الـــذوق الأدبى

 د. إبراهيم عوض

إذا أُطلقت كلمة “الذوق” ومشتقاتها انصرف الذهن من فوره إلى الطعام والشراب وتذوق الإنسان لهما عن طريق الفـم ، واللسان هو حاسة التذوق ، ومن هنا رأينا “لسان العــرب” مثلا يفسّر “المــذاق” بأنه “طعم الشيء” ، و “الذَّوَاق” بـ”المأكول والمشروب” , كما جاء في التعريفات للجرجاني أن “الذوق” هو قوة منبثة في العصب المفروش على جِرْم اللسان تُدّرَك بها الطعوم بمخالطة الرطوبية اللعابية في الفم للطعوم ووصولها إلى العصب , وبالمثل نجد “المعجم الوسيط” يحدد “الذوق” بأنه “الحاسة التي تُميَّز بها خواص الأجسام الطعمية بوساطة الجهاز الحسّي في الفم , ومركزه اللسان” .
فالكلمة ذات أصل ماديّ ككثير من الكلمات الأخرى كما نرى , ثم اتسع معناها بحيث لم تعد تقتصر على الطعام والشراب فقط , بل أصبحت تُطْلَق على ما يدركه الإنسان من خلال حواسّه الأخرى , ثم ما يدركه بعقله ووجدانه . وقد نص “لسان العرب” مثلا على ذلك بقوله : “من المجاز أن  يُستعمل الذوق , وهو ما يتعلق بالأجسام , في المعاني” , ثم ضرب لذلك قوله عزّ شأنه : “فذاقوا وبال أمرهم” . كما أورد عدداً من العبارات التي توسَّع العرب فيها في استعمال هذه اللفظه كقولهم : “ذقت ما عنده” , أي خبرتُه ، وقولهم : ” أمرٌ مستذاق” , أي مجرب معلوم
وإذا كان قد روي عن ابن الأعرابي ( حسبما ورد في “لسان العرب” ) أن “الذوق يكون بالفم وبغير الفم” فليس المقصود , فيما أحسب , أن هذا هو المعنى الكلمة في أصل وضعها ، بل المراد أن هذا هو ما انتهى إليه الإستعمال . أي أن العربية قد انتهت إلى استخدام “الذوق” في المأكولات والمشروبات والملموسات والمسموعات والمرئيات والعقليات والوجدانيات , فأصبحنا تقول ، كما جاء في “لسان العرب” , إن “ما نزل بالإنسان من مكروه فقد ذاقه” , و “ذق هذه القوس” , أي شُدّ وترها لتخبر مدى لينها أو شدتها , وهو ما عبّر عنه الشماخ بن ضرار الشاعر المخضرم بقوله عن قوس رام صاحبها أن يجرّبها :
فذاق فأعطته من اللين جانباً               كفى ولها أن يُغْرِق النّبْلَ حاجِز
ومنه قولهم : “ذاق الرجل عُسَيْلة المرأة” , “وذاق فلان حنان أمه صافيا” , أو “تذَّوَق القصيدة أو اللوحة أو الأغنية” , أو ” اليتــم مرّ المذاق” , أو “فلان ليس عنده ذوق” , أي في سلوكه أو كلامه جلافة تصدم النــاس وتنفرهم منه لعدم مراعاته الآداب المتعارف عليها في التعامل بين الناس . ومن ذلك أيضا قول الواحد منا إنه  لا يستطيع تذوق مادة الكيمياء أو الجغرافية أو كتابات الكاتب الفلاني أو أفلام الرعب أو المسرحيات المكتوبة بالعامية أو المدرسة السريالية أو التجريدية في التصوير …. إلخ , وهو ما يدلنا على مدى الاتساع الشديد الذي اتسعته هذه الكلمة  بحيث أضحت تضمّ كل ألوان الطيف في عالم الإحساس الجسمي والشعور الوجداني والإدراك العقلي . وفي ضوء هذا يمكننا فهم ما أورده الزبيدي في “تاج العروس” عن بعض مشايخه من أن “الذوق”هو”مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة , ولا يختص ذلك بحاسة الفم في لغة القرآن ولا في لغة العـرب”
أما متى بالضبط انتهى الأمر إلى التوسع في معنى “الذوق” على هذا النحو فليس في مكنة أحد الوصول إلى الإجابة عليه لأن ذلك يحتاج إلى نصوص مدوّنة تُواكِب اللغة منذ ميلادها , وهو ما لا وجود له في حالتنا هذه . ومع ذلك فإن في شعر الجاهليين و المخضرمين شواهد غير قليلة على استعمال كلمة “الذوق” خارج دائرة المطعوم والمشروب , وأحيانا خارج دائرة الإحساسات الجسمية كلها . ومن هذه الشواهد قول عنترة :
فإذا ظُلِمْتُ فإن ظُلمَى باسلٌ              مُــرٌّ مذاقتــه كطعـم العلقــمِ
وقول طفيل الغنوي :
فذوقوا كما ذقنا غداة محجَّر            من الغيظ في أكبادنا والتحوُّبِ
وقول ابن مقبل :
أو كاهتزاز رُدَيْنيٍّ تذاوقه            أيدي التجار فزادوا متنه لينا
وقول نهشل بن جرّيّ :
وعهد الغانيات كعهد قيمٍ                ونَتْ عنه الجعائلُ مستذاقِ (1)
وقول الشماخ بن ضرار عن قوس :
فذاق فأعطته من اللين جانباً               كفى ولها أن يُغْرِق النّبْلَ حاجِزُ (2)
كذلك فمن بين المواضع التي وردت فيها هذه الكلمة أو مشتقاتها في القرآن المجيد ، وهي تربو على الستين موضعا ، لا نجــدها قد استُعْمِلت في الطعــام والشــراب إلا في نطــاق جد ضئيل لا يعدو ثلاث آيــات هي :”فلما ذاق الشجرة” (3) , “لايذوقون فيها بـــردا ولا شرابا” (4) , “هذا , فليذوقوه , حميـــم وغسّـــاق” (5) .
أما بقية المواضع فقد استُعملت فيها الكلمة خارج ذلك النطاق , مثل : “فذاقت وبـــال أمرها” (6) , “ذاقـــوا بأسنان” (7) , “وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله” (8) , “بدلناهم جلودا غيــرها ليذوقوا العذاب” (9) , “وذوقوا عذاب الحريق” (10) , “ذوقوا ما كنتم تعلمون” (11) , “ذوقوا فتنتــكم” (12) , “وقوامسٌ سقــر” (13) , “فأذاقها الله لباس الجوع والخوف” (14) , “فـأذاقكم الله الخزي في الحياة الدنيا” (15) , “أذاقكم منه رحمة” (16) , “كل نفس ذائقة الموت” (17) , والملاحظ أن بعض مترجمي القرآن يبقون على كلمة “الــــذوق” في اللغة التى يترجمونه إليها حين يكون الحديث عن ذوق الوبال أو البأس أو العذاب أو الرحمة مما يستعمل فيه “الــــذوق” مجازا كما فعل مثلا مترجمو تفسير القرآن الذي قام به العالم الهندي الشهير مولانا أبو الكلام أزاد (18) إلى اللغة الإنجليزية , وذلك على عكس ما صنعته مثلا د . زينب عبدالعزيز في ترجمتها كتاب الله الكريم إلى الفرنسيـــة ، فإنها في الآيات التي اسُتْعِمل فيها “الذوق” للعذاب مثلا قد ترجمته بكلمة Subir “ “, ومعناها  “التحمــل والمكابدة” , رغم أن الفرنسيين والإنجليز يستخدمون لفظ “الذوق” في المعنى أيضا كما سنرى بعد قليل , فلـم يكن هنا إذن داع إذن لتنكُّب هذه الكلمة في ترجمة الآيات المذكورة (19) .
