدا عند النقدة". ومما قاله الثعالبى أيضا فى الكتاب المذكور تحت عنوان "حسن التقسيم": "حكى أبو القاسم الآمدي في كتاب "الموازنة بين شعري الطائيين"، قال: سمع بعض الشيوخ من نقدة الشعر قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجر، وحبكم قلى وعطفكم صد، وسلمكم حرب
وأنتم بحمد الله فيكم فظاظة وكل ذلول من مراكبكم صعب
فقال: هذا أحسن من التقسيمات إقليدس، وقول أبي الطيب المتنبي في هذا الفن أولى بهذا الوصف:
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك ملء الزمان وملء السهل والجبل
فنحن في جذل، والروم في وجل والبر في شغل، والبحر في خجل
وكقوله:
والدهر معتذر، والسيف منتظر وأرضهم لك مصطاف ومرتبع
للسبي ما نكحوا، والقتل ما ولدوا، والنهب ما جمعوا، والنار ما زرعوا
وقوله:
فلم يخل من نصر له من له يد ولم يخل من شكر له من له فم
ولم يخل من أسمائه عود منبر ولم يخل دينار ولم يخل درهم"
وفى "أخبار أبى الطيب المتنبى" للبكرى أن قول المتنبى:
لو فرق الكرم المفرق ماله في الناس لم يك في الزمان شحيح
مأخوذ من قول العباس بن الأحنف:
لو قسم الله جزأ من محاسنه في الناس طرا لتم الحسن في الناس
أو من قول أبي تمام
لو اقتسمت أخلاقه الغرّ لم تجد معيبا ولا خلقا من الناس عائبا
أو من قول سلم الخاسر
لو فرقت يوما سماحة كفه في العالمين لما رأيت بخيلا
أو من قول منصور الفقيه:
أقول إن سألوني عن سماحته ولست ممن يطيل القول ان مدحا
لو أن ما فيه من جود تقسمه أولاد آدم عادوا كلهم سمحا
... وبالمثل يرى أن العباس بن الأحنف أول من نظم المعنى الموجود فى بيت المتنبى التالى:
كأن رقيبا منك سد مسامعى عن العذْل حتى ليس يدخلها العذلُ
إذ قال:
أقامت على قلبى رقيبا وناظرى فليس يؤدى عن سواها إلى قلبى
وفى "النظام فى شرح شعر المتنبى وأبى تمام" أن قول أبى تمام:
لَوِ اقْتُسِمَتْ أَخْلاقُه الغُرُّ لم تَجِدْ مَعِيبًا ولا خَلْقًا من النّاسِ عائبا
هو من قول العباس بن الأحنف:
لو قَسَّمَ الله جزءا من محاسنها في الخَلْقِ طُرًّا لَتَمَّ الحُسْنُ في الناسِ
وفى المادة الخاصة بالعباس بن الأحنف فى "Encyclopédie Universalis" يشير ريجى بلاشير إلى تأثير أشعاره فى إبداعات الشعراء فى صقلية والأندلس وشعر البلاط فى الغرب. ويضيف كاتب مادته فى "Encyclopdia of Arabic Literature" أنه كان ذا أثر بارز على شعر الصوفيين كالحلاج مثلا، وكذلك على شعراء التروبادور فى الغرب.
