authentication required

سامحونى من فضلكم. إن أريدُ إلا الإصلاحَ ما استطعتُ! وما توفيقى إلا بالله. عليه توكلتُ، وإليه أُنِيب:

إبراهيم عوض

===========

تعالوا نتحدث قليلا عن التربية والتعليم فى مصر فى العقود الأخيرة حيث صار كل شىء مسطحا، ولم تعد المدارس تعلم طلابها شيئا ذا بال، بل لم يعد الطلاب والطالبات فى السنتين الثانية والثالثة الثانوية يذهبون إلى المدرسة بتشجيعٍ، أو قل: بتثبيطٍ، من الأساتذة، الذين لا يريدون أن يعلموهم فى المدارس، بل فى مراكز الدروس الخصوصية التى يتجمع فيها مئات الطلاب فى الحصة الواحدة ويدفع كل منهم بضع عشرات من الجنيهات، وتكون النتيجة أن يحصد المدرس عشرات الآلاف من الجنيهات يوميا، ذلك المدرس الذى تنحصر كل مهمته حينئذ فى تحفيظ الطلاب بعض المعلومات دون أن يحرك ذهنا أو يربى عقلا، فضلا عن أن يكون هناك تفكير مستقل ورغبة فى الإبداع والتميز. والنتيجة هى هذه النوعية من الطلاب التى تأتينا إلى الجامعة والتى يتصف عدد كبير منها بأنه لا يفقه شيئا تقريبا، ولا عنده الرغبة فى أن يفقه شيئا، بل يريد الحفظ، والحفظ فقط، وأيام الامتحان فحسب، دون أن يدور بذهن معظمهم استذكار الدروس أولا بأول، فضلا عن التردد على المكتبة، اللهم إلا إذا طلب منهم الدكتور عمل بحث، فعندئذ ينقلون من الكتب نقلا دون أن يضيفوا إلى النقل شيئا. ويا ليتهم ينقلونه كما هو، بل يكتبونه خطأ من الناحية الإملائية والنحوية والصرفية، وبخطوط فى معظم الأحيان قبيحة سقيمة لا تجرى على ما نعرف من قواعد الإملاء والخط . ورغم ذلك فأنا متيقن أنهم لا يقلون عن طلاب أوربا وأمريكا ذكاء وفطنة، ولكن المشكلة تكمن فى نظام التعليم من جهة وتعودهم، بتأثير المجتمع، على إهمال عقولهم وعدم استخدامها فى عملية التعليم، وكراهيتهم للقراءة والثقافة بوجه عام.

ولعله من المناسب والمفيد أن أنقل هنا الفقرة التالية من كتاب د. جلال أمين: "رحيق العمر"، إذ كتب يقول فى هذا الموضوع: "قال لى صديق ذهب إلى باريس فى بعثة لدراسة القانون، ثم عاد إلى مصر للتدريس فى نفس كليتى: حقوق عين شمس، إن أستاذه الفرنسى قال له فى باريس عندما أتم دراسته للدكتوراه: أنتم، أيها الطلبة المصريون، طلبة ممتازون وأذكياء، وذوو قدرة لا شك على الابتكار. ولكن ما الذى يحدث لكم عندما تعودون إلى مصر؟". ثم يعقب د. جلال أمين بقوله: "سؤال فى محله تماما: ما الذى يحدث لنا عندما نعود إلى مصر؟ إننا نبدو بعد عودتنا وكأن شعلة ذكائنا قد انطفأت وفقدنا القدرة على الابتكار: لا إضافة تُذْكَر إلى العلم الذى درسناه فى الخارج ولا حتى تطبيق جيد لما تعلمناه هناك على الأحوال المصرية، بل نترك هذا للأجانب أيضا" . 

ولا أذكر أنه، فى الأعوام الأخيرة، قد أتانى طالب أو طالبة يسألنى فى العلم إلا فى الشاذ النادر الذى لا يقاس عليه، بل تنحصر أسئلة الجميع تقريبا عن الأجزاء المحذوفة من الكتاب وكيفية حفظ المقرر، الذى يرونه دائما طويلا ومرهقا، إذ قد تعودوا على الملخصات التى لا تسمن ولا تغنى من جوع. ذلك أنهم تربَّوْا على الملخصات يحفظونها كما هى وكأنهم برامج بى دى إف لا تتصرف فيما تحفظه، ولا أقول: فيما تقرؤه. ونتعب نحن كثيرا جدا فى أن نجعل من هذا الفسيخ شربات، فنَخْرُج من الدفعة بعدة طلاب يُعَدُّون على أصابع اليد يهتمون بالعلم وبالبحث والقراءة ويبعثون على الأمل. والعجيب أن الكثير من طلبة هذه الأيام يحصلون فى التقدير العام كل سنة، بل فى التقدير التراكمى عند التخرج، على علامة "الامتياز"، وهو ما لم يكن ممكنا فى أيامنا إلا باللَّتَيّا والتى. وهذا، فى الواقع، امتداد للمجاميع المتورمة الكاذبة التى يحرزها الطلاب فى الوقت الحالى فى الثانوية العامة وغيرها بحيث إن كثيرا منهم يحصلون على ما يقارب المائة فى المائة. بل إن بعضهم يزيد على ذلك بفضل بدعة المستوى الرفيع رغم استحالة هذه النسبة عقليا ورياضيا. إلا أنه فى مصر بلد العجائب يمكن أن يحدث كل شىء. ألم يَصُرّ المصريون الفيل فى المنديل، ويعبئوا الشمس فى زجاجات، ويدهنوا الهواء دوكو، ويخرموا التعريفة وغير ذلك مما لا يستطيع أى شعب آخر فى الأرض ولا حتى فى المريخ أن يفعله؟ فماذا تريد غير ذلك؟ أَمَا إنك لطماع كبير!