فإذا تحوّلنا إلى أحاديث الرسول عليه الصلاة والسـلام فإننا نجد أنها , في  استعمـــالها لهذه الكلمــة , لا تختلف عن القـرآن الكريـــم , وهذه بعض أمثلة على ما تقول : ( ذاق طعم الإيمـــان من رضى بالله … ) (20) , ( وذاق بعضهم بأس بعض ) (21) , ( حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) (22) , ( لا أذاقه الله عذابا أليـــما ) (23) , ( أذقْتَ أول قرين نكالا , فأذِقْ آخرهم نوالا ) (24) , ( إني وجدت الموت قبل ذوقه ) (25)  , ( إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات ) (26) .
وليس هذا الأمر بمقصور على لغة الضاد , ففي لغـــة جون بول يستخدمون كلمة “Taste” لـــذوق الطعام والشراب , ومن ثم نراهم يقولون : “ Taste – buds” الحُلَيْمات الموجودة على سطح اللسان , والتي من خلالها تتم عملية تـذوق الطعام والشراب . لكنهم يستخدمون الكلمة أيضا في “الرغبة والميل والتجربــة وأدب السلوك” وما إلى ذلك , كما في قولهـم : I have no taste for excitement” : لست من عشــاق الصخب” , و He has never tasted defeat” : لم يـذق طعم الهزيـــمة قط” ,وA man of taste” : رجل سليم الذوق” .و في الفرنسية يقولون : “gouter” للتصبيرة التي يتناولها الإنســـان , وفي ذات الوقــت نراهم يقولون إن فـــــلان عنده  gout pour la peinture”: ميــل إلى الرســـم ” أو إنه : s`habiller avec gout” يتأنق في ملابسه” أو : gouter la musique” يتذوق الموسيـقى” أو : gouter les tous métiers” جرّب جميع المهـــن” أو : gouter la mort” ذاق المـــوت” . كما يصفون لـــوحة مثلا بأنــها : taleleau dans le gout moderne” لوحة حسب الطراز الحديث” ,  أو يقول الواحد منهم معبرا عن رأيه في مسألةٍ ما : : a mon  gout” في رأيي , أو من وجهة نظري ” … وهكذا .
ولعل القارئ قد تنبّه إلى أن الفرنسيين يستخدمون للتصبيرة عندهم كلمة “gouter” أي أن التــذوق عندهم إنما يقع على القليل من الطــعام والشراب , وهو ما نجده عنـــدنا أيضا , ففي “تـــاج العروس” مثلا أن “أصل الذوق فيما يقل تناوله , فإن ما يكثر منه ذلك يقال له : الأكل” , وأن القرآن إذا كان قد اختار لفــظ “الذوق” للعذاب الأخروي رغم طوله وشدته على عكس ماهو متعارف عليه من أن “الذوق” للقليل , فلكي يُعْلِِم أن الكلمة صالحة مع ذلك للكثير أيضا .
والواقع أن المسألة تحتاج إلى شي , من التفصيل , إذ لا ريب في أن التذوق قد يقع فعلا بلقمة طــعام أو رشفة شراب , لكن إذا كانت هناك مثلا مأدبة حافلة بالآكال والمشاريب المختلفة ومدعوٌّ لها طائفة من الأصدقـاء المقربين ليتناولوا طعامهم على ضوء الشموع وأنغام الموسيقى في الوقت الذي يقدَّم لهم الطعام طبقاً بعد طبق , فإن التذوق في هذه الحالة لا يتم بالقليل , أو لابد أن يأخذ الطاعم راحتـــه ليستمتع بهذا الجـــوّ ( أو فلنقل : “ليتذوقه” ) كما ينبغي . وبالمثل لا يستطيع قـارئ القصيدة أو الروايـــة أن يتذوقها بمجرد قراءته لسطــــر أو سطرين أو صفحة أو صفحتين أو فصـــل أو فصلين , بل لثلاثة فصول أو أربعة … , بل لا مناص من إتمـــام المطالعة إلى نهاية العمل , وربما احتاج الأمر بعد ذلك كله إلى معاودة مطالعته ثم التأمل المستأني له كي يقـــدر على النفوذ إلى أغواره وقممه وتذوقه كما يجب. أي أن المسألة نسبية : فإذا كان المقصود مجرد الإحساس بطعــم الأكل أو الشرب ففي هذه الحالة تكفي لُمْجة , أما إذا أريد الاستمتاع الحقيقي فلا مفرّ من أكلةٍ تُتناول علـــى مهل ويتخللها الحديث الودود مع الحاضرين على خلفية من الموسيقى …إلخ . وهكذا كله في الأكل والشــرب , أما في ميدان الأدب والفنون فإن الأمر يحتاج بكل تأكيد إلى طويل وقت حتى ينتهي المتذوق من قراءة العمـل أو استماعه أو تأمله إلى نهايته .
والآن , وبعد أن تعرضنا لمعنى كلمة “الذوق” حقيقة ومجازا , نشير إلى أن “الذوق” يحتل عند المتصوفة وفي الآداب والفنون والنقد مكانة متميزة , فهو لــدى العارفين “منزل من منازل السالكين أثبت وأرســـخ من منزلة الوجد” كما جاء في “تاج العروس” . وقد عرّفه الجرجاني في “تعريفاته” بأنه “عبارة عن نور عرفـــاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيــره” . أما في “الاصطلاحات الصوفية” لكمال الدين فـ”الذوق” هو أول درجات شهود الحق بالحق في أثناء البــوارق المتوالية  عند أدنى لبث من التجلي البرقي . فإذا زاد وبلغ أوسط مقــام الشهـــود يسمــى “شربا” . فإذا بلغ النهاية يسمَّى “ريّـــا” , وذلك بحسب صفاء الســـرّ عن لحــــوظ الغير” حسبما نقله التهاوني في “كشــاف اصطلاحات الفنون”.
