من ذكريات الطفولة الأولى (سطور من كتابى: "من كُتَّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد- محطات على مسيرتى الروحية") 3:
د. إبراهيم عوض

ومن ذكرياتى الدينية المتعلقة بالمساجد تلك الليالى القمراء الصيفية الرائعة التى كنا نقضيها أحيانا بعد وفاة والدى نائمين على المشّاية (أى الترسينة التى تصل بين الطرفين العلويين لدارنا بالقرية، والتى لم يكن تحتها إلا الفراغ بين البيت والدكان)، إذ كنت أنام فوق الشلتة التى كنت أرى جدى رحمه الله متمددا عليها فى مرضه الأخير صامتا لا يتكلم، وكان الطل يهبط فى آخر الليل علينا ونحن نيام بدلا من القيظ الخانق الصاهر داخل الغرف فنشعر أننا فى الجنة. ثم تتم السعادة بصوت المؤذن على سطح المسجد المجاور، مسجد سيدى أبو الريش. وكان المؤذن هو الحاج محمد الرِّبَّة، صاحب الصوت الندى الحنون، فكان صوته ينزل على قلبى سلاما وابتهاجا رغم أننى لم أكن أنهض من مرقدى للصلاة، بل كنت أبقى فى فراشى أتنعم بالصوت والجو الروحانى الشفيف، ثم أعود للنوم دون أن أشعر. لقد كنت فى نحو التاسعة من عمرى آنذاك. 
كما كنت مغرما ككل أولاد الريف فى ذلك الوقت بصوت طبل المسحراتى والبازة التى تسبق بها أم عوض طبل المسحراتى بقليل، فكأنها تمهيد له. وكانت أم عوض تكتفى بأن تنادى الناس فى البيوت قائلة فى بساطة محببة: "أنا ام عوض يا ولاد". وفى ليلة من الليالى، وكان أبى قد مات، عزمت على أن أبقى فى الشارع حتى أرى، وجها لوجه، المسحراتى وهو يقرع طبله أمامى لا مجرد سماع من داخل البيوت خلف الأبواب المغلقة، فنمت على التراب فوق مصطبة بيت الشيخ أحمد زيد صانع القفف والغلقان بعيدا بضعة أمتار عن بيتنا، إلى أن استيقظت على صوت طبل المسحراتى، فكنت كمن بُعِث من القبور إلى الحياة مرة أخرى من شدة الفرحة. وبطبيعة الحال لم أخف من العفاريت، إذ كنا نؤمن أن العفاريت تُسَلْسَل فى ليالى رمضان، كما كان الوقت صيفا فلا ينام الناس مبكرين كما يفعلون فى فصل الشتاء والأمطار والبرد، فضلا عن أن الناس فى رمضان يسهرون ولا يخلدون إلى الفراش سريعا على عكس الحال فى ليالى الشهور الأخرى، وبعض الدكاكين لا تزال مفتوحة، وأنوار مصابيحها تزيح ظلمة الشوارع.
