حلقة أخرى من سيرتى الروحية
د. إبراهيم عوض
ومن ذكريات الماضى الجميلة ذكرى الاحتفال السنوى بالمولد النبوى، حيث يشترى لنا الأهل الأحصنة الحلاوة للأولاد، والعرائس الحلاوة للبنات. وكلما كان الحصان أو العروس كبير الحجم كان ذلك مدعاة لكثير من البهجة والافتخار. وبعد الانتهاء من الاحتفالات يحطم كل منا الحصان أو العروس ويبله فى الماء ويشربه. وكان الناس أيضا يصنعون الشربات الأحمر فى طسوت كبيرة ويوزعونه على المارة، والكل هائص وسعيد. وكان هناك الدوسة، وتتلخص فى أن يركب أحد المشايخ حصانا ويمر به حول القرية قاطعا ما يمكن تسميته حسب مصطلحات هذه الأيام بـ"الطريق الدائرى"، وقد رفرفت فوقه الأعلام، وأحاطت به الجماهير، وانطلقت زغاريد النساء، ورقد بعض الشبان والرجال على الأرض ليمشى عليهم الشيخ بحصانه، أى يدوسهم، ومن هنا سميت: "الدوسة".
كما كان هناك احتفال عربات الكارو عصرا حيث يركب عدد من مزاولى الحرف المختلفة عربةً، وكل واحد منهم يتظاهر بأنه يمارس حرفته، ولكن على شكل كاريكاتورى: فمثلا الحلاق يقف أمام زبون جالس على كرسى ممسك بقرص جلة ينظر فيها كأنه مرآة ليرى أأحسن الحلاق عمله أم لا، على حين يشهر الحلاق فرشةَ نِقَاشَة ٍضخمةً كأنه سيُصَبِّن بها الذقن، ومعه جردل كبير فيه طلاء أبيض من طلاء الجدران يرمز إلى طاسة الصابونة، فيغمس الفرشاة العملاقة فى الجردل ويمسح بها على وجه الزبون تهيئة لحلاقة ذقنه... وهكذا. وقد قرأت فى كتاب "معى" للدكتور شوقى ضيف أن ذلك كان يحدث فى دمياط فى صباه، ولكن عند رؤية هلال رمضان لا فى المولد النبوى، كما أن الأمر كان حقيقيا لا كاريكاتوريا مثلما هو الحال فى كرنفال قريتى. وآخر شىء فى ذلك اليوم هو الموكب، وفيه يتجمع طلاب القرية الأزهريون الكبار فى شكل حرف U وقد تماسكوا بأيدهم كتلة واحدة، وهم ينشدون، بصوتٍ عالٍ وتنغيمٍ موسيقىٍّ جميلٍ، مديحا للمصطفى، وفى وسطهم الكلوبات الساطعة، ويظلون هكذا إلى أن ينتهوا من الدوران حول القرية.
هذا، وكنت مغرما فى طفولتى وصباى بصيد الطيور، فكنا نخرج بالنبلة إلى الحقول حيث نحاول اصطياد العصافير واليمام وأبى فصادة والهدهد والغراب وما أشبه من الطيور التى تعرفها القرية. ولم أكن من البارعين كغيرى من لِدَاتى فى التنشين، وإن كنت قد استطعت صيد بعضها. ومرة خرجت بعد الظهر أنا وصديقى الذى كنت أغيظه بتحريك إصبعى فوق أنفى نصطاد عند الهِرْى الذى بعد السوق بقليل، وأخذنا نصوّب الزلط على العصافير فوق شجرة هناك، وكانت سيارة نقل مارة على الطريق من تحت الشجرة، ففوجئنا بالسائق يقف، وأخذ يشير نحونا بما فهمنا منه أن الزلطة قد سقطت فوق زجاج السيارة وشرخته، فأخذنا ذيلنا فى أسنانا وقلنا: يا فكيك. وأرجو ألا يسألنى أحد من أعزائى القراء: مَنْ فَكِيكٌ هذا؟ فأنا والله لا أعرف، بل هى كلمة أقولها كما يقول الناس. وكنا نخترق حقول القمح، وكان القمح وقتذاك فى سنبله، بينما السائق يجرى على الطريق الزراعى، فوصلنا قبله إلى القرية حيث أسرعتُ إلى خالى، الذى لاحظ ما أنا فيه من خوف واضطراب، فأخبرته الخبر، فطلب منى أن آخذ الكلوب وأذهب إلى عم محمود عرفة لإصلاحه وأستكنّ هناك بنجوة من الأنظار، فامتثلت.
إلا أننى سرعان ما ركبتنى الوساوس وأنا جالس هناك، فما الذى يمنع أن يذهب السائق إلى النقطة ويحضر خفيرا أو شرطيا للبحث عنى فيجدنى عند السمكرى، وبيته غير بعيد من بيت خالى؟ إنْ هى إلا بضع عشرات قليلة من الأمتار. عندئذ نهضت كالملدوغ من مكانى، وأخذت طريقى إلى قرية شِفَاقْرُون، التى تبعد عن قريتنا نحو كيلومتر ونصف، ومنها زوجة خالى الثانية، وكانت هناك فى ذلك الوقت غَضْبَى عند أمها، وسلكتُ سكة المعصرة الخلفية الصاعدة على هيئة السلم بعيدا عن العيون، ثم اخترقت حارة الربايعة منطلقا إلى الطريق الذى يصل بين قريتنا وقرية شفا، وهناك أطلعت زوجة خالى، وكانت تعاملنى كأمى، على تفاصيل الأمر بعدما ظنت فى البداية أننى مرسل من خالى لإعادتها إلى البيت، فهَدَّأَتْ من رُوعِى ومن رَوْعِى معا، وأحضرت لى أرزا معمرا، ونمت هناك حتى الصباح يحوطنى حنانها، ثم عدت وشرحت لخالى ما صنعت.