زد على هذا أن الغش، بل التغشيش على أيدى مراقبى الامتحانات فى المدارس، قد أضحى تقليدا متبعا طبقا لما سمعته كثيرا من الأساتذة هناك من أقاربى ومعارفى وتلاميذى السابقين الذين لا يزال عندهم ضمير يتألم لبلادهم. وهؤلاء المراقبون المغششون إنما يفعلون هذا بتكليف من مديريهم كى تأتى مدارسهم فى المقدمة وتكون لهم سمعة طيبة، مع أن الجميع يعرف الفولة وقشرتها. ولكن ماذا تقول فى النظام الهلس والأوضاع الهلس التى نشارك فيها كلنا بطريقة أو بأخرى. ولا يكتفى أولياء أمور الطلاب بهذا التدليل الماسخ الكافر، بل كثيرا ما يقومون بتغشيش أولادهم بأنفسهم عبر مكبرات الصوت من الشارع بعد أن يحصلوا على ورقة أسئلة يسربها أحدهم إليهم، فيعطونها لمن يستطيع فتح الكتاب وقراءة الإجابة بصوت مدوٍّ يسمعه من فى بلاد الإسكيمو فيمنعه من النوم، فيدعو عليهم وعلى أولادهم لقاء دعوات الأولاد على الدكاترة الذين تأكلهم قلوبهم على بلادهم ويريدون للطلاب الكارهين للعلم أن يتعلموا. والسن بالسن، والبادئ أظلم. والجميع يشاهدون مهزلة التغشيش الجماعى ويسمعون وهم سعداء. ألن يحصل أولادهم على أحسن المجاميع ويدخلوا الكلية التى يهفون إليها؟ فماذا يريدون أكثر من ذلك؟ ثم يقبلون أيديهم، التى تستأهل قطعها، ظهرا لبطن، وبطنا لظهر. وهكذا تمضى الحياة فى بلاد الهلس والهلاسين. ثم يستغربون ألا تكون لنا جامعة بين الجامعات الخمسمائة الأولى فى العالم! أليس هذا الاستغراب هو العته بعينه؟ ترى هل يمكن أن نجنى من الحنظل تفاحا؟

على اننى لم أذكر كل شىء فى موضوعنا، وإلا فخذ عندك هذا الخبر الذى سوف أكتفى بإيراده كما قرأته دون أى تعليق. نشر موقع "أخبارك" الضوئى، فى الثالث عشر من نوفمبر 2012م التقرير التالى بعنوان "طلاب عين شمس يحتجون علي الانفلات الأمني بعد انفجار قنبلة بدائية": "نظم عدد من طلاب جامعة عين شمس اليوم الثلاثاء 13 نوفمبر وقفة احتجاجية أمام قصر الزعفران، وذلك للتنديد بتزايد حالات الانفلات الأمني داخل الحرم، وردد المتظاهرون: "واحد اثنين، أمن الجامعه فين؟"، "البلطجية بره، جامعتنا جامعة حرة!". وأوضحت إحدى المشاركات في الوقفة أن هناك حوادث تحرش تتعرض لها الفتيات داخل أسوار الجامعة، إلي جانب وجود مخدرات بشكل كبير، وحدوث اشتباكات بين الطلاب وأفراد من خارج الجامعة تصل إلى حد استخدام الأسلحة البيضاء. وطالب المحتجون بضرورة تدريب عناصر الأمن الإداري الموجوده حاليا بشكل يمكّن من حماية أمن الطلاب داخل الجامعة أو استبدالهم بفرق أمن خاصة أو عناصر من الشرطة العسكرية.

جاءت هذه الاحتجاجات عقب قيام طالب بإحدى كليات جامعة عين شمس بشراء عبوة بدائية الصنع والدخول بها إلى الجامعة الاثنين للتشاجر مع طالبين قاما بمعاكسه صديقته، إلا أنها انفجرت فيه. وصرح مصدر مسؤول بإعلام الجامعة لـ"أخبار مصر" بأن هناك طالبين مصابين مازالا في مستشفى الدمرداش وأنه بعد تماثلهما للشفاء سيتم إجراء تحقيق معهما وتوقيع العقاب القانوني اللازم لمنع تكرار الواقعة مع تشديد الحراسة داخل الجامعة. وأضاف أن إدارة الجامعة تتابع الواقعة من خلال تقارير النيابة العامة والمستشفى وسماع شهاده الشهود تمهيدا لإجراء التحقيق الداخلي والوقوف علي حقيقة الحادث. وأشار إلى أنه قد عُثِر على أجزاء من العبوة محترقة داخل الجامعة، وتم تحرير المحضر رقم 9389/ 2012، وتم إخطار النيابة العامة لمباشرة التحقيق لمعرفة ملابسات الواقعة. وكانت إدارة الإعلام والعلاقات بوزاره الداخلية قد قامت، إثر نشر خبر على الإنترنت حول انفجار قنبلة بجامعة عين شمس وإصابة أحد الطلاب الاثنين جراء الانفجار، بالتنسيق مع اللواء أسامة الصغير مساعد وزير الداخلية مدير أمن القاهره للوقوف علي ملابسات الواقعة حيث تبين عدم تلقي أجهزه الأمن بالمديرية أية بلاغات حول هذه الواقعة" .

ويزداد الطينُ بِلَّةً مع نظام الجودة، الذى يعانى من عيوب قاتلة: فالمهم فيه هو تسديد الخانات وملء الأوراق. كما أنه يقلب الهرم محاولا إقامته على طرفه المدبب. كيف؟ إن المسؤولين يتركون الطلاب فى المدارس يتقلبون فى هذه "الميغة" لا يفعلون شيئا يصلحونهم به، إلى أن يأتوا إلى الجامعة على النحو الذى ذكرته، فعندئذ، وعندئذ فقط، يفكرون فى تصحيح مسار التعليم فى الجامعة وحدها. زد على ذلك أن نظام الجودة يقوم، ضمن ما يقوم، على أخذ رأى الطلاب فى أساتذتهم. عظيم! لكن هؤلاء الطلاب أنفسهم لا يحضرون المحاضرات إلا بنسبة ضئيلة جدا لا تصل أحيانا إلى العُشْر، ومعظم من يحضر لا ينصت إلى الأستاذ، بل ينشغل فى المحمول والكلام مع زملائه. وإذا حدث أن حاول الأستاذ إشراكهم فى المحاضرة بحيث يتكلمون ويعبرون عن رأيهم لم يجد منهم استجابة، وكل ما يخرج به منهم هو هزهم لرؤوسهم كأنهم خُرْس، بمعنى أنه "ليس عندنا شىء نقوله"، غير مجشمين أنفسهم فتح أفواههم ليقولوا هذا بألسنتهم بدلا من هز الرأس. فإذا وجد الطلاب أن الأستاذ يصر على المناقشة أخذوا يتسربون من المحاضرات التالية قليلا قليلا حتى يصفصف العدد على العُشْر، وأحيانا ينزل إلى أقل من العُشْر. 