وفي المادة التي خصصتها “الموسوعة الفلسفية العربية” لكلمة “ذوق” يذكر د . أبو الوفا التفتازاني أن هذا الاصطلاح يشير إلى طبيعة المعرفة عند صوفية للإسلام , “فهي عندهم ليست حسية أو استدلالية عقليــة , وإنما هي حاصلة عن طريق الذوق” , ويمضي قائلاً إن استخدام هذا المصطلح يعود إلى تاريخ مبكـــر , إذ أورده القشيري في رسالته وذكر أنه يمثل المرحلة الأولى من مراحل ثلاث هي على التــــوالي : “الذوق” , أي فهــم المعاني , ثم “الشرب” , وهو السكر بالأحوال , ثم “الريّ” , ويعرفونه بأنه “صحو بالحق يقترن بالفنـــاء عن كلّ حظّ” (27) .
وهذا الكلام يعيدنا إلى ماقيل في تعريف “الذوق” لغويا من أنه إنما يختص بالقليل , بخلاف ” الأكـل” فإنه للكثير , وإن كان المتصوفه قد استعاضوا عن “الأكل” بـ”الشرب” اتساقاً مع حديثهم عن الخمر الإلهيـة , إذ الخمر تُشْرَب ولا تؤكل . وقد بينا رأينا في مسألة القلة والكثرة بالنسبة للذوق , وليس من داعٍ إلى إعـــــادة القول فيه كرة أخرى . لكن لابد من أن تقول كلمةً في تفسيرهم للذوق , إذ يتحدثون , كما نرى , عن تجلي الله في قلوب أوليائه . فإن كانوا يقصدون أن المتصوف يشاهد الله سبحانه فهو كلام غير مقبول , إذ إن موسى عليـه السلام , على جلال النبوة , لم يتحقق له ذلك وخرَّ صعقاً عندما تجلى ربه للجبل كما جاء في الآيه 143 من سورة “الأعراف” , كما أكدت عائشة رضي الله عنها أن من ادّعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه فقــد أعظم الفِرْية . فكيف يزعم المتصوفة لأنفسهم ما لم يقع للأنبياء ؟
كذلك فقولهم إن “الذوق” الذي يعانيه الصوفي يغنيه عن إدراكات الحواس والدراسة وقراءة الكتـــب والتفكير العقلي هو أيضا دعوى جامحة تتسم بالغلو ولا تستحق غير الرفض , لأن هذه الحالة لا تتحقق لغيــر الأنبياء , إذ ينزّل الله سبحانه عليهم وحيه  فيقوم لهم مقام الكتب والدراسة بالنسبة لنا نحن البشر العادييـــن , الذين لا يمكننا اكتساب أية معرفة إلا من خلال القراءة و الاستماع وسائر الحواس , فضلاً عن التجارب الــتي نـمرّ بها في رحلة الحياة . وعلى هذا فأي شعورٍ يحسّه المتصوف مما يزعمونه تجليا لله سبحانه على قلبه ليــس إلا محصلة ما اكتسبه من معارف تعلمها من الكتب أو أخذها عن المشايخ أو استقاها من تجارب الحياة اليومية ومــا أداه إليه عقله من أفكارٍ و وجدانات . هذه هي حقيقة الأمر , ولا شيء غير ذلك ! ولو أنهم قد عرّفوا “الذوق” بأنه اللذه التي يشعر بها الصوفيّ جراء إخلاصه في عبادته وإقباله على ربه إقبال الخشية والإخبات , أو زهـده في حطام الدنيا وقيامه على مساعدة المحتاجين والضعفاء بما يملك من مالٍ أو صحة أو علم مثلا , لقلنا : نعم , ونَعام عين ، أما تلك الدعوى الجامحة فكلا وألف كلا !
ولعل هـــذا ما تومئ إليه كلمات د . التفتــــازاني حيـــن ذكر أن المعرفة عند أهــل التصوف “ذات طبيــعة وجدانية ذاتية تماما” , وأن “اعتبار المعرفة الصوفية ذوقا يجعل من التصوف شيئا أقرب إلى الفن , الذي يقوم على الخبرة الذاتية والمعاناة , منه إلى العلم . وهذا يفسر اختلاف الصوفية في التعبير عن معارفهم لأن كل صوفي إنما يعتمد في التعبير على ذوقه الخاص وتجربته الشخصية” (28) .
ومع ذلك فالملاحظ أن تعريف الصوفيين للذوق لا يقف به عند الناحية الوجدانية فقط بل يمده ليشمل الجانب العقلي أيضا , وهو ما يصدق على “الذوق” في مجال الأدب , بخلاف تــذوق الطعام أو الموسيقــــى أو النسيم العليل أو العطر وما أشبه مما لا يحتاج الإنسان معه إلى أن يفهمه بعقله قبل أن يتذوقه . أستبــق فأقــول هذا الآن قبل أن أعود إليه بالتفصيل فيما يأتي من صفحات لأن بعض النقاد في الآونة الأخيرة يدعــون إلى أن يدخل القارئ على العمل الأدبي مباشرة دون محاولة الاستعانة على فهمه بالاطلاع على أخبار مُبْدعه مثـــلا أو معرفة الظروف التي أحاطت بإبداعه …. إلخ , وهو ما يقف بيقين حاجزا بين القارئ وتذوق النص , لأنه في مجال الآداب لا تذوُّق دون فهم . كما أنه كلما زاد فهم النص والتغلغل في أغواره وأبعاده ازدادت اللذه الحاصلة مـن تذوقه .
وقد استُعْمِلت كلمة “الذوق” في النقد العربي القديم متذوقت مبكر : ففي مقدمة “عيــار الشعــر” مثلا لابن طباطبا العلوي (ت322 هـ ) نقرأ أن الشعر “كلام منظوم بائن عن المنثور الذي يستعمله النـاس في مخاطبتهم بما خُصّ به من النظم الذي إن عُدِل به عن جهته مجّته الأسماع وفسد في الذوق . ونظْمه معلوم محدود , فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانه على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه , ومن اضطرب عليـــه الذوق لم يستغن عن تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به حتى تعتبر معرفته المستفاده كالطبع الـذي لا تكلف فيه” (29) . وفي “دلائل الإعجاز” لعبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ ) يقابلنا على سبيل المثال هذا النص الذي يقول فيه ذلك الناقد الكبير : ” واعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب (30) موقعا من السامع ولا يجــد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة فأما من كانت الحالان والوجهان عنده سواء … فما أقل ما يجــدي الكلام معه . فليكن من هذه صفته عندك بمنزلة من عدم الإحساس بوزن الشعر والذوق الذي يقيمه به والطبع الذي يميز صحيحه من مكسوره … “في أنـك لا تتصدى له ولا تتكلف تعريفـه”(31). بــل إن ابن الأثيــر (ت 637هـ) “الــذوق السليـم”, ويقصد به الملكة الفطرية التي يدرك بـــها الإنسان مواطن الجمــال في الأدب , و “ذوق التعليم” , وهو الـــذوق المصقول الذي درس صاحبه قواعد البلاغة والنقد . يقول : “اعلم أيها النـاظر في كتابي أن مـــدار علم البيــان على حكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم” (32) . كذلك نقـرأ لابن أبي الحديد (ت     ) أن ” معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق من الكلام لا يدرك إلا بالــذوق , ولا يمكن إقامة الدليل عليه” (33) . وبالمثل نرى ابن خلدون يجعل مدار البلاغة على الذوق , إذ يقول : ” اعــلم أن لفظة “الذوق” يتداولها المعتنون بفن البيان , ومعناها حصول ملكة البـــلاغة للســان , واستعير لهذه الملكة عنــدما ترسخ وتستقر اسم “الذوق” ، الذي اصطــلح عليه أهــل صناعة البيــان , وإنما هو موضــوع لإدراك الطعوم . ولكن لما كان محل هذه الملكة في اللســان من حيث النطق بالكــلام , كما هو محل لإدراك الطعــوم , استعير لها اسمه . وأيضا فهو وجدان اللسان , كما أن الطعوم محسوسة له , فيـــقل له : ذوق” (34) … وهـــكذا .