وقد علمتُ، بعد عودتى الميمونة المظفرة، بما حدث مع صديقى، إذ أتى خفير أخذه من بيتهم حيث كان مختبئا فى مقعدهم الخرب فوق السطح إلى النقطة، وهناك مَدُّوه فى الفلقة وضربوه بالقبقاب على قدميه، بينما أنا فى الأمان آكل أرزا لا مع الملائكة ولا مع البشر، بل وحدى. وقد ضحكتُ يومها ملء ثيابى ورئتى وفمى حين علمت بما جرى لزميلى، الذى حكى لى ما وقع وهو يضحك أيضا. لقد كانت أياما جميلة. ما رأيكم أنتم؟ أم تراكم غاضبين لأنى نجوت بجلدى من العقاب؟ لكن والله الذى لا إله إلا هو ما لنا ذنب فيما حدث، فقد كنا نصوب النبلة إلى أعلى الشجرة ثم نطلق الزلطة فتنطلق إلى أعلى لتسقط بعد ذلك على الأرض حسب قانون الجاذبية، وكانت السيارة تمر فى ذلك الوقت تحت الشجرة لتقع الزلطة فوق زجاجها دون أن يكون لنا أى ذنب فى هذا. إنها المصادفة وحدها التى تسببت فى إصابة زجاج السيارة. أم كنتم تريدون أن يتعطل قانون الجاذبية إكراما للسائق؟ وهل قال أحد لذلك الغبى أن يمر فى تلك الساعة من هناك؟ يستأهل!
كذلك مارستُ هواية صيد السمك، وكنت أذهب مع أمثالى إلى المصارف والترع حول القرية أو القرى القريبة فنصطاده، ومعنا خيط ينتهى بسلختى حطب، فنشبك ما نصطاده من السمك فى الخيط بعد تمرير إحدى سلختى الحطب من خلال خياشيمه وتثبيت الخيط بالسلخة الأخرى فى شط المصرف أو الترعة مع تدليته فى الماء حتى يظل السمك المشبوك حيا طوال وجودنا هناك، أو نضعه فى علبة صفيح من علب السمن الصناعى الصدئة بعد أن نملأها بالماء حتى لا يموت منا قبل العودة إلى البيوت. وكنت أوفق أحيانا، وأفشل أحيانا، ولكنى بوجه عام لم أكن بارعا فى صيد السمك ولا كنت أنجح عادة فى صيد الأحجام الكبيرة، ولا كان عندى الصبر للانتظار الطويل الذى يحتاجه هذا اللون من الصيد. ومع هذا كنت أهتز نشوة إذا ما غمزت السنارة ثم سحبتُها فوجدتُ فيها سمكة تتلوى كأجمل راقصة فى الوجود وأنا أنتشها بقوة فى خط دائرى إلى خلف ظهرى ناحية الشط. ولا ينبغى أن ننسى الإثارة الناشئة من تجمع عدد منا على شط الترعة أو المصرف، وبخاصة إذا كان المكان الذى نصطاد منه بعيدا عن القرية، فقد كان ذلك بمثابة حجر يلقى فى بركة آسنة فيحدث فيها اضطرابا وحركة ودوائر جميلة بدلا من الخمول الذى كان يسيطر بوجه عام على إيقاع الحياة آنذاك.
وكنت أرى أولاد الفلاحين يصيدون السمك القراميط من ماء الساقية فى الممر الموصل ما بين بثر الكَبَّاس والنهر نفسه، إذ كانوا يسدون الفتحة من ناحية النهر فينحصر السمك فى مكان صغير ضيق يتحركون خلاله منبطحين ويمدون أيديهم فيمسكون به فى منتهى اليسر، عائدين بـ"عَشْوَة سمك" كما كنا نقول، وأى عشوة! وأحيانا أخرى كان الأولاد الصيادون يبنون فى المصرف أو الترعة حاجزين طينيين غير متباعدين، ثم يقسمون أنفسهم إلى جماعتين تنشل كل جماعة منهم الماء إلى ما وراء أحد الحاجزين، إلى أن يظهر القاع تحت الماء القليل المتبقى الذى يضطرب فيه السمك بوفرة يريد الخلاص من المأزق الذى وجد نفسه فيه، ولكن أَنَّى له ذلك؟ لقد وقع فى الشَّرَك وانتهى الأمر. وكان من هذا النوع من الصيادين المغاورى زيد، الذى كان يصطاد القراميط من ساقية الساحل. وهو ابن الشيخ عدس زيد جار خالى التاجر الذى كان يبيع التموين من زيت وسكر للفلاحين، فكان يوم توزيع التموين ليلا فى أول الشهر بزحامه وتكأكؤ الناس حول الدكان وشخطه فيهم على عادة كثير من تجار الريف وكأنهم يشحتون منه عيدا لنا، إذ كانت شوارع القرية هادئة لا تكاد تشاهد زحاما من هذا النوع إلا فى هذه المناسبة، فكنا نبتهج بالزحمة ونتمنى ألا تنتهى. كما كان بيتهم يمتاز بأننا كنا نسهر فيه مع أمه وإخوته وأختيه سهرا فيه كثير من الحبور والفرفشة والحواديت واللَّمَّة.