وقد فهمت من تعليقات الطلاب فى الفيس بوك فى الأسابيع الأخيرة أنهم تطوروا تطورا جديدا لم يكن يخطر على بال أحد، إذ أصبحوا يَدْعُون الله على الأساتذة الذين يأخذون التعليم بشىء من الجِدّ، ولا أقول: الجِدّ كله، ويريدون لهم أن يتعلموا، ومن ثم لا يحذفون شيئا من الفصول المقررة، بل يكلفونهم بالذهاب إلى المكتبة وما إلى ذلك. وهذه رسالة كتبتها طالبة بالفرقة الرابعة، ويبلغ من أدب صاحبتها إعلانها أن الشتيمة حرام. تقصد أن الأساتذة يستحقون الشتم، لكنها لن تشتم لأنها مهذبة. أما لماذا يستحقون الشتم فلأنهم يحضرون الدروس ويحاضر كل منهم فى المقرر المسند إليه، وينتظرون من الطلاب أن يقوموا بواجبهم ويستذكروا ويقرأوا. إلا أن الطلاب المساكين لا يريدون أن يبذلوا جهدا، ويأملون على العكس من ذلك أن يجعل الأساتذة فى عيونهم حصاة ملح فيأتوا بامتحان سهل يستطيع أى جاهل أن يحله بإصبع قدمه. وهو ما لا يفعله الأساتذة المعقَِّدون (لاحظ أن على القاف مع الشدة فتحة وكسرة فى نفس الوقت) الذين يكرهون الطلبة ولا يريدون لهم النجاح، وهو ما سخرت منه الطالبة قائلة إنهم يحبون الطلاب لدرجة أنهم لا يريدون لهم أن يتركوا الكلية حتى يستطيعوا أن يَرَوْهم مدة أطول. وكأن الأساتذة يَرَوْنَهم أصلا، إذ هم، كما وضحت مرارا، لا يحضرون المحاضرات إلا فيما ندر. 

على كل حال هذه هى الرسالة، ولك الله يا مصر: "انا عرررررررررررررررررفت ليه الدنيا صعبة معانا السنة اوى كده حد يسئلنى ليه اقوله ان الدكاترة حبونا زيادة عن اللزوم فقالوا يخلونا معاهم شويه كمان ومن هنا نقطة الانطلاق ف التعقيد اللى احنا فيه. الشتيمة حرام". ترى ماذا يريد الطلبة؟ أوتبلغ الوقاحة هذا الحد، وعينى عينك على الفيس بوك وعبر الإيميلات؟ وبالمناسبة فهذه الرسائل، رغم قبحها وركاكتها وتفاهتها، أفضل من غيرها، فقد كتبت طالبة فى إحدى المرات: "مزنش"، وهى تقصد "ما أظنش"، أى لا أظن. أما الرسالة التالية فلمن يفهمها من القراء الكرام جائزة، وهى أيضا لطالبة من الفرقة الرابعة: "لكل اللي قال دينيه لا دينك مختلف دينك مميز دينك ربك ارتضاه ليك واخبرك انه الدين الحق وانت تقول دينيه لا الي كل مسلم ايقظ فطرة اسلامك التي لوثها الاعلام المضلل". أرأيت العبقرية؟

لقد أصبح الطلاب يتبادلون الرسائل على الفيس بوك، ومعظمها رسائل تافهة يحاول بها الكسالى التهرب من الاستذكار من خلال السؤال عن الأجزاء المحذوفة من المقرر أو الموضوعات التى ينبغى التركيز عليها بدلا من تضييع الوقت والجهد فى قراءة ما لا فائدة منه فى نظرهم. وبالمناسبة فلا شىء فى ميدان العلم له فائدة فى نظر معظم الطلاب. وهذه رسالة من تلك الرسائل التى يكتبها طلابنا على الفيس بوك، وكلها على هذه الشاكلة، فمعظمهم لا يحضر المحاضرات ويكتفى بالسؤال عما تم حذفه من المقررات وما إلى ذلك وهم فى بيوتهم لا يكلف الواحد منهم نفسه الإتيان إلى الكلية للتأكد بنفسه من الأحوال. وهذا هو التعليم عند معظم الطلاب. 

تعالوا نقرإ الرسالة الركيكة العامية التى لا تهتم إلا بالتهرب من الاستذكار والتعلم وتريد الحذف، ولا شىء غير الحذف، إذ القراءة تسبب لهم الصداع كما شكا لى بعض الطلبة ذات مرة. وكاتب الرسالة طالب أو طالبة فى الفرقة الرابعة، أى على وشك التخرج. وهأنذا أنقلها كما هى بطريقة النسخ واللصق دون أن أتدخل فى أى شىء منها: "لو سمحتوا يا جماعة هو دكتور عبد المطلب كان بيقول فى الفصل الاول انه ممكن يسال عن مفهوم الاسلوب عند ابن قتيبة او الخطابى او الباقلانى... فهل هنذاكر دول بس والا مدى دول كمثال وهنذاكر باقى الشخصيات كمان اللى فى الفصل؟؟". وهذه رسالة ثانية، وهى أيضا من أحد طلاب السنة الرابعة أو من إحدى طالباتها: "السلام عليكم............ لو سمحتوا ممكن حد يقولى الاتجاهات اللى فى منهج د/ هدى الفصل الاول مقررة ولا لأ...... والفصل الثالث والرابع كلهم معانا؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ارجو الرد ولكم جزيل الشكر". ثم رسالة رابعة من الفرقة الرابعة أيضا: "يا جمالعة انا معايا لسة ابحاث دكتور الطاووس عادى لو روحت سلمتها دلوقتى ولا ايه انا سمعت ان ممكن اسلمها لعم ابراتهيم عادى لو روحت دلوقتى فى الوقت ده". ثم هذه رسالة خامسة، وهى بالفصحى، ولكن يا لها من فصحى! تقول الرسالة: "رباه نحن في حاجة اليك رباه لا ترد يدانا صفرا خائبتين كما وعدتنا رباه نحن مذنبون عاصون لكنك رب رؤوف رحيم رباهه اغفر لنا أمن مصرنا احمي شبابنا ربنا تولي امرنا وولي الصالح منا امورنا". والإملاء، كما هو واضح، فى الحضيض، والإعراب فى أَحَضَّ من الحضيض، ولا توجد علامات ترقيم، وركاكة المعنى بارزة للعيان والآذان. 