والآن نعود إلى مسيرة حياتى فأقول: لقد كان التعليم فى طفولتى جادا لا يعرف الهزل ولا التدليل، وكان أهلونا يرددون أن "عصا الفقيه من الجنة". وهو معنى عجيب، إذ ينظرون إلى العصا لا على أنها أداة للضرب المؤلم، بل على أنها وسيلة تربوية ناجعة تأخذ بيد الطفل إلى مراقى العلم والفلاح. ولهذا لم يحدث تقريبا أَنِ اعترض أحد من أهلينا على ضرب الفقيه للتلاميذ. وكان سيدنا الشيخ مرسى رضوان، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، كفيفا فكان يضربنا بالخيزرانة التى فى يده لا يبالى أين تقع من أجسادنا. كما كانت هناك الفلقة، التى كانوا يضعون أرجل التلاميذ المهملين أو المتمردين فيها حيث يُلَفّ عليها الحبل المربوط فى طرفى عصا غليظة من قِبَل ولدين من أولاد الكتاب الأشداء، فلا يستطيع التلميذ، ولو كان أجعص جعيص، أن يتفلفص منها قيد شعرة، ثم ينهال الفقيه بالخيزرانة الرفيعة اللدنة على باطن قدميه حتى يلهبهما، ويبكى الولد ويصرخ لعنان السماء، وما من مجير. وأنا، وإن كنت غير راضٍ تماما عن تلك الطريقة القاسية، أرى أن تدليل الأولاد الآن قد بلغ الغاية من السخف والبلاهة بحجة التربية الصحيحة، وأرى أن المنهج السليم فى التربية يقع فى نقطة وسط بين تلك القسوة وهذا التدليل الأحمق المفسد. وإلا فلو كان العقاب أمرا سيئا فلم جعل الله، إلى جانب الجنة، نارا محرقة تشوى الجلود وتصهر ما فى البطون؟ إن الحياة ليست نعيما ورُفَهْنِيَة، بل هى عمل شاق وجِدٌّ صارم، وفيها بجوار هذا بعض السعادة والابتهاج. فلماذا يا ترى يريد بعض الناس الذين يزعمون أنهم يفهمون التربية أفضل من غيرهم أن يُعْفُوا الطفل والتلميذ والطالب من العقاب إذا أخطأوا أو أهملوا؟ لقد انهار التعليم فى مصر والعالم العربى، ضمن أسباب انهياره، بسبب سياسة التدليل والتربيت على الأكتاف المتبعة مع التلاميذ والطلبة رغم كل ما نشاهده من أفعالهم السيئة التى لا تطاق حتى لقد صار الكثير منهم لا يحضرون الحصص والمحاضرات، ويظنون أن مجرد الاستذكار هو تكليف لهم بما لا يطيقون، ومن ثم لا ينبغى أن يُطَالَبُوا به.
وقد اشترك فى تعليمنا بجمعية المحافظة على القرآن الكريم، حيث كنا نجلس على مقاعدَ أو دِكَكٍ خشبيةٍ نظيفةٍ وأمام كل منا قِمَطْره الخاص، عدد من المشايخ والأساتذة منهم، بل على رأسهم، سيدنا الشيخ مرسى رضوان (وهو فعلا سيدنا وتاج رؤوسنا جميعا. ألم يعلمنا القرآن المجيد؟). وهناك ابنه الشيخ نبيه، والشيخ إبراهيم حجاج، والشيخ محمود أبو الخير، والأستاذ عبد الفتاح غازى، الذى ذهب إلى المدرسة فى طنطا، إلا أنه لم يكمل المشوار، وكان يلبس جلاليب أفرنجية أنيقة، ويضع فوق الجلباب الأفرنجى الجميل فى الشتاء جاكتة آنق وأجمل، وكان لطيف المعشر مريح ملامح الوجه، لا أذكر أنه ضرب أحدا منا، ومع ذلك كانت له هيبة. وكان يعلمنا الإملاء والحساب، أما القرآن فيعلمناه المشايخ السابقة أسماؤهم، وإن كان الشيخ نبيه ينفرد عنهم بتعليمنا القرآن والإملاء والحساب جميعا. وكان أحيانا ما يستقل هو وأبوه بقسم من التلاميذ فى كتابهما، ثم تدور الأيام فيعودان إلى الالتحام بجمعية المحافظة مرة أخرى. 