ولقد كنت ولدا عفريتا، لكن ليس إلى حد كبير. وكنت مغرما بلعب كرة الشراب فى الشارع، وفى عز القيلولة، غير عابئ بما يقوله لنا الرجال الذين يريدون أن يناموا ساعة الظهيرة، إذ كانت لهم عبارة لا تتغير أبدا يريدون أن يصرفونا بها عن اللعب تحت شبابيكهم، وهى: يا ابنى أنت وهو، ألا تقيِّلون؟ إن العفاريت مُقَيِّلة! وكان لسان حالنا يقول، فيما بيننا وبين أنفسنا طبعا: فلتقيِّل العفاريت كما يحلو لها. أما نحن فنريد أن نلعب. وأحيانا إذا لم تنفع حجة العفاريت المقيّلة كانوا يطاردوننا، فنجرى بعيدا لنلعب فى مكان آخر وتتكرر المسرحية ذاتها. ومن عفرتاتى الأخرى أذكر أنى كنت قد تعلمت وضع عود الثقاب أفقيا من الناحية المكبرتة فوق حكاكة علبة الكبريت ضاغطا بإبهامى فوق طرفه الآخر، ثم أدفعه بقوة بسبابة يدى الأخرى فيطير فى الهواء بعد أن يحتك بالحكاكة ويشتعل. وكنت ذات ليلة أمارس هذه اللعبة المثيرة على بعد أمتار من بيت خالى فى الظلام أيام لم تكن القرية قد دخلها النور بعد، وطار عود الثقاب مشتعلا فى الظلام، وإذا بى أسمع ولدا يصرخ: "آه يا عينى!"، وكان راقدا على المصطبة أمام بيتهم، فأخذت ذيلى فى أسنانى وهربت بعيدا عن بيتنا فى الاتجاد المضاد إلى الناحية الأخرى من القرية خوفا من أن يقبض علىَّ أهل الولد المصاب، إذ لا بد أن تكون قد طارت عينه أو غارت بسبب العود المشتعل. ثم بعد فترة تحسست طريقى فلم أجد ضجة ولا اضطرابا، ثم فهمت أنه لم يحدث شىء يذكر، فتسللت إلى بيت خالى، ولم أعد إلى تلك اللعبة الخطرة بعد ذلك قط، فليس كلَّ مَرَّة تَسْلَمُ الجَرَّة.
ومع ذلك كله فإنى بحمد الله، رغم هذه العفرتات والشيطنات، حين كبرت لم أرتكب كبيرة قط، فلا زنيت ولا شربت الخمر ولا دخنت إلا عددا لا يبلغ عَشْر سجائر طول حياتى، وليس الكذب أو النفاق أو النميمة أو التخطيط لإيذاء الآخرين بدون وجه حق بوجه عام من خلائقى. وأحيانا ما أتصور أننى، حتى لو لم أولد مسلما، ما كنت لأشرب الخمر أو أدخن السجائر. وإحساسى بالواجب حاد لا أستطيع أن أتجاهل إلحاحه علىَّ ولا إهمال تأديته حتى لو أجلته بعض التأجيل. وربما كانت ظروفى الاجتماعية التى شرحتها مسؤولة إلى حد كبير عن ذلك. لقد كنت وما زلت أخشى الناس أن يذمونى، فأنا من الذين يعملون للمجتمع حسابا لأنى لا أجد حولى أحدا يمكننى أن أعتصم به عند اللزوم ساعة الخطإ، اللهم إلا إذا كنت مقتنعا بما أفعله أو أقوله، فعندئذ لا أبالى ما يقول الآخرون، وإن كنت بعدما كبرت وتقدمت فى العمر قد صرت أجنح إلى المهادنة والمجاملة أكثر مما كنت أفعل وأنا شاب متحمس متصلب الدماغ لا أهتم بما يقول الناس عما آتيه من تصرفات وأفعال أو أصرح به من آراء.
ومن الناحية الأخرى لم أترك يوما أية صلاة مفروضة منذ الثانية عشرة، وإن لم ألتزم دائما فى صباى بأدائها فى وقتها، على عكس الأمر منذ بلغت السابعة عشرة، مع التنبيه إلى أننى لا أراعى أداء النوافل فى كل الأوقات بالفترة الأخيرة. كذلك أرانى أسارع إلى العطف على المساكين والمحاويج، وأجد ذلك من أهم مبادئ الدين، وبخاصة أنه من الصعب علىَّ نسيان معاناتى الكثيرة فى الطفولة والصبا بعد وفاة والدى. ومع هذا فمن الصعب علىَّ أيضا أن أستجيب لمحترفى الشحاتة، ولا تهش نفسى لإعطائهم شيئا مهما كانت ضآلته لما أعرفه من أن كل همهم جمع الفلوس جمعا مَرَضِيًّا، علاوة على كراهيتهم للعمل واستمرائهم مد اليد للسؤال، وهو ما يكرهه ديننا أشد الكراهية. وبعضهم يشترى بما يشحته سجائر وخمورا أو يكنز ما يجمعه من أموال. وأعرف حالات عُرِض فيها على بعض الشحّاتات أن يزودهن أهل الخير برأس مال يتاجرن به فى الفاكهة والخضراوات، إلا أنهن رفضن وفضلن أن يمددن أيديهن وتأتى المسألة يوم القيامة نكتة سوداء فى وجوههن على التعفف والتنزه عن مذلة السؤال ورذالته.
وقد كنت أتعاطف قبلا مع من يمدون أيديهم بالسؤال، وأتصور أنهم محتاجون فعلا إلى أن نساعدهم ونعطيهم ما يطلبون وأنهم لم يلجأوا إلى الشحاتة إلا بعدما ضاقت فى وجوهم وبهم السبل إلى الرزق. ولهذا كنت أستغرب من أستاذى سيد أحمد أبو رية، رحمه الله وأكرمه أعظم الإكرام، أنه لا يمد يده بشىء لهؤلاء الشحاتين حين يأتون إلى المقهى الذى نجلس فيه. وسر استغرابى أننى أراه كريما ورحيما وحنونا معى إلى الغاية، فكيف لا يرقّ لهؤلاء المساكين؟ هكذا كنت أفكر، إلى أن نضجتُ وفهمتُ الحياة وخباياها، فأدركت أن هؤلاء الشحاتين المحترفين لا يحق لهم مد أيديهم بالسؤال لأنهم قادرون على العمل، ومن ثم لا يصح أن نشجعهم على الشحاتة، وأن القرآن قد أدان هذا السلوك، وأن رسول الله لا يحب للمسلم أن يقف هذا الموقف البليد الذليل، وأن الأمم المتحضرة تجرّمه، وأن عالم الشحاتة يتكون فى كثير من الأحيان من عصابات إجرامية تقوم على التخطيط والمؤامرات واستغلال الأطفال وتأجيرهم هم والأماكن التى يقف فيها الشحات، وأن كل شىء فى هذا العالم السفلى إنما يتم بنظام صارم خال من المشاعر والإنسانية... وهكذا.