أما بالنسبــة للنقــد الأوروبـــي فقد جــاء في “A Dictionary of Literary Terms” أن لفظــة “الذوق : taste” قد أصبحت مصطلحا نقديا أواخـر القــرن السابع عشــر الميلادي , إذ نجد مثلا في كتــاب “Les caractees” للنــــــاقد الفرنســــــي لابرويــــــــير أنـــــه في الأمـــــــور الفنــيــــــة : il y a donc un bon et un mauvais gout” هناك ذوق سليم وذوق فاسد” , كما يحدد إديســـون في بداية القرن الثامن عشر الميلادي “الذوق” بأنه تلك الملكة النفسية التي من شأنها إدراك نــواحي الجمــال في نتــاج كاتب ما والتلذذ بها , وكذلك الالتفات إلى جوانــــب النقــص فيه والنفــور منها . ثــم استقــر هذا الاصطــلاح في ميدان النقــد الأدبي في القرن الثــامن عشر لينـــتشر بعد ذلك في الكتابــات التي تبحث في فلسفــة العلــوم والجمال(35).
ويـــــؤكد هــذا ما جاء في كـــل مـن “Gerand Larousse de la Langue Francaise”(36)  و“The Oxford English Dictionary”(37) , إذ يقول قاموس لاروس الكبــير إن استعمال كلـــمة “gout” للدلالة على الملكة التي ندرك من خلالها الجمال والقبح , وكـذلك الكمال والنقــص في الإبداع الأدبي والفني , يرجع إلى أواسط القرن السابــــع عشر . وهو يستشــهد على ذلك بعبارات مأخــوذه عن فولتـــير وتين و لابرويير وغيرهم . كما نقرأ في قاموس أكسفورد أن دلالة كلمة “taste” على الشعور بما هو لائــق او منسجم أو جميل , وعلى القدرة على إبصار الجمال وتقديره سواء في الطبيـــعة أو في ميــدان الفنون , وعلى نحو خاص الملكة التي ندرك بها و نستمـتع بما هو ممتاز في الفــن و الأدب وما أشبــه , يعود تـاريخها على القرن الســابع عشر . وقد مثــل لهذا بنصّ من ملتون و آخر مــن كونجريف في ذلك القرن .
والملاحظ أن بعض النصوص التي تتحدث عن “الذوق” بمعناه الأدبي والفني تحصر مهمته في إدراكه الجوانب الجميلة في العمل الأدبي والفني , غافلاً عن أن الذوق في معناه الأصلي , أي ذوق المطعوم والمشروب , لا يقتصر على الحلو وحده بل يشمل الحلو والمرّ والمِلْح والمزّ والحامض … إلى آخر الطعوم . وليس يُعْقل أن تكون وظيفة الذوق الأدبي هي إبصار الجميل فقط , بل الجميل والقبيح , والحسن والرديء , والممتع والمنفّر .. وهلم جرا . وهذا من الوضوح بمكان بحيث يعجب الإنسان كيف فات أولئك النقاد الالتفات إليه , فقارئ النص الأدبي أو الناظر إلى اللوحة المصورة أو المستمع إلى القطعة الموسيقية مثلا قد يجد في العمل الذي بين يديه ما يسره ويثير نشوته وأريحيته , أو قد يجد فيه ما يهيج منه النفور ويجعله يلوي عِطْفه و يزورّ بوجهه ضيقاً وضجرا . ومبعث هذا وذاك هو الذوق الأدبي أو الفني . ومن النصوص التي قصرت الذوق على إدراك الجوانب الجميلة في الإبداعات الأدبية والفنية ما جاء في “Current Literary Terms” من أن الذوق “taste” هو الملكة التي ندرك بها ونحبّ ما هو جميل , وبخاصة في الآداب والفنون “(38) . ومثله ما يقوله د . جميل صليبا في تعريفه للذوق الأدبي بأنه “قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ومحاسنه الخفية”(39) .
ومن هنا فإننا مع التعريف الذي سـاقه د . جبور عبدالنور للذوق الأدبي من أنه “ملـــكة الإحســـاس بالجمال والتمييز بدقة بين حسنات الأثر الفني وعيوبه وإصدار الحكم عليه”(40) . والواقع أن الإنسان لا يستطيع أن يميز الجمال ويستمتع به إلا إذا كان قادرا في ذات الـوقت على تمييز القبح والإشمئزاز منــه , فبضدها تتــميز الأشياء كما هو معروف .
بَيْد أن القارئ لا يمكنه تذوق العمل الأدبي إلا إذا فهمه أولا , وذلك على العكس من تذوق الطعـــام والشراب أو الإستمتاع بالعطر الفواح أو الانبهار بمنظر البحر عند الغروب أو الضيــق بالأصوات المزعجة أو الاشمئزاز من رائحة الجيف المنتنة مثلا , إذ الشعور بتلك الأشياء والتــلذذ بهــا أو النفور منها لا يحتــاج إلى أن نفهمها أولا بل يقع مباشرة و دون الحاجة إلى بذل أي جهد من جانبنا . وفهم العمــل الأدبي يقتضــي أولاً أن نفهم اللغة التي كُتِب بها , وأن نفهم ثانيةً مضمونه . ويزداد فهمنا له ويعمـق إذا أضفنا إلى ذلك معرفة كل ما نستطيع الوصول إليه من معلومات تتعلق بمبدعه بالظروف التي أبدعه فيها…إلخ
ولا ريب أن القارئ إذا لم يكن عارفا باللغه التي كُتِب بها العمل الأدبي فلن يفهم منه شيئا , ومن ثــم لن يكون بمقدوره أن يتذوقه . على أن يكون مفهوماً أن معرفة اللغة درجات متفاوتة , فمنّا من يعرف اللغة التي ينتمي إليها العمل الأدبي معرفة عامةً دون أن يفهم نحوها وصرفها مثلاً أو يعرف شيئا عن بلاغتها في التعبـير , كما قد يكون محصوله اللغوي من الألفاظ والتعبيرات غير كافٍ , أو ربمـــا لم يكن مهيأ للتعامل إلا مــع لغــة العصر الذي يعيش فيه بحيث لا يستطيع أن يفهــــم أي عمــل أدبي ينتسب إلى عصــر من العصور الأدبيــة السابقة…إلخ . ترى هل يستطيع القارئ العادي في عصرنا هذا أن يفهم قصيدة من قصائد الشعر الجاهلي مثلا؟ الجواب : “كلا” بكل تأكيد . وهل يستطيع القارئ الذي لا يعرف شيئاً عن البــحر والسفن أن يفهم , كـــما ينبغي أن يكون الفهم , روايةً تصف حياة البحارة على ظهر السفن والمحيطات والعمــل الذي يؤدونه في مثــل هــذه الظروف ؟ لا أظن ذلك . ولقد حاولتُ منذ نحو عشرين عــــاماً قراءة رواية “موبي دك” لهرمان ملفــيل ( الكاتب الأمريكي المعروف ) في لغتـــها الأصلية , وهي تدور على حياة البـــحر , ومضيت في قراءتــها إلى منتصفـــها تقريبا . إلا أن غرابة الجوّ الذي تتحدث عنه , سواء على أثباج الموج أو في الحانات التي يرتادها بحارة السفينة , وكذلك جهلي المطلق بالمصطلحات البحرية التي تكتظ بها , فضلاً عن غرام المؤلف المفرط بوصــف كل شيء وصفا مفصّلا لا يكاد يغادر منه كبيرة أو صغيرة إلا أحصاها , كل ذلك جعل تقدمي في القراءة عمــلاً في غاية الصعوبة مما صرفني عن متابعة السير فيها إلى النهاية .