ثم ها هى ذى رسالة سادسة، وأنا محورها، وواضح أن كاتب الرسالة أو كاتبتها لم تكن تحضر المحاضرات لأنها لا تعرف المقرر. وكان عدد الطلاب الذين يحضرون عادة فى المادة التى يدور حولها الحديث فى هذه الرسالة لا يزيد عن الخمسين من نحو خمسمائة طالب. وهذا ليس خاصا بمحاضراتى، بل الحال واحد تقريبا فى كل المحاضرات. ولو كنا نملى كلامنا على الطلاب إملاء لانتظم الجميع فى الحضور. لكننا نشرح، وفوق ذلك فأنا ممن يضيقون بالانفراد بالكلام فى الدرس، وأريد من الطلاب المشاركة بالسؤال وبالجواب وبطرح ما فى عقولهم وقلوبهم، وكلما وضعت يدى على طالب قرأ كتابا انهلت ثناء عليه أمام زملائه تشجيعا له، وكافأته وعملت على إدخال البهجة على نفسه شاعرا وكأننى كنت تائها فى الصحراء أوشك أن أموت عطشا وجوعا، ثم عثرت على واحة يجرى فيها الماء ويَسَّاقَط من نخيلها البلح الرطب الجنىّ الشهىّ، وأطير فرحا لو "أخطأ" طالب فسألنى عن شىء أى شىء، وأقول لهم دائما إننى أستفيد منهم أكثر مما يستفيدون هم منى حتى لو كان السؤال غبيا أو تافها، إذ ما إن يلفظ الطالب السؤال من فمه حتى يقرع مخى قرعا ويدفعه دفعا إلى التفكير والتقدير حتى أصل منه إلى شىء جديد.

والآن إلى الرسالة المذكورة، وهى كذلك لطالب أو لطالبة فى الفرقة الرابعة، أى يوشك أن يتخرج! تقول الرسالة: "هو دكتور ابراهيم عوض  مقرر كام قصيدة في مادة الشعر رابعة". ثم رسالة سابعة قبل الامتحان بيوم أو يومين: "ياجماعة الحذف لعلم المخاطب والحذف فى باب الهمزه ده معانا ولا لا واللغات السامية السريانية والحاجات ديه معانا ولا لا". لقد انحط دور الفيس بوك عندهم إلى تبادل مثل تلك الرسائل التى تدل على أن الطلاب لا يريدون أن يقرأوا ولا أن يتعلموا ولا أن يفهموا، بل كل همهم معرفة المحذوف. ويا ليت كل شىء فى المقرر يُحْذَف! إذن لكانوا أسعد من فى الدنيا، والآخرة أيضا.

ووصلتنى أيضا عن طريق الفيسبوك رسالة من طالب يسأل زملاءه فى آخر الفصل عن اسم الدكتور الذى يدرّس مادة "أعمال السنة"! تصوروا طالبا لا يعرف اسم الأستاذ الدكتور الذى قضى الفصل كله يحاضر طلابه وانتهى معهم من المقرر، ثم لا يعرفه الطالب. فما معنى ذلك؟ معناه ببساطة أن الطالب لم يحضر طوال الفصل إلى أن هَلَّ الامتحان. ومعناه أنه لم ولا ولن يكلف نفسه الذهاب إلى الكلية لمعرفة الأمر بنفسه. ومعناه أنه لم ينظر فى الكتاب أو فى أى شىء يتعلق بالمادة. ومعناه فى النهاية أنه لا يشعر بالدنيا من حوله. وكم من مرة أكون جالسا فى المكتب مع بعض زملائى، فيأتى طالب يسأل عن واحد من الدكاترة الجالسين أمامه: هل الدكتور فلان موجود؟ فيرد عليه الدكتور المقصود: ولماذا تسأل عنه؟ لنفاجأ بأنه أحد طلابه، ومع ذلك لا يعرف أستاذه الجالس فى مواجهته يكلمه. سترك يا رب! 

وهذه رسالة أخرى يستفسر الطالب عن موضوع بحث طلبت من الطلاب أن يُعِدّوه أثناء الفصل، فانتظر الطالب إلى ما قبل الامتحان بيوم ليسأل سؤاله: "هو البحث بتاع الدكتور ابراهيم عوض عبارة عن اية". ومن شر البلية أن هؤلاء الطلاب دائما ما يشكون من الدرجات التى يحصلون عليها، ويحلفون بكل يمين محرجة إنهم قد حلوا الأسئلة على نحو يكفل لهم الحصول على الدرجة النهائية. لقد كتبوا كل شىء، ولم يتركوا سطرا واحدا فى كراسة الإجابة، وكانت إجابتهم نموذجية. فلماذا لم يحصلوا على تقدير الامتياز؟ 

أما القمامة فى قاعة المحاضرات فمصيبة وخزى وعار، فأنت تدخل المحاضرة لتفاجأ بأكياس الشيبسى وعلب الكوكاكولا ومناديل الكلينيكس وقشر اللب وأعقاب السجائر متناثرة فى كل مكان، وبعضها على طاولات الدرس، ولم يبق إلا أن ينادى الطلاب على أستاذهم طالبين "واحد شاى وصلّحه"، ولم يبق أيضا إلا أن تصرف الكلية لكل أستاذ فوطة صفراء يدليها من جيب معطفه الأبيض لزوم تلميع طاولات الدرس وكنس بقايا الطعام والشراب من فوقها. ولا تعدم عددا من الطلاب قد وضعوا أمامهم على طاولات الدرس هذه الأشياء يشربون منها أو يأكلون دون أى شعور بالخجل من الدكتور، وهو ما يستفزنى، فأصرّ على أن ينظف كل منهم المكان الذى أمامه ويلقى بالقمامة فى السلة المخصصة لذلك، فيقومون متكاسلين كارهين متذمرين، وأنا أنظر إليهم غير مبال بتذمرهم. وقد أشاركهم فى لم الأوراق وإلقائها فى صندوق القمامة الموجود فى داخل قاعة المحاضرات رغم أنى لا لى فى الثور ولا فى الطحين، بل أفعله تشجيعا لقيمة النظافة، وإشعارا لهم بعار القذارة والفوضى. ولكن لا حياة لمن تنادى، إذ يتكرر هذا الموال فى كل محاضرة تقريبا، اللهم إلا إذا تصادف أن كان الفراش قد نظف القاعة لتوه. وأحيانا ما أدخل عليه حين لا يكون الطلاب موجودين، فأجده يكنس "أكواما" من الزبالة قد أخرجها من تحت الطاولات، فأتساءل: أى نوع من الطلاب هؤلاء؟ ألا يفكرون على الأقل فى هذا المسكين وما يسببونه له من إرهاق إن لم يفكروا فى نظافة القاعة أو الكلية أو الجامعة؟  