وإنى لأضحك بل أقهقه كثيرا من أعماق قلبى جَرَّاءَ الحيل التى ينتهجها بعض الشحاتين فى بلادنا الحبيبة، إذ يعلق أحدهم مثلا كيس دم فى حامل وينام الصبى الشحات تحته فى الشارع، وكأننا فى مستشفى. وسر ضحكى هو ما يوهمنا به مَنْ وراء هذا النوع من الشحاتين من أنهم يعالجون مريضهم فى الشارع دون طبيب متخصص ولا أدوات جراحة ولا تمريض ولا تعقيم. إنهم عباقرة لم تلد الواحد منهم ولادة، لا بنت المستكفى ولا بنت غير المستكفى. ومن تلك الحيل ما تصنعه شحاتة فوق جسر المشاة القريب من الجامعة فوق خط مترو الأنفاق هناك، إذ كلما مررت بها وهى جالسة على الأرض وجدتها غافية، لكن ما إن تحس دبيب قدم تقترب من مجلسها حتى تسارع إلى مداعبة حبات المسبحة التى فى يدها مناشدة ذوى القلوب الرحيمة (الذين أنا لست واحدا منهم) بمساعدتها. فأمرّ بها وأنا أشعر بالخجل لعدم استجابتى لمناشداتها التى تقطع نياط القلوب. يا لقلبى المتحجر! ثم مرت الأعوام، وإذا بى أراها، بدلا من الجلوس وفى يدها مسبحتها، نائمة فوق فراش على الجسر المذكور، وكلما شعرتْ بدبيب قدم تقترب قالت فى صوت واهن مشحون بالمعاناة: "من فضلك ساعدنى". لكن قلبى الصوانى القاسى لا يلين، مع استمرار شعورى بالخجل، ولا أدرى لم. ثم شاهدتهافى الفترة الأخيرة وقد طورت أسلوبها، فتراها تجلس على كرسى فوتيه قديم وتردد نفس الجملة، مع إضافة جديدة تتمثل فى وضع بعض المصاصات على الأرض بجوارها كأنها تبيعها لمن يريد.
والعجيب أن استعمالها الفصحى فى الشحاتة لم يؤثر فِىََّ رغم حبى لمن يستعملون من طبقات الشعب غير المتعلمة ذلك المستوى الراقى من اللغة، على الأقل: بحكم تخصصى. لكن ماذا تقولون فى قساوة القلب التى ابتلانى الله بها؟ المهم أننى كنت دائما ما أتساءل مستغربا: من يا ترى يحملها كل صباح إلى هناك فوق جسر المترو ويضعها بعد أن يفرش لها فراشها ويرجع، ثم يعود آخر النهار فيحملها إلى البيت؟ ذلك أنى كنت أتصور أنها مريضة فعلا. وهل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك مع هذا الصوت الواهن وذلك الشحوب فى وجهها؟ لأفاجأ ذات أصيل، وأنا فى طريق عودتى من محاضرة آخر النهار، بها هى ذاتها واقفة فى نشاط وعافية تجمع عدة شغلها وفراشها استعدادا للعودة المظفرة. وأعود فأقول: ابتسم، أنت فى مصر أم الدنيا، التى صَرَّ أهلوها الفيل فى المنديل، وعبأوا الشمس فى زجاجات، وخرموا التعريفة، وفوق ذلك دهنوا الهواء دوكو. فمَنْ مِنَ الأمم بالله عليك استطاع أن يُنْجِز عُشْرَ مِعْشَار هذه الإنجازات؟ وأتخيل الجاحظ، الذى ألف كتابا فى الشحاتة والشحاتين عَدَّد فيه حيلهم وألاعيبهم التى يعملون على كسب عطف المارة من خلالها، وقد عاد إلى الدنيا ورأى الشحاتين المصريين وأساليبهم التى لا تخطر على بال إبليس ذاته، فشرع يشد شعره من عجزه عن ملاحقة هذه العبقرية وتخلُّفه عنها وعن أصحابها أشواطا طوالا.
ولقد حاولت زمانا طويلا أن أعثر على رسالة الجاحظ الضائعة التى ألفها عن الشحاتة والشحاتين (بعنوان "رسالة الكُدْيَة والـمُكَدِّين")، فلم أجدها بتاتا، إلا أننى وجدت فى كتاب "المحاسن والمساوئ" للبيهقى تحت عنوان "محاسن السؤال" ما يلى: "قال الجاحظ: سمعت شيخا من الـمُكَدِّين وقد التقى مع شاب منهم قريب العهد بالصناعة، فسأله الشيخ عن حاله فقال: لعن الله الكُدْيَة، ولعن أصحابها من صناعة ما أَخَسَّها وأَقَلَّها! إنها، ما علمتُ، تُخْلِق الوجه وتضع من الرجال. وهل رأيت مُكَدِّيًا أفلح؟ قال: فرأيت الشيخ قد غضب والتفت إليه، فقال: يا هذا، أَقْلِلِ الكلام، فقد أكثرت. مثلك لا يفلح لأنك محروم، ولم تستحكم بعد. وإن للكُدْيَة رجالاً. فما لك ولهذا الكلام؟ ثم التفت فقال: اسمعوا بالله. يجيئنا كل نبطيّ قرنانٍ وكل حائك صفعان وكل ضرّاط كشحان يتكلم سبعًا في ثمان، إذا لم يصب أحدهم يومًا شيئًا ثلب الصناعة ووقع فيها. أَوَمَا علمتَ أن الكدية صناعة شريفة، وهي محببة لذيذة، صاحبها في نعيم لا ينفد، فهو على بريد الدنيا ومساحة الأرض، وخليفة ذي القرنين الذي بلغ المشرق والمغرب، حيثما حلّ لا يخاف البؤس، يسير حيث شاء، يأخذ أطايب كل بلدة؟ فهو أيام النرسيان والهيرون بالكوفة، ووقت الشبّوط وقصب السكر بالبصرة، ووقت البرنيّ والأزاذ والرّازقيّ والرمان المرمر ببغداد، وأيام التين والجوز الرطب بحلوان، ووقت اللوز الرطب والسختيان والطبرزد بالجبل. يأكل طيبات الأرض، فهو رخيّ البال حسن الحال لا يغتمّ لأهل ولا مال ولا دار ولا عقار. حيثما حلّ فعلفه طبليّ.