كذلك أعترف أن في الشعر الجاهلي الذي قرأتُه ( وما أكثره ! ) أبياتاً كثيرة لا أحقق لها معنى , أو عـلى الأقل لا أحقق معناها على وجه الدقة , ومنها على سبيل المثال فحسب الأبيات التي يتحدث فيها امرؤ القيــس في معلقته عن نجوم الثريا وتعرضها كتعرض أثناء الوشاح المفصَّل . إن الأبيات تعالج موضوعاً من موضــوعات الفلك لابد من إقراري بأني لا أعرف منه شيئا , على حين كان الجاهليون يعرفونه كما يعرفون ظهور أيديـــهم حسب التعبير الإنجليزي المشهور ! ومثل ذلك كل المقاطع التي يخصـصها كثير من شعرائــنا القــدامي لوصف ناقتهم التي كانوا يرتحلون عليها وكانوا يجدون لذة أي لذة في الوقوف طويلا عندها عُضْواً عُضْواً , على حين لا أفهم أنا هذا الوصف إلا فهماً عامّاً مقارباً , وأحيانا لا أكاد أفهم شيئا رغـم معرفتي بكثــير من مفــردات ذلك الوصف وتراكيبه واستعانتي بالمعاجم وشروح نقادنا ولغويينا القدماء في معرفة الباقي . والسبب ؟ السبــب هو أن الموضوع غريب عليّ إلى حد كبير , فأنا من أسرة تجار , ومن ثم لا أعرف شيئا عن البادية والناقة , فضلا عن أن تجربة السفر على ذلك الحيوان هي تجربة مجهولة لدينا نحن المصريين تماماً , ودعك من ان الحيــاة قد تغيــرت منذ العصر الجاهلي حتى الآن تغيرا شاملاً أو يكاد ! ولهذا السبب يجدني القارئ , في كتابي عن النابغة الجعدي, أبدي ضيقي بمثل هذه الأشعار وأقول بخلوها من الشاعرية .
وبالمثل أحب أن أذكر للقارئ تجربة ثالثة لي في القراءة تتصــل بما نحن فيه , إذ كنت قــرأت عدداً مــن الدراسات حول شعر الشاعر العراقي المعاصر بدر شاكر السياب , وظل هناك رغم ذلك حائل بيني وبين النفوذ القوي إلى روح ذلك الشاعر وشعره , إذ كنت لا أستطيع تحقيق نوع من المرض الذي كان يعاني منه , كما كنت أجهل جوانب كثيرة من حياته الأسرية والشخصية … إلى أن وقع في يدي في العام الماضي بقَطَر كتاب د . حجـر أحمد حجر البنعلي “معاناة الداء والعذاب في أشعار السياب” , الذي جلا فيه طبيعة مرض الشاعر المسكــين , وألقى الضوء على بعض الأمور التي كانت خافيةً عليَّ في حياته وفي علاقته بأسرته وزوجته وأصدقائه ومــا إلى ذلك , فانفتحت أمامي إلى الشاعر وشعره أبواب أخرى غير التي كانت مفتوحةً لي من قبل , واستطعت لذلك فهم أشياء من شعره على نحو أفضل … وهكذا . ومثل ذلك كتابان قرأتهما بأخره (هما “أيام مع طه حســـين” للدكتور محمد الدسوقي , و ” مسامرات نقدية” للدكتور عبدالكريم الأشتر) جعلاني أتعاطف مــع طه حسين وظروفه أكثر من ذي قبل , وأبصر نتاجه الأدبي بعين غير العين التي كنت أراه بها إلى حــدّ ما , وإن لم يتغـــير موقفي من فكرة وما كتبه عن الإسلام أيام ان كان يعتسف الحديث عن دين محمد عليه الصلاة والسلام اعتسافاً لا يعرف التبصر .
على أن ذلك كله ؛ مع أهميته الشديدة ، لا يكــفي , إذ لا بد للقارئ , إذا كان يريــد أن يكون تذوقــه للعمل الذي يقرؤه أقوى و أعمق , أن يعرف أيضاً طبيعــــة الجنس الأدبي الذي ينضوي تحته ذلك العمل . إن لكل جنس أدبي خريطته ومفاتيحه , و إذا لم يرد القارئ أن يضرب في أرجاء العمل الذي في يده على غير هدى فعليه أن يلمّ بقواعد الجنس الذي ينتمي إليه . ترى هل يتـم تذوق سليم لقصيدة شعرية دون أن يعرف القارئ شيئا عن الوزن والقافية مثلاً ؟ الحق أنه بـدون مثل هــذه المعرفة لن يكــون بمستطــاعه إدراك كثير من نواحي الجمال أو النقص فيها بكل يقين . وقل مثــل ذلك فيمن يـــقرأ رواية للدكتور طه حسين مثلاً فيُفْتَن بأسلوبه الساحر ولا يتنبه إلى أن فن الرواية ليس أسلوبا فحسب , بـــل هناك عناصر أخرى من تشخيص وسرد وحوار ووصف وبناءٍ لا يتم تـــذوق أي عمــل روائي بعمق أو الحــــكم علــيه حكما دقيـــقا دون الإحـــاطه بها .