وكان هناك قبل كثير من هؤلاء الأستاذ، أى الأستاذ أحمد تَنْوَة، وابنه الأستاذ محمد تنوة، الذى ترك الجمعية مبكرا والتحق بالمدرسة الإلزامية، ثم أصبح ناظرا لها يوم كنا نهتف فى فنائها الصغير بالناحية البحرية مرددين فى طابور الصباح نشيد "مصر، مصر، مصر أُمُّنا" حين التحقتُ بها قبيل وفاة والدى، إذ كان يُعِدّنى للمدرسة الإعدادية فى طنطا، وأخى الأكبر للأزهر الشريف. وكان الأستاذ تنوة من أصدقاء أبى، ويأتى إلى الدكان فيجلس على الكرسى، ويدخن السجائر، ولكنه لا يأخذ من كل سيجارة إلا عدة أنفاس قليلة ثم يلقيها على مد ذراعه بأناقة بل بتأنق، فكان هذا التصرف منه يعجبنى جدا. لا أقصد أننى كنت أعرف مضارّ التدخين فأنا سعيد بأنه لا يكمل تدخين السيجارة كلها، بل لأن هذا كان فى نظرى دليل رفاهية واستغناء، فهو يحرق الفلوس ثم يلقيها على الأرض لا يبالى. 
وكان هناك أيضا الشيخ أحمد الشيخ، والشيخ محمد الدعلوب، الذى التحق قبيل وفاته بفترة بالإذاعة والتلفاز مُوَشِّحًا دينيًّا ذا صوت جميل، والذى ما زالت صورته فى خيالى حتى الآن رغم انصرام كل هاتيك العقود الطويلة وهو يعلمنا فى الفصل الجديد فى آخر الفناء بجوار مكتب الناظر كيفية الوضوء والصلاة، وما فتئت عبارة "حذاء أذنى" ترن فى مسمعى حتى الآن حين كان يطلب منا أن نردد وراءه ما ينبغى أن نعمله حين نكبِّر أو نركع أو نقوم من الركوع أو نهوى للسجود: "وأرفع يدى حذاء أذنى". ومن الطريف أننى ظللت فترة طويلة أظن أن إطار الأذن يُدْعَى: "جزمة". أليست كلمة "حذاء" تعنى "حزمة"؟ أرأيتم عبقرية كهذه العبقرية التى خصنى المولى بها؟ رحم الله الجميع. ترى لو لم يقيض الله لنا هؤلاء المشايخ والأساتيذ فماذا كنا نصير؟ أدعو الله لهؤلاء الرجال الكرام بالجنة والرحمة والرضوان، فقد أَدَّوْا دورا حضاريا عجيبا رغم أننا لم نكن نقدر ما صنعوه معنا حين كنا تحت أيديهم. 
قلت: "رحم الله الجميع" لأنى كنت أظن أنه، بموت الشيخ إبراهيم حجاج منذ شهور، يكون جميع هؤلاء الأساتذة والمشايخ قد تُوُفُّوا. إلا أننى، من جواب على سؤال عابر وجهته للأستاذ بسيونى صيرة جارنا المحامى الخبير بكل شىء وكل شخص فى القرية، عن الشيخ محمود أبو الخير، الذى كان قد أخبرنى ابن خالى قبلا أنه مات، علمت أنه لا يزال حيا يرزق، فعاودت السؤال للتحقق من صحة ما أسمعه عنه، فأكد لى صديقنا المحامى أنه ما برح على قيد الحياة، فاتفقت معه على أن نذهب نزوره لأقضى بعض ما له من حق عندى بوصفه أحد من علمونى فى صغرى ممن لولا هم ما صرت إلى ما أنا عليه الآن، إن كنت شيئا فعلا. وفعلا ذهبت أنا والمحامى المذكور وزرته فى زُقْرِه، الذى لم أدخله فى حياتى قرب الجامع الكبير بوسط القرية سوى مرتين تقريبا، فجددت العهد بذكريات الطفولة هناك، وإن كان كل شىء قد تغير، ووجدت الشيخ محمود لم تتغير ملامحه