أما والله لقد رأيتني وقد دخلت بعض بلدان الجبل، ووقفت في مسجدها الأعظم، وعليّ فوطة قد ائتزرت بها، وتعممت بحبل من ليف، وبيدي عكازة من خشب الدفلى، وقد اجتمع إليَّ عالَمٌ من الناس كأني الحجاج بن يوسف على منبره، وأنا أقول: يا قوم، رجل من أهل الشام ثم من بلد يقال له: المصيصة، من أبناء الغزاة والمرابطين في سبيل الله من أبناء الركّاضة وحَرَسة الإسلام. غزوت مع والدي أربع عشرة غزوة: سبعًا في البحر وسبعًا في البر، وغزوت مع الأرمنيّ، قولوا: رحم الله أبا الحسن، ومع عمر بن عبيد الله، قولوا: رحم الله أبا حفص، وغزوت مع البطال بن الحسين والرنرداق بن مدرك وحمدان بن أبي قطيفة. وآخِر مَنْ غزوت معه يازمان الخادم، ودخلت قسطنطينية وصليت في مسجد مسلمة بن عبد الملك. مَنْ سمع باسمي فقد سمع، ومن لم يسمع فأنا أعرفه نفسي: أنا ابن الغزيّل بن الركان المصيصي المعروف المشهور في جميع الثغور والضارب بالسيف والطاعن بالرمح، سدٌّ من أسداد الإسلام، نازَلَ الملك على باب طرسوس فقتل الذراري وسبى النساء، وأُخِذ لنا ابنان وحُمِلا إلى بلاد الروم، فخرجت هاربًا على وجهي ومعي كتب من التجار، فقُطِع عليّ. وقد استجرت بالله ثم بكم. فإن رأيتم أن تردّوا ركنًا من أركان الإسلام إلى وطنه وبلده! فوالله ما أتممت الكلام حتى انهالت عليّ الدراهم من كل جانب وانصرفت ومعي أكثر من مائة درهم. فوثب إليه الشاب وقبَّل رأسه وقال: أنت والله معلم الخير فجزاك الله عن إخوانك خيرًا.
أصناف المكدين وأفعالهم: منهم المكي، وهو الذي يأتيك وعليه سراويلُ واسعٌ دبيقيّ أو نرسي، وفيه تكة أرمنية قد شدّها إلى عنقه، فيأتي المسجد فيقول: أنا من مدينة مصر، ابن فلان التاجر. وجهّني أبي إلى مَرْو في تجارة، ومعي متاع بعشرة آلاف درهم، فقُطِع عليّ الطريق، وتُرِكْتُ على هذه الحال، ولست أحسن صناعة ولا معي بضاعة، وأنا ابن نعمة، وقد بقيتُ ابن حاجة. ومنهم السَّحَرِيّ الذي يبكر إلى المساجد من قبل أن يؤذن المؤذن. والشجوي الذي كان يؤثّر في يده اليمنى ورجليه حتى يُرِيَ الناس أنه كان مقيّدًا مغلولاً، ويأخذ بيده تكة فينسجها يوهمك أنه من الخلديّة، وقد حبس في المطبَّق خمسين سنة. ومنهم الذرارحي الذي يأخذ الذراريح فيشدها في موضع من جسده من أول الليل ويبيت عليه ليلته حتى يتيقظ فيخرج بالغداة عريانًا، وقد تنفّط ذلك الموضع وصار فيه القيح الأصفر، ويصبّ على ظهره قليل رماد فيوهم الناس أنه محترق. ومنهم الحاجور، وهو الذي يأخذ الحلقوم مع الرئة، فيدخل الحلقوم في دبره ويشرّح الرئة على فخذه تشريحًا رقيقًا ويذرّ عليه دم الأخوين. ومنهم الخاقاني الذي يحتال في وجهه حتى يجعله مثل وجه خاقان ملك الترك، ويسوده بالصبر والمداد، ويوهمك أنه ورم. ومنهم السّكوت الذي يوهمك أنه لا يحسن أن يتكلم. ومنهم الكان، وهو الذي يواضع القاص من أول الليل على أنه يعطيه النصف أو الثلث فيتركه حتى إذا فرغ من الأخذ لنفسه اندفع هو فتكلم. ومنهم المفلفل، الرفيقان يترافقان فإذا دخلا مدينة قصدا أنبل مسجد فيها، فيقوم أحدهما في أول الصف، فإذا سلم الإمام صاح الذي في آخر الصف بالذي في أول الصف: يا فلان، قل لهم. فيقول الآخر: قل لهم أنت: أنا أيش. فيقول: قل، ويحك، ولا تستح. فلا يزالان كذلك وقد علّقا قلوب الناس ينتظرون ما يكون منهما، فإذا علما أنهما قد علقا القلوب تكلما بحوائجهما وقالا: نحن شريكان، وكان معنا أحمال بَزٍّ كنا حملناها من فسطاط مصر نريد العراق فقُطِع علينا، وقد بقينا على هذه الحال لا نحسن أن نسأل، وليست هذه صناعتنا. فيوهمان الناس أنهما قد ماتا من الحياء. ومنهم