إن العمل الأدبــي , بالنسبــة للقارئ الذي لا يعرف اللغـة التي كُتب بها , ليشبه شيئا تراد رؤيته لكنه غارق تماما في ظلام دامس , فليس من وسيلة لإبصاره . فإذا عــرف تلك اللــغة انجـاب بعض من ذلك الظلام. فإذا عرف طبيعة الجنس الذي ينتسب إليه العمل انجاب بعض آخر . فإذا عرف ظــــروف تأليفه انجاب بعـض ثالث . فإذا عرف حياة مؤلفه وشخصيته تكاثرت أشعة الضوء المبددة للظلام …وهـكذا دواليك . الفهم إذن هو الوسيلة إلى التذوق , وفي ضوء هذا يمكننا أن نقرأ عبارة الشاعر والناقد الإنجليزي كـــوليردج التي يقول فيها إن “الذوق الجيد , مثله مثل كثير من الأشياء الجيدة , هو نتاج الفكر والدراسـة المخلــصة لأفضــل النماذج ” (41) . وهذا يأخذنا إلى ما يسمى بـ”تفسير النص” , وهو ما يطلقــون عليه في الإنجليــــزية : “exegesis” , وفي الفرنسية : “exegese” .
وفي “المعجم الوسيط” مثلا : “فسَّر الشيء : وضَّحه” , و “فسَّر آيات القرآن الكريم : شرحها ووضـح ما تنطوي عليه من معانٍ وأسرار وأحكام ” , و”التفســــير” هو “الشـــرح والبيان” , و “تفســير القرآن” هو “توضيح معاني القرآن الكريم وما انطوت عليه آياته من عقائد وأسرار وحكم وأحكام” . وفي “الصحاح في اللغة والعلوم لنديــم وأســامة مرعشــلي” أن “التفسير” هــو “البيــان” , أما في الاصطــلاح النقــدي
(بما يقابــل “exegese / exegesis” ) فهو عبــارة عن “شرح لغــوي أو مذهبي لنصّ ما , وبــوجه خاص للنصوص الدينية” . وقدر عرَّفــه “Current Literary Terms” بما لا يقع بعيـــدا عن هذا , إذ قــال إن الـ”exegesis” هو توضيح للنصوص , وبخاصة نصوص الكتاب المقدس . ( وإن كان قد أضـــاف أنه يعــني أيضا تصنيــف النص ) (42) , وهو ما نجده كذلك عند إبراهيم فتحي في “معجم المصطلحات الأدبية” ،
فقد عرف المصطلح “exegesis” (الذي ترجمه إلى “تفسير تأويلي”) بأن المقصود به تفســير العمــل الأدبي وشرحه , مضيفا أن الكلمة “تطلق عادة على تحليل فقرة ليست عادية من ناحية الصعوبة في الشعــر أو النثر” وأنها تشير بوجه خاص “إلى تفسيرات وشروح تتعلق بأجزاء من الكتاب المقدس”(43) . ويتـوسع Cuddon و Deutsch بعض التوسُّع في الكلام عن هذا المصطلح في المادة الـــتي خصصــاها له في معجــمهما الخــاص بالمصطلحات الأدبية قائلين إن “الرومان كان لديهم وظيفة رسمية يقوم بها محترفــون مهمتــهم تفســير الرؤى والتعاويذ والقانون المقدس وما يصدر عن الكهان من أقوال , ومن ثم أصبحت كلمة “exegesis” تـــــدل على الشرح والتفسير , وغالباً ما يراد بها الدراسات التي تتناول الكتاب المقدس . أما في مجال الأدب فالمقصــود بــــها التحليــــل النــــقدي للنــــصّ وإزالــــة مـــا فيــه من صعوبــــات وغمــوض”(44) .
وواضح أن هذه الكلمة , سواء عندنا أو عند الغربيين , كانت تعني في البداية شرح النصوص المقدَّسة , ثم تُوُسِّع فيها وأصبحت أحد مصطلحات النقد الأدبي , وهو ما يقول به أيضاً كريس بولديـــك في معجمـــه المســـــــــمَّى : (45)“Oxford Concise Dictionary of Liteiary Terms” .
وعوداً إلى ما سبق أن قلناه من أن عملية فهم النص الأدبي تتطلب أشياء غير قليــلة نذكر أن تفســـير القرآن , كما هو معروف , يستلزم الإلمام الجيد بطائفة كبيرة من العلوم العربية والشرعية و الإنسانيـــة , وهي النحو والصرف والمعاجم والمعاني والبديع والبيان والقراءات والفقه وأصوله وأسباب النـــزول والقصـــص والناسخ والمنسوخ والمكي والمدني والأحاديث النبوية وكتب التفسير والتاريخ وعلم الاجتماع وعلــــم النفس والاقتصاد والسياسة والفلك والطب والجيولوجيا وغير ذلك مما لا غنى عنه في تفسير آيات الكتاب المجيد . فإذا انتقلنا بهذه الكلمة إلى مجال النقد الأدبي , وتذكرنا ما قلناه من أن تفسير نصوص الأدب هو وسيلتنا إلى فهمها الفهم الصحيح كي نستطيع تذوقها كما ينبغي , تبين لنا على نحو جليّ أن عملية الفهم هذه ليست بالبــساطة التي قد يظنها المتعجلون وأننا لم نبالغ البتة عند حديثنا عن أبعادها , بل العكس هو الصحيح , فقد اختصــرنا في الواقع الكلام اختصارا واكتفينا بمجرد الإيماءة السريعة مع إيراد بعـض الأمثلة العارضـــة على ما نقـــول .
ومع ذلك كله يدعو فريقٌ من أدعياء النقد في السنوات الأخيرة إلى الدخول في النص الأدبي مباشرة دون الاستعانة بأي شيء من خارجه , فالنص عندهم شيء مغلق لا يقبل أن يُفَسَّر بسواه . وهي دعوى عجيبة , وأرحج الظن أنهم يريدون أن تكون الساحة خالية لهم ولأمثالهم لكي يعيثوا في النص فساداً وينطقوه بما لا يجنّه , بل وبما لا يمكن أن يجنه , ضميره . وبهذه الوسيلة الشيطانية يستطيعون , في حماية النقد الأدبي , أن يخلعوا أفكارهم الضالة المضلة على النصّ المسكين الذي لا يستطيع أن يقول لهم : “ثلث الثلاثة كم ؟” بعد أن أخرسوا صاحبه من قبل بحجة أن الأديب ما إن يفرغ من إبداع عمله حتى يموت , أي لا يعود من حقه على أي نحو من الأنحاء أن يفتح فمه بكلمة اعتراض على السخف الذي به يهرفون ! وفي هذا السياق يحسن أن أومئ إلى كتاب د . عبدالله الغذامي”الخطيئة والتكفير” الذي تناول فيه أدبَ الشاعر السعودي حمزة شحاته , فكانت النتيجة أن خلع على الرجل المسكين , رحمه الله , عقائد وأفكارا كنسية , إذ (حسبما زعم) كان يؤمن بأنه قد جاء إلى العالم ليفتديه من خطيئته الأصلية . وهو كلامٌ جِدُّ خطير , فليست هناك أية علاقة البته بين شعر الرجل ونثره وبين تلك الفكرة الصليبية , فشعره إنما يدور في موضوعات الشعر العربي المعروفة من غزل ووصف … وما إلى ذلك , لكن الكاتب المذكور قد التوى بهذا الشعر الواضح البسيط إلى متاهه “الخطيئة والتكفير” لتسلل عقائد الكنيسة على هذا النحو إلى مهد الوحي المحمدي من خلال ذلك المنهج النقدي العجيب!