ونختم هذا الفصل بهذه المختارات المنتقاة للعباس:
قد كنتُ أرجو وَصْلَكُم فظللتُ مُنْقَطِعَ الرجاءِ
أَنتِ التي وَكَّلْتِ عَيـْــــــــــــــــــــــــــــــنِيَ بالسهادِ وبالبكاءِ
إِنَّ الهَوَى لَو كانَ يَنْـــــــــــــــــــــــــــــــــــفُذُ فيهِ حُكْمي أَو قَضائِي
لَطَلَبْتُهُ وَجَمَعْتُهُ مِن كُلِّ أرضٍ أو سَماءِ
فَقَسَمْتُهُ بَيْني وَبَيـْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنَ حَبِيبِ نفسي بِالسواءِ
فنعيشَ ما عِشْنا على مَحْضِ المَوَدَّةِ وَالصفاءِ
حَتّى إِذا مُتْنا جَميـــــــــــــــــــــــــــــــــعًا، وَالأُمورُ إلى فَناءِ
ماتَ الهَوَى مِن بَعدِنا أَو عاشَ في أَهلِ الوَفاءِ
* * *
قُلتُ غَداةَ السبتِ إذ قيلَ لي: إِنَّ الَّتي أَحبَبْتَها شاكِيَهْ:
يا أَيُّها القائِلُ، ما تَشتَكي؟ قالَ: بِها عَينٌ تُرى بادِيَهْ
فَقُلتُ: عِندي، إِن تَشَأْ، رُقْيَةٌ لا تَقْصِدُ العَيْنُ لَها ثانِيَهْ
قَرَأتُ حاميمَ وَعوَّذْتُها بِالطُّورِ طَوْرًا ثُمَّ بِالغاشِيَهْ
يا رَبُّ، فَاسمَعْ وَاستَجِب دَعْوَتي عَجِّل إِلى سَيِّدَتي العافِيَهْ
* * *
بَخِلَتْ عَلَيَّ أَميرَتي بِكِتابِها وَتَبَدَّلَتْ بِصُدودِها وَحِجابِها
فَالنَفسُ في كُرَبِ الهَوى مَغمورَةٌ وَالعَيْنُ ما تَنفَكُّ مِن تَسْكابِها
حَتّى متى في كُلِّ يَومٍ سَخْطَةٌ؟ قد ذُبتُ مِن سَخَطاتِها وَعِتابِها
أَخَذَتْ مَجامِعَ قَلْبِهِ وَتَحَوَّلَت عَنهُ، فَيا لَكَ هائِمًا بِشِعابِها
ماذا لَقيتُ مِنَ الهَوَى؟ وَيْحَ الهَوى! لو أَنَّ نَفْسي في يَدَيهِ رَمَى بِها
خَرَجَت سُعادُ تَقولُ لي بِشَماتَةٍ: زَجَرَتْكَ فَوْزٌ أَن تَمُرَّ بِبابِها
ماذا يَرُدُّ عَلى سُعادَ مُتَيَّمٌ قَد ضاقَ عِيًّا نُطْقُهُ بِجَوابِها؟
الوَيْلُ لي إِن قُمْتُ أَطْلُبُ وَصْلَها وَالوَيْلُ لي إن لَم أَقُمْ بِطِلابِها
يا سُعْدُ، هاتي لي بِعَيْشِكِ قَبضَةً مِنْ بَيْتِها لِأَشُمَّ ريحَ تُرابِها
فَأَكُونَ قَد أُسْقِيتُ مِنها رِيقَها وَأُنِلْتُ حُسْنَ بَنانِها وَخِضابِها
يا لَيتَني مِسواكُها في كَفِّها أَبَدًا أَشُمُّ العُبْرَ مِن أَنيابِها
أَو لَيْتَني مِرْطٌ عَلَيْها باطِنٌ أَلتَذُّ نَعْمَةَ جِلْدِها وَثيابِها
فَأَكُونَ لا أَنحَلُّ عنها ساعَةً دونَ الثيابِ مُجاوِرًا لِحِقابِها
* * *
أَيا هَمَّ نَفْسي مِنَ العالمينَ وَمَن لَيْسَ يَرْعَى لِوَصْلي ذِماما
لماذا تَكَرَّهْتِ رَدَّ السلامِ؟ أَيُفسِدُ ذاكَ عَلَيْكِ الصياما؟
وَوَاللهِ ما يَسَعُ المُسْلِميــــــــــــــــــــــــــــــنَ في الدينِ أَن لا يَرُدّوا السلاما
فَمَن كانَ أَفْتَاكِ حَتّى رَأَيـْـــــــــــــــــــــــــــــــتِ قَتلي حَلالًا، وَوَصْلي حَراما؟
تَحَرَّجْتِ أَن تَصِلي في الصِيا مِ تَقْوَى، وَرُمتِ لَقَتْلي مَراما
فَما تَبْتَغينَ بِطولِ الصِيا مِ إِذا أَنْتِ أَوْرَدْتِ نَفْسي الحِماما؟
* * *
أَضْحَكَني طَوْرًا وَأَبْكاني كِتابُ مَوْلاتي وَخُلْصاني
طِرْتُ سرورًا حينَ أَبْصَرْتُهُ فَاعْتَرَضَ الشوقُ فَأَبْكاني
بِتُّ بِشَمٍّ وَاِعتِناقٍ لَهُ مُسْتَغنِيًا عَن كُلِّ رَيْحانِ
واهاً لَهُ مِنْ زائِرٍ مُؤْنِسٍ فَرَّجَ عَنّي بَعْضَ أحزاني