تغيرا يذكر، وكان سعيدا بالزيارة، وقبلت يديه مرتين معلنا أن له فى رقبتى دينا لا يمكننى قضاؤه، وقدمت له هدية على سبيل التعبير عن تقديرى له. وكان هناك بنتان وولدان من أبناء الجيران يحفظون على يديه القرآن، فأخذت أداعبهم وأشجعهم، واشتريت لهم بعض الحلوى، وأعطيتهم بعض الجنيهات القليلة. ولا شك أنهم قد استغربوا تصرف ذلك الرجل العجوز الخارج عن نطاق ما ألفوه. وعدت من الزيارة، وأنا سعيد أن الشيخ محمود أبو الخير لا يزال حيا، وأننى قد عبرت له قبل أن أموت عن إحساسى العميق بالدين الذى يديننى به والذى لم أكن أقدره حق قدره من قبل، راجيا من الله أن أتمكن فى الزيارة التالية لى إلى القرية من زيارة الشيخ مرة أخرى وحمل بعض الألطاف مرة أخرى إليه، وهو ما فعلته بعد الزيارة الأولى بنحو أسبوعين حين زرت القرية مرة أخرى فى طريقى لحضور عقد القران الخاص بحفيد أخى الأكبر بالإسكندرية، وأنوى أن أكرره كلما استطعت، تعويضا لهذا الأستاذ الذى علَّمنا هو وأمثاله القرآن المجيد لقاء قروش زهيدة لا تسمن ولا تغنى من جوع فى ذاتها، إلا أن الله سبحانه وتعالى "طرح فيها البركة" بتعبير أهل القرية.
ومن الذكريات الطريفة التى لا أزال أذكرها عن الشيخ محمود أبو الخير أنه كان يسمِّع لوحا أو حصة لأحد الأولاد الكبار العفاريت، فغلبه النوم من كثرة الإرهاق والصخب والزعيق فى الأولاد والاستماع إليهم، علاوة على حرارة الظهيرة الصيفية، فما كان من التلميذ الكبير المخضرم إلا أن أخذ يردد على أذن الشيخ محمود محاولا أن يوقظه قائلا: "شِيخْ محمودُ، يا داودُ!"، ولما لم يرد عليه الشيخ محمود المستغرق فى النوم من شدة الإرهاق أحذ يردد هذه الجملة المسجوعة عفو الساعة: "شِيخْ محمودُ، يا داودُ!". يريد أن يقول: إننى، يا شيخ محمود، قد انتهيت من تسميع لوحى (أو حصتى)، ووصلت إلى قوله تعالى من سورة "سبأ": "يا داود، إنا جعلناك خليفة فى الأرض...". أى لقد وصلت إلى نهاية الشوط، وأريدك أن تطلق سراحى. 
ومن هذه الذكريات أيضا أن والدة الشيخ محمود أبو الخير كانت ترسل إليه من حيهم البعيد نسبيا عن حى كتاب سينا الشيخ مرسى رغيف عيش مرقرق من أرغفة الريف المبططة ومعه بيضتان مشويتان، فيلف البيضتين فى الرغيف، ويمسكه بيديه الاثنتين ويأكله بهذه الطريقة الغريبة الظريفة التى وصفها د. طه حسين فى كتابه: "الأيام" وقال إنه طبقها فى طفولته ذات مرة فأثارت ضحك إخوته وأخواته واستغراب أبيه وبكاء أمه. وبالمناسبة فالشيخ محمود كفيف مثله. وكانت عيوننا تتابعه، وهو يأكل البيض، بشىء من الحسد لأننا نكون ساعتئذ جائعين مرهقين، ولأن البيض لم يكن طعاما عاديا فى تلك الأيام، أيام الفقر الذَّكَر، كما كانت رائحة صفار البيض بلونه الفاقع الجميل تفغم أنوفنا، فلا نملك ريقنا من التحلب "داخل أفواهنا"، ولا داعى للفضائح أكثر من هذا.