نحن لا نقول إن النص لا يمكن أن يعني , منذ يظهر إلى نور الوجود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , إلا شيئاً واحداً , إذ من الممكن جدا أن يرى فيه هذا الناقد أو ذلك القارئ ما لم يلحظه غيره بل وما لم يتنبه إليه صاحبه وهو يؤلّفه . بيد أننا في ذات الوقت ندعو ونلح في الدعوة إلى أن يظل العمل الأدبي في  ذهن القارئ والناقد طوال الوقت : ينطلقان دائماً منه , ويعودان دائما إليه , ويحرصان على احترام قواعد اللغه والجنس الأدبي والتقاليد الفنية التي ينتمي إليها , ولا يقحمان عليه ما ترفضه بنيته أو يقسرانه على ما لا يقبل القول به … وهكذا . ولا شدة أن الاستعانة بمعرفة كل ما يتعلق بالنصّ تمثل أحد أهم الشروط الكفيلة بتحقيق ذلك
يقول د . محمد النويهي في كتابه “ثقافة الناقد الأدبي” , الذي قرأته في أول السبعينيات فُأعْجِبْتُ به رغم مغالاته في بعض ما ينادي به , ولا أزال أعجب به حتى الآن : “أفيظن أحدنا أنه يستطيع أن يفهم الشعر الجاهلي صحيحا دون إلمام حسن بعلم الحيوان , أو ببسائط الفلك ؟ أم يظن أنه يستطيع أن يفهم شعر ابن الرومي  صحيحا دون إلمام حسن بشتى حقائق علوم الأحياء والدراسات النفسانية ؟ أما عن تقريري الأول عن فهم الشعر الجاهلي فما أظن أن في الشرق العربي كله غير المتخصصين في علم الفلك عشرة يفهمون هذا البيت المشهور لإمرئ القيس : إذا ما الثريا في السماء تعرَّضَتْ                   تعرُّضَ أثناء الوشاح المفصَّلِ
أو هذا البيت الجميل لأبي ذؤيب :
فوردْن والعيّوق مقعد رابى الـــــــــضُّرَباء فوق النجم لا يتتلّع
وكيف يفهمونها , وهم إن عرفوا هيئة الوشاح فكيف كانت تلبسه المرأة العربية فهم لا يعرفون نجوم الثريا , وكيف تكون هيئتها قبل أن تصل السمت , ولم يرقبونها ساعة بعد ساعةٍ تسير في مسلكها حتى تتوسط السماء ثم تنحدر من السمت , ولا يعرفون الجوزاء ونظمها , وما شاهدوها تطلع , ولا شاهدوا العيّوق يبرق فوقها البريق الأخاذ كأنه يرقبها واقفاً له بالمرصاد ؟ … ) وما أظن في الشرق العربي كله من رجال الأدب والنقد خمسة يفهمون وصف علقمة للظليم الذي يبدأ بقوله
كأنها خاضبٌ زُعْرٌ قوادمه           أجنى له باللِّوى شَرْيٌ وتنّوم
وكيف يفهمونه , وهم لا يفهمون أبسط الحقائق عن حياة الحيوان ومواسم إنتاجه و هياجه الجنسي وما يعتري كثيرا من أجناسه في هذه المواسم من تغييرات جسمانية , ولا يعرفون أحوال النعام خاصة وعلاقته بأنثاه وبفراخه وبيضه , ولم يقرأوا وصفا لرقصه البديع مع أنثاه ؟”(46)
ثم يستمر الكاتب في حديثه عن أهمية إلمام الناقد الأدبي الذي يبغي دراسة ابن الرومي وشعره بعددٍ من المعارف العلمية , مبيّنا كيف أن العقاد قد أحسن أعظم الإحسان في الكتاب الذي ألفه عن ذلك الشاعر بفضل اطلاعه على عدد من المباحث البيولوجية والنفسية ساعده أيما مساعدة على التغلغل إلى أغوار شخصية الشاعر العباسي , ومن ثم على فهما أشعاره فهم أدق وأعمق , وإن لم يعن هذا (كما يقول) أن العقاد قد أصاب في كل ما قال , إذ في دراسته أشياء لم يتنبه إلى قول العلم فيها فجاء تفسيره لها خاطئاً . ويوصي كاتبنا النقاد بأن يهتموا بالاطلاع على البحوث العلمية إذا أرادوا النجاح في مهمتهم , مضيفاً أنه لا يطلب إليهم أن يعرفوها معرفة المتخصصين لها , فهو نفسه لا يستطيع هذا ولا يطيقه , بل أن يلمّوا بالكتابات العلمية المبسطة التي وُضِعت للقارئ العادي بغية تقريبها إلى عقله , وأن يأخذ من هذه الكتابات ما يحتاج إليه عقله حسب الموضوع الذي يدرسه (47) .
وفي آخر الكتاب نراه يضيف نحو الأستاذ الدكتور عشرين صفحة لمناقشة د . محمد مندور في موقفه من الاستعانة بمباحث العلوم الطبيعية وعلم النفس والاجتماع في مجال النقد وتذوق الأدب , إذ يراه يحمل على هذه الاستعانة داعياً إلى الاقتصار على التحلي بروح العلم فقط ليس غير . ولستُ محتاجاً لأن أقول إن د . النويهي قد اتخذ جانب الأستاذ محمد خلف الله أحمد , الذي قال مندور ما قال في الردّ عليه وتخطئة مناداته بالاستعانة بعلم النفس وغيره عندئذ دراسة الأدب ونقده , ودعوته النقاد والمتذوقين على التركيز على الأدب بوصفه فنا لغويا ليس إلا (48) .
وفي خلال مناقشته لمندور يضرب الدكتور النويهي له مثلاً مما كتبه هو نفسه عن أبي العلاء المعري وفسَّر فيه نفسيته في ضوء آفة العمى التي كان منها , إذ يتساءل قائلا : “افرض أنه لم يعرف أنــه كان أعمى , أفكــان يعاني يفهم نفسيته إذن ؟ فما رأيه في آفات جسمانية لا تقل عن العمى تأثيرا في تكوين الشخصية , وإن لم تكن بادية على سطح الجسم كالعمى , ولا يعرفها إلا من يلم بقدر من الدراسات العلمية ؟ ” (49) .
كذلك ظهر منذ سنوات قلائل كتاب بعنوان “العلاقة بين الطب والأدب” للدكتور الطبيب محمود عبدالعزيز الزعبي قدم له د . سليمان الأوزاعي بكلمة تلقي الضوء على بعض ما جاء في الكتاب جاء فيها قوله إن “محاولة الدكتور الزعبي (قد تميزت)بغنًى استثنائي وهو يحاول استنطاق النص الإبداعي العربي القديم أو الحديث من داخله , ومن حيث يرى الطبيب ما قد لا يراه الناقد , بحكم تسلحه بسلاح إضافي يلمس القارئ جدواه ونجاعته في كثير من المواقع التي يتوقف فيها الكاتب عند نصوص مبدعين مُتْعَبين أو مرضى من القدماء أو المحدثين ” (50) .