زكيم الحبشة الذي يأتيك وعليه درّاعة صوف مضرّبة مشقوقة من خلف وقدّام، وعليه خفّ ثغري بلا سراويل يتشبه بالغزاة. ومنهم زكيم المرحومة المكافيف يجتمعون خمسة وستة وأقل وأكثر، وقائدهم يبصر أدنى شيء، عينه مثل الخفاش يقال له: الإسطيل، فهو يدعو وهم يؤمنون. ومنهم الكاغانيّ الذي يتجنن أو يتصارع ويزبد حتى لا يشك أحد في جنونه وأنه لا دواء له لشدة ما ينزل به. ومنهم القرسيّ، وهو الذي يعصب ساقيه أو ذراعيه عصبًا شديدًا ويبيت على ذلك ليلة، فإذا تورم واحتقن فيه الدم مسحه بشيء من صابون ودم الأخوين وقطر عليه من سمن البقر وأطبق عليه خرقة ثم كشف بعضه، فلا يشك من رآه أنه آكلة نعوذ بالله منها. ومنهم المشعب الذي يحتال للصبي حين يولد بأن يزمنه أو يعميه ليسأل به الناس، وربما جاءت أمه أو يجيء أبوه فيتولى ذلك: فإما أن يكسبا به أو يكرباه. فإن كان عندهما ثقة، وإلا أقام بالأولاد والأجرة كفيلاً. ومنهم الفيلور، وهو الذي يحتال لخصيتيه حتى يريك أنه آدَر، وربما أراك أن بهما شرطًا أو جرحًا، وربما أراك ذلك في دبره. وتفعل المرأة ذلك بفرجها. ومنهم الكاخان الغلام المكدي إذا واجر وعليه مسحةٌ من جمال وعمل العملين جميعًا. والعوّاء الذي يسأل بين المغرب والعشاء ويطرّب في صوته. ومنهم الإسطيل، وهو المتعامي الذي إن شاء أراك أنه أعمى، وإن شاء أراك أنه ممن نزل في عينه الماء، وإن شاء أراك أنه لا يبصر. ومنهم المزيديّ، وهو الذي يدور ومعه دُرَيْهِمَات، يقول: هذه دريهمات قد جُمِعَتْ لي في ثَمَن قطيفة، فزيدوني فيها، ورحمكم الله. ومنهم المستعرض الذي يعارضك وهو ذو هيئة في ثياب صالحة، يريك أنه يستحيي من المسألة ويخاف أن يراه معرفة فيعرض لك اعتراضًا ويكلمك خَفتًًا. ومنهم المطيّن، وهو الذي يطيّن نفسه من قرنه إلى قدمه ويأخذ البلاذر يريك أنه يأكل البلاذر".
منك لله يا جاحظ على خفة ظلك وموسوعيتك حتى فى عالم الشحاتة والشحاتين. ولكن يا عمنا الكبير لا يسعنى، رغم ذلك كله ورغم عبقريتك التى شهد لك بها العالم كله من عرب ومستشرقين، إلا أن أقول لك: قديمة! فشحاتونا فى مصر فاقوا شحاتيك. اسمع يا سيدى ما قاله لنا، ونحن جالسون ليلا عند كُشْكِه بجوار مسجد الشيخ غراب بحدائق القبة، الحاج منصور العدلى جارنا وصديقنا وممولنا بالحكايات الطريفة الآتية من قاع المجتمع والتى تقطر ظرفا، إذ ذكر لنا ذات جلسة أنا ود. محمود عباس، الأستاذ الجامعى الأزهرى الذى لا يدانيه أحد فى خفة الظل وحلاوة الروح والذى يعشقه مستمعو إذاعة القرآن الكريم، أن من حيل الشحاتين الآن أن يأتى قوم بعد صلاة العصر بنعش أبيهم الميت إلى المسجد يريدون أن يصلى الإمام والناس عليه قبل أخذ الجثة إلى القرافة، ولكن ما إن يستعد الإمام والناس للصلاة على النعش حتى يندفع من مكان ما بالمسجد رجلان تنشق الأرض عنهما بغتة، فيصيحان بالناس ألا يصلوا على الرجل قبل أن يدفع لهما أهله ما كان مدينا به لهما، إذ الصلاة على الميت لا تجوز إلا بعد قضاء الديون التى عليه. وهنا تقوم مشادة بين الرجلين وأهل الميت يحاول فيها أبناء الرجل وأقاربه أن يقنعوا الدائنين بئأجيل المطالبة بالفلوس حتى يدفنوا الجثة ويصير لكل حادث حديث، إلا أن الرجلين صاحبى الدَّيْن لا يقتنعان ولا يلينان، ويريدان حقهما ثالثًا ومثلَّثًا الآن فورا، وإلا حالا دون الصلاة على ميتهم. ويحاول مرة أخرى أهل الرجل الاعتذار بأنهم لم يحسبوا لهذا الأمر المباغت حسابا، ومن ثم فهم غير مستعدين للدفع حاليا ولا معهم فلوس أصلا. وبعد شد وجذب يتطوع أولاد الحلال من بين المصلين، وهم كثر بحمد الله لأن البَلَه