كذلك أخذنى والدى مرة معه إلى طنطا فى صغرى واصطحبنى إلى محل حلوانى فى شارع البورصة وأطعمنى هريسة، فأحضر الجرسون لى شوكة آكل بها الحلوى. وكانت أول مرة أرى فيها الشوكة، دَعْكَ من استعمالها، فنحن لم نكن نعرف الهريسة فى القرية، كما كنا نستخدم أيدينا غالبا فى تناول الطعام، أما إن اردنا تحبيك المسألة فعندنا الملعقة. ولما عدت إلى القرية أخذت أحكى لجيراننا ما وقع، وجاءت سيرة الشوكة، فلم أعرف ماذا أسميها. وهنا تفتقت عبقريتى (ألم أخبركم من قبل أننى عبقرى، فلم تصدقوا؟)، فقلت لهم إن الحلوانى قد أعطانى "مِذْاَرة صغيرة" آكل بها الحلوى. فضحك الجميع، وتبرع أحدهم فأفهمنى أنها تسمى: "شوكة"، وهو ما أثار دهشتى، إذ إنى أعرف الشوكة، وهى تشبه الإبرة، فما علاقة هذه بتلك؟ وبهذه الطريقة المزعجة دخلت كلمة جديدة قاموسى اللغوى لم تكن فيه من قبل. 
وبما أننا بصدد تنامى معجمى اللغوى أذكر أننى، وأنا فى المدرسة الابتدائية بالقرية بعد ذلك ببضع سنين، وكان والدى قبل أن يموت بقليل قد أخرجنى من الكتاب وجمعية المحافظة وأدخلنى تلك المدرسة إعدادا لى لدخول التعليم المدنى، فى الوقت الذى كان يعد أخى الأكبر للالتحاق بالأزهر، كنت أقرأ أمام مدرس العربى نصا من كتاب قراءة الفرقة الرابعة، ومرت بى فى النص كلمة "مهذَّب"، فظننت أنها تعنى الرجل "المهزَّأ"، أى غير المحترم، للتقارب الشديد بين حروف الكلمتين. ورغم أن الأستاذ قد شرحها بأن معناها الشخص المحترم فقد ظللت فترة لا أستطيع هضم هذا الشرح الذى بدا غريبا جدا فى نظرى آنذاك. 
كما أذكر أننى فى حصة القواعد قد طلبتنى المدرِّسة (أبله نجاة) من فصلى (رابعة 1) إلى الفصل الآخر (رابعة 2) لإجابة سؤال عن أسماء الاستفهام لم يستطع التلامذة هناك أن يجيبوا عليه، ولما أفلحتُ فى الإجابة المرادة طلبتْ منى أن أدور على الصفوف وأصفع كل تلميذ ممن عجزوا عن الجواب. ولا أذكر الآن تفاصيل ما وقع، إلا أن هناك أمرين مهمين: أن التلاميذ المصفوعين فى هذه الحالة لن يسكتوا غالبا على من صفعهم، بل المنتظر أن يؤذوه بعد الانتهاء من الحصة، كما أن هذا المنهج مسىء تربويا كما هو واضح لا يحتاج إلى تبيان. والغريب أننى كنت قد انتقلت مباشرة من الكتاب وجمعية المحافظة على القرآن الكريم إلى السنة الرابعة على عكس بقية التلاميذ، الذين وصلوا إلى فرقتهم بالتدرج الطبيعى بدءا من السنة الأولى الابتدائية، فكان المتوقع أن يكونوا أفضل منى ويعرفوا الجواب ولا أعرفه أنا. ولكن هكذا سار الأمر. وأرجو ألا أكون قد تعرضت إلى الانتقام بعد خروجنا من الفصل، فأنا لا أستطيع أن أذكر ماذا حدث بعد ذلك. 