وبعد , فلستُ أستطيع , رغم ذلك كله , الزعم بأنه الناقد أو المتذوق إذا استعان بما دعوت إلى الإستعانة به عند مواجهة العمل سوف ينجح لا محالة في محالة فهمه وتذوقه بدقة وعمق , فالخطأ قرين الجهود البشرية مهما احتطنا وسددنا الثغرات . كما أن من المتذوقين والنقاد من سيسىء التطبيق ويقدم تفسيرات خاطئة للأعمال التي يكتب عنها . إلا أن هذا لا ينبغي أن يشككنا في جدوى الاستعانة بالمعارف العلمية وغيرها مما يتعلق بالعمل الأدبي , بل يدفعنا إلى مزيد من الحذر والتحوط , مع التنبه دائماً إلى أن بلوغ الكمال في مجال النشاط الإنساني هو أمر مستحيل . إن أهمية فكرة “الكمال” تكمن في أنها تستحثنا على مواصلة الجهود والعمل على رتق الفتوق والتطلّع دائماً إلى الآفاق العليا لا في أنها ستتحقق يوماً ما على الأرض .
على أني لا أحب أن يفوتني التنبيه هنا إلى أن هناك من يضعون عملية الاستعانة بالمعارف المختلفة عقب عملية التذوق : فتذوق العمل الأدبي يقع عندهم أولا , ثم يحاول المتذوق أن يحلّل ويعلّل هذا الذوق الذي حصل له من قراءة العمل فيلجأ حينئذ إلى ما يعينه على هذه المهمة من معارف وعلوم . ومعنى هذا أنهم يحسبون ( أو على الأقل : هذا ما نفهمه من كلامهم )أن التذوق يتم مباشرة دون أن يسبقه فهم وشرح وتوضيح . وأضرب مثلاً
لذلك ما جاء في كتاب “في فلسفة النقد” للدكتور زكي نجيب محمود , إذ ذكر الأستاذ الدكتور أن خلافا قد وقع بينه وبين د . محمد مندور حول السؤال التالي : هل يكون النقد الأدبي قائما على الذوق أو قائما على العلم ؟ “وكان الدكتور مندور في ذلك الصراع ينادي بأن النقد قوامه ومرجعه كله إلى التذوق , فقلت له فيما قلت إن في ذلك خلطا بين قراءتين : فالقارئ الذي سيصبح ناقدا إنما يقرأ القراءة الأولى فلا يسعه بحكم الذوق الأدبي الخالص إلا أن يحب ما قرأه أو أن يكرهه . وقد يقف عند هذا الحد , وعندئد لا يكون ثمة نقد قد وُلِد بعد , لكنه قد لا يقف عند هذا الحد , ويهم بالكتابة ليوضح وجهة نظره . أعني : ليعلل رأيه بالعلل التي تسنده وتؤيده … وإن الناقد في تحليله ذاك أو تعليله ليستخدم كل ما يستطيع استخدامه من علوم تتصل بعلمه , فهو يستخدم علم النفس بكل ما وصل إليه من نتائج , وذلك حين يحاول النظر إلى العمل من هذه الوجهة التي تتسلل من خلال النص إلى أعماق اللاشعور عند كاتبه . وهو يستخدم الأنثروبولوجيا … لتعينه على استخدام العناصر الأسطورية المتصلة بحياة الإنسان في طفولتها وبكارتها … وكذلك يستخدم الناقد الدراسات اللغوية الحديثة … بل إن الناقد ليستخدم العلوم الطبيعية الحديثة نفسها في عمله … إلخ”(51) .
إن مثل هذا الكلام قد يوهم على الأقل أن الذوق يمكن أن يقع دون شرح وتفسير وفهم , وهو ما لا يمكن أن يكون بعد أن وضحنا فيما مرّ من صفحات كيف أن الذوق في ميدان الأدب يختلف عنه في الأطعمة والأشربة و العطور والأنغام والمناظر . إن الذوق في الأدب ليس مسألة وجدانية فحسب بل هو أمر عقلي أيضاً , وهذا العنصر العقلي لابد أن يجيء أولاً إذا ما أردنا أن يكون هناك تذوق ثانيا . ومع ذلك فلابد أن أنبه إلى أن عملية التذوق لا تستلزم التعمُّق في الاطلاع على المعارف والعلوم المساعدة على شرح النصّ الأدبي وإزالة ما يكون فيه من غموض … إلخ , بل يكفي من ذلك كله الحد الأدني , ثم يأتي التعمق بعد هذا حين ينتقل القارئ من مرحلة التذوق إلى مرحلة التعليل والتحليل . على أن يكون مفهوماً رغم ذلك أن التذوق في هذه المرحلة الأخيرة سيصبح أدق وأعمق وأوسع , إذ (كما قلنا) كلما انزاح جانب من الظلام (أو حتى الغَبَش) الذي كان يغلّف العمل الأدبي ازدادت الفرصة لتذوقه ووصول هذا التذوق إلى أبعاد أطول وأعمق .
قد يجادل البعض بأن من القراء من يتذوقون الأعمال الأدبية بمجرد قراءتها دون أن يستعينوا في ذلك بأية معارف أو علوم . وهذه حجة داحضة , وإن بدت صحيحة في ظاهر الأمر , إذ لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن أولئك القراء قد سبق لهم أن بلغوا الحد الأدني على الأقل من المعرفة باللغة التي كُتِب بها العمل , والقواعد التي تحكم بناء جنسه الأدبي , والأسلوب الذي كُتب به , والأفكار السياسية والاجتماعية التي يتناولها أو يدعو إليها … إلخ . أي أنهم لا يبدأون من نقطة الصفر التي يبدأ منها من يتناول قصيدة أو رواية مثلاً مكتوبة بلغة لم يتعلمها . ومع ذلك فإن استعانتهم بعد القراءة بما يعمّق معرفتهم بالعمل الأدبي سيجعل تذوقهم له أفضل بكل تأكيد(52) . فالتذوق الأدبي معرفة القارئ باللغة والأسلوب والاتجاه الفني الذي صيغ علىأساسه العمل الأدبي والمضامين التي يشتمل عليها … وهكذا . بل ما أكثر ما يحتاج العمل الأدبي إلى أكثر من قراءة حتى يستطيع الإنسان أن يجد ثغرة ينفذ منها إليه , أو أن يجد فيه , بعد أن يكون قد نفذ إليه , باباً سريا يوصّله إلى أعماق أبعد فيه(53) .
نخلص من ذلك كله إلى أن فهم النصّ الأدبي , شعرا كان أو نثرا , شرط لابد منه لإمكان تذوقه . وهذا الشرط مما يميز التذوق الأدبي عن تذوق التصوير أو النحت أو الموسيقى , فالإنسان يمكنه أن يتذوق لوحةً أو تمثالاً أو مبني أو رقصة أو لحناً بمجرد أن يقع بصره أو سمعه عليه . إنه لا يحتاج إل�

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 129 مشاهدة
نشرت فى 8 أغسطس 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

33,957