بين البشر كثير، فيعرضون على الحاضرين أن يجمعوا المبلغ المطلوب إنقاذا للموقف الحرج حتى يمكن الصلاة على الميت والذهاب به إلى الجبّان لدفنه. وهكذا يتم جمع المبلغ والصلاة على الرجل، وينصرف أهله بنعشه، وينصرف الدائنان لحال سبيلهما، وينفض السامر من الجامع، وتنتهى المسرحية الكوميدية التى رأينا فصولها، والتى ألفها وأخرجها وأداها أصحاب النعش والدائنان وأول رجل كريم أخرج من جيبه بعض المال فصنع الموجودون صنعه، واستطاعوا بها أن يقرطسوا الحاضرين ويأخذوا منهم مالهم، مع أنه لا يوجد ميت ولا ديَّانة ولا يحزنون. والآن أليس الشحاتون المصريون على أيامنا هذه الغبراء أذكى وأدهى وأظرف من شحاتى العراق على أيام الجاحظ؟
ولكنْ كله كوم، وشحات الغرام كوم آخر، ذلك الشحات الذى لم يعرفه ولم يسمع به لا الجاحظ ولا ابن المقفع ولا البيهقى ولا بديع الزمان الهمدانى ولا الحريرى ولا الجن الأزرق من قبل. اسمع ما يقوله شحات الغرام محمد فوزى وما ترد به عليه معشوقته رهيفة القلب العطوفة الحنونة ليلى مراد، التى تطل عليه من شرفة قصر أبيها، وقد وقفت وراءها، بغرفة النوم الفسيحة الفخمة ذات الستائر المترفة الهفهافة ثم فى الشرفة الجميلة الفينانة التى يمرح فيها الخيل على راحتها، الشغالة خالدة الذكر وكاتمة الأسرار الغرامية لستاتها الشابات فى الأفلام المصرية، الممثلة وداد حمدى، وفى يديها وردة تقطف ورقاتها ورقة ورقة فى هيام وغرام، ثم تضم ما بقى منها إلى صدرها فى وَلَهٍ ودَلَهٍ، بينما الحوار الغنائى الحنون شغّال على أذنه بين العاشقين: الفتاة الجميلة المطلة على حديقة قصرها تحاول أن تصرف العاشق الشحات اللجوج، وإن كانت فى الواقع تريد استمرار بقائه تحت الشرفة يعرض حبه وقلبه كى يشبع غرورها بجمالها ورقتها وأناقتها وثروتها، والشحات الأنيق ببدلته الجديدة الغالية، وحذائه اللامع الذى ليس عندى مثله، ورباط رقبته الذى سيأكل منها حتّة، وعكازه المضحك الذى أمسك به فى يده وحَنَى جذعه عليه تظاهرا بالضعف والانكسار والمسكنة، وقد وضع يده على أذنه كأى شحات مُعْدِم جار عليه الزمان، وهو يغنى فى لجاجة وارتعاش، ويتقدم نحو القصر متعارجا حتى يكون تحت الشرفة مباشرة، طالبا أية حسنة من عاشقته الظريفة: نظرة أو بسمة أو كلمة رضا أو ساعة صفا أو ما أشبه، لينتهى المشهد بوردة ندية تلقى بها إليه من عليائها فيتقبلها شاكرا مبتهلا إلى الله أن يزيدها من نعيمه الذى أفاضه عليها جمالا ودلالا. ودعنا من روعة الأداء والتمثيل وخفة الظل وتمطيط الكلمات وتكريرها وترقيصها وتظاهر روميو الشحاتين بالحزن الشديد حتى لنظن أنه يوشك أن ينهار باكيا. مسكين يا روميو الشحاتين:
- شحّاتْ ومَدّ إيديه وكسْر خاطْرُه حرامْ
- حَدَفُه الْهَوا هنا ليه؟
- طالبْ تحنُّوا عليه يا محسنين الغرامْ
- وَنحِنّ، قول لى، بإيه؟
- ارموا له له نظرهْ ولاَّ ابتسامهْ
حَسَنَهْ، وتنفعْ يُوم القيامهْ
- يعطيكْ، لله
- والنَّبِى إحسانْ لله!
- قلت: على الله!
- وأنا قلت: كمان لله!
- اِسْرَحْ!
- للهْ!
- رَوَّحْ!
- لله!
يامحسنين الغرام، لله
يا أرقّّ خلق اللهْ،
ضِيف الجمالْ مكروم
- هُوَّ احْنا ضَيِّفْناه؟
- ما تْرُدِّنِيشْ محرومْ
- إيهْ كل ده؟ باينْ عليكْ طماعْ!
- هُوَّ كدهْ. الشحاتينْ أنواعْ!
كلمةْ رضا لله!
- عايز الرضا صدقاتْ؟
- ساعةْ صفا لله!
- زوِّدْتها يا شحاتْ!
اسرحْ!
- لله!
- رَوَّحْ!
- لله!
- يا شحاتين الغرام، على الله!
- يظهر: صحيح اللى بتشكيه. غلبانْ يا روميو الشحاتين
- غَلِّبْنى إيه الاّ عْنِيكى؟
- أنا قلبى رَقّ وأثر فيه. صوتك، ياكبدى على المسكينْ!