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل من الطبيعى المعتاد الآن أن ينتقل الطالب (أو الطالبة) من موضعه إلى موضع آخر فى القاعة أثناء المحاضرة بحذائه فوق طاولات الدرس التى عليها الكتب والشنط، وبالتالى فوق رؤوس زملائه وزميلاته غير واجد فى هذا التصرف أى عيب. ومرة أخرى لا أملك نفسى من نَهْر من يفعل ذلك وطرده من المحاضرة بعد أن أكون قد استنفدت قبل هذا كل وسائل التنبيه والتربية دون جدوى. أقول هذا رغم أننى ممن لا يتسامحون فى هذه الأمور، فكيف يا ترى يتصرف الطلاب فى محاضرات الأساتذة الذين يئسوا وصاروا يتقبلون هذا التصرف من طلابهم دون أن يزعجوا أعصابهم بالتوجيه والتقريع والتنبيه؟ فى إحدى المرات أبدت طالبة من أحد أقسام اللغات الأجنبية كانت تفعل هذا استغرابها ودهشتها من رد فعلى قائلة إن الأساتذة الآخرين يتقبلون هذا ولا يستنكرونه. فلما قلت لها: هل الناس فى أمريكا، التى تقولين إنك أتيت منها حديثا وكنت تتعلمين فى مدارسها، يفعلون ذلك؟ كان جوابها: نحن هنا فى مصر، ومصر غير أمريكا. فانظر، أيها القارئ، إلى هذا الرد الوقح، واستخلص منه ما تشاء من مغزى! 

ثم نأتى إلى مصيبة المصائب: الامتحان، الذى يتحول تصحيح أوراقه إلى معاناة، وأى معاناة. فالخط قبيح، والإملاء لا يمت فى كثير من الكراريس إلى الإملاء الذى نعرفه بأى سبب، إذ كثيرا ما تكتب الحاء التى فى وسط الكلمة مغلقة كأنها عين، والخاء كأنها غين، بينما تفتح دائرة العين والغين الداخليتين كما يكتبها الأطفال فى الحضانة. وتجد حرفا كبيرا بجواره فى نفس الكلمة حرف آخر لا يكاد يرى، فتتأذى عينك ونفسك من هذا التنافر. وأحيانا ما يكون الخط مائلا أو دقيقا جدا، فتصاب أعيننا بجَهْرٍ ولا نستطيع النظر فى الكراسة. وكثير من الطلاب يكتبون الهاءات بطريقة مبتكرة لم يسبق لأحد أن كتبها بها. وبعضهم يَثْنِى نهاية الباء أو التاء أو الثاء الأخيرة على نفسها بطريقة تنطمس معها فلا يمكنك أن تعرف أى حرف هذا إلا بالتنجيم وضرب الوَدْع، أو الشم على ظهر يدك! شُفْتَ العبقرية؟ ثم لا تنس، بالله عليك، سِنَن السين والشين والباء والتاء وغيرها. إنها تكتب كيفما اتفق، فتارة ما تكون أقل من اللازم عدة سنن، وأحيانا ما تكون أكثر. كما أن كثيرا من الكلمات تكون حروفها مهشمة ناقصة بحيث تُكْتَب مثلا كلمة "ابتأس" هكذا: "أبس". ولا تنس أيضا الهمزات، فهى تكتب دون ضابط ولا رابط، لا فرق بين همزة الوصل وهمزة القطع والهمزة الطائرة والهمزة التى على ألف أو التى تحت الألف أو التى على نبرة أو التى على واو أو التى على السطر. ولا ينبغى أن ننسى كتابة الكثيرين منهم للسين والشين والصاد والضاد والفاء والقاف والنون، إذ ما من كلمة من هذه الكلمات إلا وتنتهى عندهم بذيل: فالسين والصاد لهما ذيل دون تنقيط، والشين والضاد والفاء والقاف والنون لها ذيول ونقط فى نفس الوقت. أما كلمات مثل "عادةً" و"فجأةً" و"فِعْلاً" و"فى رأيى الشخصى" أو "فى رأيى أنا" مثلا فيكتبها عدد كبير منهم هكذا: "عادتًا، فجأتًا/ عادتَنْ، فجأتَنْ"، و"فِعْلَنْ"، و"فى رأى الشخصى" أو "فى رأى أنا" بياء واحدة. كما أن كثيرا جدا من الطلاب يكتبون كلمة "لكن" هكذا: "لاكن"، و"بقيّة": "بقيت"، و"قامت": "قامة"، و"طيف الخيال": "ضيف الخيال"، ويقلبون الثاء فى كثير من الكلمات سينا، والذال زايا. كذلك فكلمة "قرآن" كثيرا ما تكتب: "قران- قراءن- قرءان- قرأن- قرأان"، ومثلها "امرأة"، التى تتحول إلى "امراة- امراءة- امرءاة- امرآة- امرأاة"... وهكذا. وإذا حاولت أن تسأل الطلاب عن سبب هذه الفوضى أتتك الإجابة فى الحال دون تفكير بأنهم يكتبون بسرعة، وكأن أمثالهم يمكنهم أن يكتبوا أفضل من ذلك حتى لو أُعْطُوا الوقت الذى فى الدنيا كلها. أما وضوح الفكرة أو صحة التركيب أو دقة استخدام الكلمة فإياك أن تهتم به، فالأفكار فقيرة، والمعجم شحيح، والعجز فى تركيب الكلام واضح يخزق العين ويقول بأعلى حِسّ: هؤلاء شبان لم يتعودوا أن يفكروا ولا أن يقرؤوا ولا أن يمسكوا القلم فى أيديهم ويحاولوا أن يكتبوا شيئا. وأحيانا ما نعجز تماما عن فهم أى شىء مما فى الورقة، وأحيانا أخرى يكتفى الطالب بتكرير جملة أو جملتين طوال الإجابة ظنا منه أننا لا نقرأ، بل نقيس بالشبر كما يقال. أما ضبط الكلمات فيَدُك منه والقبر.