- لو تسعديه: شِىءْ فى إيديكى
- ما بقِتْش اقول: "الله يحننْ"، لا الناسْ تسمّينى بخيلهْ
- والبخل فى الـحُبّ يجنِّنْ. صَدَقَهْ، وتِرْضِينى، قليلهْ
- على ما قُسُمْ، وخلاصْ، خُدْها
- ياخُدْ عَدُوِّينِكْ
- نادْيهْ ولِسَّهْ بعنقودْها
- يا رُوحْ مُحِبِّينِكْ
اللهْ يزيدْ حسنِكْ قِيمَهْ. زينْةِ الجناينْ والبساتينْ
ولا يِخْلِيهُمْ لك ياكريمهْ. من ورد أبدا ولا ياسمينْ
ولا فُلّ. تعيشْ إلهام
إدينى معادْ لله
- فُوتْ بكرهْ خمسهْ تمامْ
مِنْ قَدِّمْ شىءْ بيداه
يِلْقَاه، وْكُلُّهْ على الله
كله وكله على الله
- يجعلْها عمَارْ. بيوت الأحبابْ
وانا باستمرارْ. حَوَالِينِ البابْ
ولأنى شيخ مطمطم، ولا يمكن أن يمر شىء من تحت أنفى إلا وحللته لغويا وأدبيا، فإنى دائما ما أسأل طلبتى وطالباتى: هل إذا قلنا بالفصحى على طريقة الشحاتين فى الشوارع أو فى البساتين تحت شرفات القصور تحنينا للقلوب، قلوب أهل الخير وقلوب أهل الحب على السواء: "من قدم شيئا بيداه التقاه"، أنكون على صواب؟ وحتى الآن لم يستطع طالب أن يتذكر ما درّسه له أساتذته فى مادة النحو من أن المثنى كان يُعْرَب بالألف فى كل الأحوال: رفعا ونصبا وجرا عند بعض القبائل العربية. ولو كانوا أذكياء لأجابونى: نحن لسنا شحاتين. فكيف نستطيع الرد على هذا السؤال النحوى الفقايرى؟ لكنهم، للأسف، ليسوا أذكياء. ومرة أخرى أسأل الجاحظ: بالله هل كان عندكم، يا جاحظ، شحات كهذا الشحات الظريف الذى قد يحق لى أن اباهى به لأنه من قرية شبه مجاورة لقريتى، وكم لعبنا الكرة ونحن صغار ضد لداتنا من نفس أسرته؟
ورغم كل ما قلته عن عدم استجابتى للشحاتين المحترفين فإننى أنسى هذا المبدأ فى بعض الأحيان تحت ضغط عاطفى: فعلى سبيل المثال كنت ليلة العيد الكبير الماضى أتريض قبيل الفجر، وإذا بى، وأنا مار بكنتاكى الكائن بشارع مصر والسودان بحدائق القبة، أرى طفلا فى نحو التاسعة من عمره متوسط الحجم يلبس معطفا باليا خشنا، وليس فى قدميه حذاء، ومتسخا كأنه لم ير الماء منذ قرون، ويجلس بباب المطعم أعلى الدَّرَج مكتفيا بالتطلع فى وجوه الداخلين والخارجين دون أن يمد يده لأحد أو يتعرض لأحد، فتحركت مشاعرى نحوه، وعزمت حين أنتهى من جولة الذهاب أن أشترى له طعاما ومشروبا. وفعلا فى طريق عودتى توقفت عند مخبز أفرنجى قريب من جامع الشيخ كشك، واشتريت له فطائر وبسكويتا وبعض القرص المحشوة، وعلبة بيبسى (كانز)، ودعوت الله أن أجده فى الموضع الذى شاهدته فيه. وكم كانت سعادتى كبيرة حين وجدته هناك لم يبارح المكان. اقتربت منه، وكان متحفظا بعض الشىء، فربَّتُّ على كتفه وطمأنته قائلا: هذا الطعام لك. لكن قل لى: ماذا تفعل هنا فى هذا الوقت المتأخر من الليل؟ قال بعد شىءمن التردد والتوجس: أمرنى أبى أن أخرج من البيت لأشحت وألا أعود إليه إلا بعد أن أجمع له ستين جنيها. رَبَّتُّ على كتفه مرة أخرى، وأنا متألم قائلا فى نفسى: لقد كان من الممكن جدا أن أكون مكان هذا الصبى المسكين أنا أو أحد من أولادى. هل هناك ما يمنع من ذلك؟ كلا وألف كلا. وحمدت الله أن أقدرنى على إدخال السرور على قلب الولد، الذى يشترك معى فى الإنسانية، وإن كانت ظروفه سيئة، وظروفى أنا حسنة. ثم مضيت وأنا أعلم أن ما صنعته لا يحل المشكلة. لكن ماذا كان باستطاعتى أن أفعل؟
وبالمثل تعرضت الليلة لموقف آخر استثارَ عطفى وشفقتى، إذ كنت عائدا بالسيارة من مشوار فى مدينة نصر عن طريق شارع مصطفى النحاس، ثم انعطفت فى الشارع الذى يقوم على ناصيته من الناحية الأخرى مسجد رابعة العدوية. وكانت الإشارة عند المسجد مغلقة، وكانت هناك بنت صغيرة فى نحو السابعة من عمرها صغيرة الحجم تبيع فى حقيبة قماشية (مخلاة) معلقة فى كتفها مناديل ورقية. بطبيعة الحال الفتاة تتبع معلما أو معلمة توجهها هى وأمثالها، أو ربما تعمل مع أمها أو أبيها. إلى هنا، وليس فى الأمر شىء غير اعتيادى، إلا أننى لاحظت أن البنت، حين عرضت المناديل علىَّ، كان صوتها خفيضا وحييا ومنكسرا لكن دون ذلة. كما كانت حلوة التقاطيع وعلى قدر من النظافة. حرك المنظر عواطفى، ولكن البنت غادرتنى وانطلقت فى خفة حركة إلى الأمام، فمددت يدى أبحث فى جيوبى عن الجنيهات المعدنية التى معى، فاستخرجت اثنين، ثم عدت فزدتها واحدا آخر فصارت ثلاثة جنيهات، ثم عدت فأرجعتها مكانها، وأخرجت بدلا منها ورقة بخمسة جنيهات كى أسكت ضميرى. ثم فُتِحَتِ الإشارة الضوئية، فاقتربت السيارة من البنت التى كانت قد وصلت إلى مكان شرطى المرور عند الإشارات الضوئية، وأردت الوقوف ومناداتها لأعطيها الورقة المالية وأُسِرّ إليها أنها من أجل عشائها هى وليست من أجل المعلم أو الأب الذى يسرّحها. لكن البوق المستعجل الغاضب الذى ضربه لى قائد السيارة التالية لى منعنى من التريث عند البنت، ومضيت وأنا متألم لعدم إعطائى البنت الجنيهات الخمسة، واستغفرت الله. قد يرى البعض فى هذا لونا ساذجا من التفكير، فالبنت فى الغالب لن تستطيع أن تحجز الجنيهات الخمسة لنفسها، لكنى إنما أردت أن أشعرها بأننى أنظر إليها كإنسانة مثلنا جميعا، ولذا أفكر فى أمر خاص بها شخصيا لا فى مجرد مبلغ من المال أعطيها إياه على سبيل الصدقة. ترى أأنا على حق أم على خطإ؟ لا أدرى، ولكن العواطف لا تفكر بهذه الطريقة.