لقد كتبتُ الكلام الماضى قبل بدء الامتحانات والتصحيح بقليل، ثم ها هو ذا الامتحان قد بدأ، وهأنذا أصحح مادة "الشعر العربى الحديث" للفرقة الرابعة. واليوم هو الخميس السابع من مايو 2012م، وقد استيقظت منذ قليل وصليت الفجر، واستعنت على الشقاء بالله وشرعت أصحح. ولكن إجابات كثير من الطلاب تلسعنى كالعقارب فيركبنى ألف عفريت، وأقوم من موضعى لأفتح الكاتوب رغم ما أخذته على نفسى من عهد ألا أفتحه إلا بعد الانتهاء من "مقطوعية" التصحيح الصباحية، إذ أشعر أنى سوف أختنق إن لم أضف إلى هذا الفصل ما أكتبه الآن بعد أن قرأت فى كراريس الإجابة ما قرأت. خذ عندك يا سيدى ما قرأته فى ورقة إجابة من إجابات الفرقة الرابعة  عما يقوله بعض مؤرخى الأدب عن البارودى من أنه لم يتعلم قواعد اللغة العربية فى الكتب بل تشربها من النصوص الشعرية وحدها، وعن وجود أخطاء لغوية فى شعر الرجل، إذ تقول الورقة: "ويرد الدكتور إبراهيم عوض على ذلك حيث يقول أنه لم يكن دكتور شوقى ضيف غير منصف فمن  من الشعراء والكتاب اللذين نظموا الشعر والأدب لم يخطأ قبل ذلك فهوا غير منصف فى ذلك أما عن الأخطاء التى نسبوها إليها قولهم: 1- تسكين  ياء المنقوص وياء المعتل المنصوبين  والرد على ذلك أنه كان فى العرب من يسكن ياء المنقوص فيصبح الإنسان غير منصف إذا إدعا أنه قد احتوى  بكل معاجم اللغة وعرف أسرار اللغة". ولا داعى لأن أقف بك أيها القارئ أمام الأخطاء الإملائية وركاكة التراكيب النحوية وانعدام الفقرات والعلامات الترقيمية، وإلا ما انتهيت فى يومى الذى يعلم به ربنا.

وخذ عندك هذا المثال الثانى الذى اصطبحت به على الصبح، وكأنى قد ارتكبت ذنبا إِدًّا يريد الله أن يعاقبنى عليه، إذ قرأت فى إحدى كراسات الإجابة ما يلى، وكان السؤال عن قصيدة فدوى طوقان: "إلى صورة"، وقرأت فى رأس الصفحة العنوان التالى: "د. عوض " بما يدل على أن صاحب الكراسة أو صاحبتها يجيب على سؤالىَّ أنا بعدما انتهى من الإجابة على سؤالى زميلى. ثم تلى ذلك عبارة "تحليل القصيدة الشاعرة  فدوى طوقان"، وهو ما يفهم منه أن صاحب الكراسة سوف يتناول تحليل قصيدة "إلى صورة"، لكنى أفاجأ بثلاثة أبيات محطمة وغير قابلة للفهم من قصيدة "المساء" لمطران ، ثم تعليق سريع عليها على النحو التالى: "هنا يكون الشاعر كتب بالتفرد والبكاء والعناء وذلك فى الأشواق  فى الصبابة والشوق وخوفا من استخدام العربه  والحستين  والاشواق  ولذلك فى المساء هو الشاعر كان جالش  على البحر بأحا  يعانى من المرض  والسقم ولذلك بانه الشاعر عندما جال العروب  وهو وحيدا قال متعردا ...  ولذلك هو باستخدام الاشياء المتامه عليه  قى  الشوق  والوحدة والمسقه ولدلل مطرانه الدى أجاد عليه الاشياء الكثيره المتأمه وربما بكثر ما بهم الاشكال والحس إلى موطنه وربما يقال انهم فى كل الاشياء والهواء...". ثم أنهى الطاب إجابته قائلا: "منه أشعار نجيب محفوظ  فى اللغه العربيه:

انا البحر فى أحشائه الدر كامنه      فهل سل الغواض عنه صدقاته" 

وهاك أيضا هذه الفقرة التى كتبها طالب فى الفرقة الرابعة تحت عنوان "سيد قطب وعلاقته بالعامية"، وأرجو ألايطوف ببال القارئ أبدا أن هناك خطأ من جانبى فى النقل، فقد نسخت الكلام كما هو بالحرف بأخطائه الإملائية والنحوية والصرفية والتعبيرية وبما فيه من تكرار لا معنى له: "لقد عبر عن أستنفاره من هذا وقد وجه نظره الى الفصحى لما فيه من سهولة فى التعبير وانها الاقد على تصوير العمل الادبى وانها من اسهولة أن يعبر النص عنها حيث إن حيث إن أستخدام العامية يؤدى إلى إثراء القرآن الكريم حيث إننا نتشبث بلغة القرآن الكريم التى وجودنا عليه نحن وأباءنا...". هل فهمت شيئا من هذه الشمهوريشيات؟ ومع هذا فلسوف يأتينى صاحبا هاتين الكراستين عندظهور النتيجة شاكيين أنهما قد حلا الامتحان بالنص، وكتبا ما فى الكتاب كلمة كلمة... إلى آخر ما نسمعه من الطلاب والطالبات عقب ظهور النتيجة. وبطبيعة الحال نحن الأساتذة نستأهل الحرق لأننا "حقوديون" كما كان يقول المعلم محمد رضا. ويتساءلون: لماذا لا تظهر جامعة عربية بين الجامعات الخمسمائة الأولى فى العالم؟ وجوابى: طبعا لأن الدول الأخرى ناس "حقوديون"، ولا يكفون عن "النَّقّ" و"القَرّ" علينا حتى أصابونا بالعين "إن شاء الله" ، فكان ما كان مما ذكرت بعضه، وأعرضت عن الكثير، والقلب يفيض بالمرارة على حالنا بين الأمم التى تنتمى إلى عالم "البنى آدمين"!

وخذ عندك هذا المثال الثالث، والكلام عن فدوى طوقان وقصيدتها البديعة: "إلى صورة": "حيث يقال أن خير الكلام ما قال ودل وهذا من أمثلتنا الشعبية فالكلام فى هذه القصيدة يوحى بالغموض وعدم الوضوح فهى نجعل  الصورة هى التى  تتحرك وتعبر عنا ما وهو شىء ما يلفت إنتباهنا عند أول الكتاب الشعر العربى الحديث للدكتور إبراهيم عوض بإنه يدل على شاعرة  معاوية الذين قد كانوا يعبرون من وحى  أخيالتهم المعنى المراد تعبيره وقد كان ينتبه  شىء من الغموض وعدم الوضوح فد  وجدنا الأفعال الأمر  (أحذرى )...". 

وقد لاحظت أن جميع كافات الخطاب والتاءات الأنثوية فى الكراسة قد كُتِبَتْ بعدها ياء: "رَآكِى، كلَّمَكِى، عَنْكِى...، أََكََْلِْتِى، لَعِبْتِى، نَظَرْتِى..." . وهذا هو مستوى الكثير من الطلاب، ولو قرصتُ عليهم لرسبت الأغلبية، وتصبح فضيحة. ورغم ذلك فهم يروننى صعبا جدا فى التصحيح. وتوجد على الفيس بوك شكوى مُرّة من أن امتحاناتى لا يمكن تخمينها. ولهذا يستغيث الطلاب بربهم أن يعينهم على هذا الأستاذ الذى لن يَرِيح رائحةَ الجنة فى نظرهم ولو على بعد سبعمائة خريف. وعبثا أشرح لهم، وأنا أضحك، أن الله لا يستجيب للمتخلفين الكسالى إذا ما دَعَوْا على من يريد النهوض بهم. لكنهم لا يفهمون هذا الكلام، ويظنون، عندما يرون أننى "زى الجن" لا أمرض ولا أموت، أن المسألة تحتاج فقط إلى الإلحاح فى الدعاء، وحينئذ يصيبنى الله بمرض يقعدنى فى البيت ولو لمدة السنوات الأربع التى يقضونها فى الكلية، وبعدها يصير لكل حادثٍ حديث! يا مُهَوِّن!

وأشهد أننى طوال السنوات الثمانى الأخيرة منذ أن عدت من قطر لم يحدث أن رأيت، فى يد أى طالب من الذى ينتشرون بالمئات فى حدائق الجامعة وفى ممراتها وفى طرقات الكلية ولا يحضرون المحاضرات، كتابا يوحّد الله. ومعظمهم يقضون وقتهم صائحين زائطين يغنون ويصفقون ويتشاتمون أو ينكّتون أو يلعبون "صَلَّحْ" أو يتراكلون علبة كوكاكولا بدلا من كرة القدم: الأولاد مع البنات. وأحيانا تأتينا صيحاتهم وضحكاتهم المزعجة، ونحن نلقى محاضراتنا، فنتأذى منها ولا نستطيع أن نمضى فى المحاضرة دون معاناة، فنكون محاصرين من الناحيتين: فالطلاب فى الداخل من جهة لا يهتمون بالدرس فيلعب بعضهم فى المحمول أو يتهامسون، ولا يبدو عليهم أى ضيق مما يسمعون من صياح وزؤاط، فكله عندهم ماشٍ، ونحن الأساتذة نحبّكها دون داع. والطلاب بالخارج من الجهة الأخرى يصيحون ويزيطون وكأننا فى سويقة! 

مرة واحدة يتيمة رأيت طالبا يبدو أنه من طلاب قسم اللغة الإنجليزية قد انتحى جانبا فى الطرقة التى تؤدى إلى قاعات الدرس، وفى يده كتاب إنجليزى يقرأ فيه وهو متربع. وفكرت أن أداعبه وأبدى له استغرابى من خروجه هذا الجميل على القاعدة المشؤومة، قاعدة كراهية الكتاب وبغض العلم وسيرة العلم والذين أبدعوا شيئا اسمه العلم والثقافة، لكنى عدت فقلت فى نفسى: لا داعى لإخراجه من المزاج الرائق الذى هو فيه. ثم إنه، إذا كلمته وأبديت استغرابى من سلوكه، قد يتذكر أنه طالب من طلاب هذا الجيل وأنه لا ينبغى له أن يعتزل زملاءه ويشذ عنهم فيقرأ كتابا، وتكون النتيجة أن يطوح بالكتاب من النافذة وينطلق يصيح ويزيط كما يصنع سائر الطلاب من حوله. وعلى هذا مضيت فى طريقى دون أن أفتح فمى بكلمة، وأبقيت على الجنيهات الخمسة التى كنت سأعطيها له، وربما أكثر منها، لو انفتح باب النقاش بينى وبينه إعجابا بعكوفه على قراءة كتاب فى هذا الجيل العجيب. 

والواقع أن الطلاب بوجه عام لا يستطيعون أن يقتنعوا بأية فائدة لأى علم يدرسونه: فمثلا لماذا ندرس النحو؟ فأقول لهم: قلة عقل من المسؤولين عن التعليم. أو ما فائدة الأدب المقارن ما دمنا لن ندرّسه للطلاب فى المدارس؟ فأجيبهم وأنا أوشك أن أفرقع من الغيظ: سخف منا وتعنت ورذالة. أو لأى سبب يا ترى ندرس الترجمة، ونحن طلاب فى قسم اللغة العربية لا الإنجليزية؟ فأرد وقد فاض بى الكيل: وكيف أكسب أنا رزقى إذا عقلت الجامعة واستجابت لرغبتكم وأبطلت هذه المواد وقلصت بناء على هذا أعداد الأساتذة وسرحتهم إلى بيوتهم قائلة لهم: نحن لسنا مسؤولين بعد اليوم عنكم، وعليكم تدبير عيشكم بعيدا عنا لأن الطلاب لا يريدون أن يَرَوْا وجوهكم النكدة؟ ثم إنكم يا أولادى إذا أردتم ألا تَدْرُسوا شيئا لن تدرّسوه للتلاميذ فى المدارس فلا داعى لأن تَدْرُسوا سوى مبادئ القراءة والكتابة، وإن كنت متأكدا أنكم سوف تتمردون فى هذه الحالة مطالبين بتقليل المقرر أكثر من هذا منعا للصداع ووجع الدماغ. ولقد أنبأنى بعض الطلاب والطالبات فعلا بأنهم، حين يحاولون الاستجابة لنصائحى وقراءة كتاب استجابة لما أزنّ به عليهم دائما، يشعرون بصداع فى رأسهم. ولهذا أقول للطلاب فى كثير من الأحيان وأنا أضحك: أنا أحسدكم على أمخاخكم النظيفة. أما أمخاخنا نحن فملوثة. نعم ملوثة ببقع العلم والتفكير التى عافاكم الله منها. والمصيبة أنهم يكتفون بالنظر إلىَّ غير مبالين أن يقولوا كلمة واحدة تعليقا على ما يسمعون. لقد "كبَّروا أمخاخهم" بتعبير العصر!

ولكى أعطيك، أيها القارئ، فكرة عن مستوى بعض الطلاب فى التفكير حسبما تعرضه ورقة الامتحان أقول لك إن معظمهم يلقب أى كاتب مهما كان العصر الذى ينتمى إليه بلقب "دكتور": فسيد قطب دكتور، وجرجى زيدان دكتور، والشيخ الغزالى دكتور، والعقاد دكتور ، والرافعى دكتور، والمازنى دكتور، والشيخ حسين المرصفى دكتور، ورفاعة الطهطاوى دكتور... وهذه هينة، لكن الطامة الكبرى فى قولهم: الدكتور الطبرى، والدكتور القرطبى، والدكتور السيوطى، والدكتور ابن حزم، والدكتور الجرجانى، والدكتور القشيرى، والدكتور امرؤ القيس، والدكتور عمر بن أبى ربيعة. ولم يبق إلا أن يقولوا، وأعتقد أنها آتية فى الطريق عما قليل: الدكتور أبو بكر الصديق، والدكتور عمر بن الخطاب، والدكتور عبد الله بن العباس... ولا داعى للصعود أعلى من الصحابة. أما أسماء الكتاب والعلماء فإنها قصة وحدها، فعمر الدسوقى أو عبد العزيز الدسوقى يصبحان إبراهيم الدسوقى (لا حرمنا الله بركاته!)، ومحمد حسين هيكل يتحول بقدر قادر إلى أحمد هيكل، وعلى مبارك يصير زكى مبارك، وعلى الحديدى يُضْحِى على حداد أو على الحريرى، أو الحدادى فقط (بدون "على")، وحافظ إبراهيم يمسى أحمد حافظ أو نجيب محفوظ، وأدونيس يستحيل إلى "أندونيش" وأندويس" و"أندونتس" وغير ذلك من الصور التى لا يمكن أن تخطر فى عقل عاقل والتى أتت كلها فى ورقة إجابة واحدة ، وابن فطومة (فى رواية نجيب محفوظ: "رحلة ابن فطومة") يُمْسَخ إلى "ابن فطوطة"، و"سخرية الناى" لمحمود طاهر لاشين تتشوه فتصير "سخرية الناس" لشاهين، والآجُرُّوِمّية تُكْتَب: "أجلومية"، والضابط: "ظابط"، ونَظْم الشعر: "تنظيم الشعر"، ويَصِف: "يوصف" ... وعلى ذلك فَقِسْ.  

أما تحديد العصر الذى يعيش فيه الأديب فمهزلة: مرة تطرق الكلام فى محاضرة للفرقة الثالثة إلى توفيق الحكيم، فأردت أن أداعب الطلاب، فسألتهم: فى أى عصر كان يعيش يا ترى؟ العصر المملوكى أم العصر الأموى أم العصر العباسى الثانى...؟ وطبعا كان هناك من يعرف الجواب، الذى ينبغى أن يعرفه الطفل فى بطن أمه. لكنى إنما أتكلم عن المستوى العام. وهنا سمعت مرة أنه مملوكى، ومرة أنه أيوبى، ومرة أنه من صدر الإسلام. والمصيبة أن الطلاب والطالبات كانوا جادين تمام الجِدّ ويجيبون بملء ثقتهم، على حين يضحك العبد لله بمرارة ما بعدها مرارة. وكتب أحدهم (أو إحداهن) فى امتحان هذا الفصل فى مادة "الشعر العربى الحديث" عن البارودى ما نصه حرفيا: "رغم من البارودى كان من اسرة غنية إلا أنه كان يتعلم الشعر ويجيده وأصبح من المماليك وصهرا للدولة المملوكية" . 

وفى نفس هذه المادة وجدت فى ورقة إجابة أخرى ما يلى. وسوف أنقل ما وجدته كما هو إملائيا وترقيميا ولغويا دون أى تدخل من جانبى ما عدا أن خط الكاتوب جميل، فى حين أن خط الكراسة فى منتهى القبح. وكان السؤال يتعلق بالبارودى والنحو: هل يا ترى تعلمه من النصوص الشعرية القديمة مباشرة ولم يدرسه فى الكتب الخاصة به؟ أم هل سبق أن تعلمه فى المدرسة والبيت؟ وهل هناك أخطاء نحوية فى شعره؟ أم هل من الممكن توجيه ما يظنه بعض الدارسين أخطاء؟ يقول الطالب أو تقول الطالبة: "البارودى من مؤسسين علم النحو وهو الذى وضع قواعد كثيرة فى النحو واهتم به اهتماما بالغا وأنشئ مدرسه خصيصا لعلم النحو وحلل قواعد كثيره فيه وساهم فى تفسير القرآن الكريم نحويا وإستخرج مفاهيم الكلام التى تحتاج تفسير فى القرأن الكريم وفسرها عن طريق النحو وهو الذى دعم قواعد منها قاعدة المبتدأ والخبر وقاعدة إسم المفعول وإسم الفاعل والتميز والنعت والمنعوت، إهتم البارودى إهتماما بالغا بالنحو والصرف. وهو الذى وضع مفاهيم القواعد النحويه المعقده وشرحها ووضع شرحها فى كتب ومجلدات ويسمى البارودى بإسطورة النحو وكان ضليع فى تفسير الألفاظ النحويه المبهمه التى كانت تحتاج تفسير نحوى هو الذى كان يفسرها، لذلك يعد البارودى من مؤسسين علم النحو شرحا وتفسيرا. ويعد من النابغه فى تفسيره وتاويله وشرحه وتوضيحه". وفى ورقة ثالثة من نفس المادة نقرأ هذه الدرة العبقرية: "وكان للبارودى مدائح كثير فى النحو والصرف وكان من ضمنها اشعار ليست بالقليله مما يبعث إلى انه كانت اشعاره مليئه بالحكم والمواعظ".

وكتب طالب فى امتحان مادة الترجمة قبل عدة سنوات إنه عندما جاء الإسلام آمن به النبى محمد. وكتب آخر فى نفس هذه المادة إن رائحة النبى محمد كانت كريهة. قال هذا ترجمةً لقول النص الإنجليزى إن النبى كان حريصا على استعمال العطر فى بيئته الحارة كى تظل رائحته دَوْمًا زكية، فأتى الطالب العبقرى فقلب الكلام رأسا على عقب. وعبثا تتساءل: أين ذُهِب بذوق هذا الطالب ما دام عقله لم يسعفه بما يصح أن يقال؟ كما أن كثيرا من كلام الطلاب فى أوراق الامتحان عبارة عن طلاسم لا يمكنك أن تفك شفرتها، وكأنك أمام شخص يغمغم لنفسه. أما إذا أخطأتُ فى المحاضرة وطلبتُ من أحد الطلاب أو إحدى الطالبات أن تقرأ فإنه يعجز فى الغالب عن نطق أية كلمة لا تستعمل فى الحياة اليومية أو معرفة معناها.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 79 مشاهدة
نشرت فى 27 سبتمبر 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

32,204