وفى المدرسة الابتدائية كنت، فى حصة العلوم، أرسم صور الطيور والحيوانات التى أراها أمامى فى الكتاب رسما متقنا، لا لأننى كنت بارعا فى الرسم ذاته، بل لأننى كنت بارعا فى تقليد ما هو مرسوم أمامى. وكان الأستاذ يُسَرّ من صورى. ثم إننى وزميلا لى أخبرْنا مدرس الرسم، وكان اسمه فيما أذكر مصطفى القرش، وهو من قرية مشال، التى منها د. زغلول النجار والتى لا تبعد عن قريتنا سوى ثلاثة كيلومترات، أننا نحب الرسم، فطلب منا أن نقابله العصر فى غرفة النشاط، فأتيناه فى الميعاد، فكَلَّفََنا رسم بعض الأشياء عن طريق التنقيط باستعمال سن القلم الرصاص فى الضغط على ورقة اللزق الملونة بحيث تلتصق النقط التى تنفصل من الورقة على صفحة كراسة الرسم مكونة الصورة المرادة، وهو ما فشلنا فيه على النحو الذى أراده الأستاذ القرش وتوقعه منا. وشعرنا، كما شعر هو من قبلنا، بخيبة الأمل، وخرجنا ولم نعاود مثل هذا الادعاء مرة أخرى. كما كان هناك طين الصلصال، الذى كنت أصنع منه صورة ثعبان أو وجه إنسان، ثم لا شىء آخر عدا هذا، إذ لم أكن موهوبا فى مجال الفن التشكيلى البتة على عكس ابنتى الصغرى سلوى، التى تتقن الرسم إتقانا مدهشا، وحاولتُ إغراءها بالالتحاق بكلية الفنون الجميلة عبثا، فرفضتْ وفضلتِ الهندسة عليها. 
ونعود إلى الكتاب وجمعية المحافظة فأقول: كانت الطريقة التى تعلمنا بها فى طفولتنا القراءة والكتابة طريقة ممتازة. وإنى لأؤكد أننا، منذ أتقنّا القراءة والكتابة، لم نعد نخطئ فى الإملاء أخطاء تذكر. ولا أظننى قد أضفت إلى ما تعلمته فى القرية شيئا فى الإملاء ذا قيمة. لقد كانوا فى كثير من الأحيان يستفزّون قدراتنا بأن يطلبوا منا مثلا كتابة كلمات وجمل من نوع "توت عنخ آمون" أو "اللؤلؤ يتلألأ" أو "ما لكم تكأكأتم علىَّ كتكأكئكم على ذى جِنَّة؟ اِفْرَنْقِعُوا" وما إلى ذلك، كما علمونا اللام القمرية واللام الشمسية، وكذلك الفرق بين التاء والهاء المربوطتين، وبين الحروف المعطَّشة وغير المعطَّشة، وبين واو الجماعة وواو الفعل المضارع، وبين التاء المفتوحة والتاء المربوطة، وبين هذه والهاء المربوطة، والفرق بين كتابة العين والغين فى بداية الكلمة وبينها فى وسطها وفى آخرها بحيث لم نعد نخطئ فى شىء من ذلك البتة على عكس كثير من طلاب الجامعة الآن حتى المتخصصين منهم فى اللغة العربية. وكانت الطريقة التى تَعَلَّمْنا بها الكتابة والقراءة تقوم على تدرج أساتذتنا بنا خطوة خطوة بحيث يعلموننا أولا الحروف المفردة وطريقة نطقها وكتابتها، ثم ينتقلون بنا إلى الكلمات الثنائية المفتوحة الحرفين، ثم الكلمات الثنائية المفتوحة الحرف الأول والمكسورة الحرف الثانى... إلخ، ثم الكلمات الثلاثية المفتوحة الأحرف الثلاثة... إلخ. وكانوا يكتبون لنا على السبورة مثلا كلمة "ضُرِبَ"، ثم يقولون ونحن نردد وراءهم: "ضُرِبَ: ضاد، راء، باء. ضُرِبَ: ضاد، ضمة: ضُ. وراء، كسرة: رِ- ضُرِ. وباء، فتحة: بَ- ضُرِبَ", وبهذه الطريقة نأخذ بالنا من كل شىء فى الكلمة نطقا وإملاء وضبطا. 
أما الآن فطلاب الجامعة أنفسهم، إلا فى الشاذ النادر، لا يعرفون كيف يضبطون الكلمة ولا يستطيعون نطقها نطقا صحيحا رغم ضبطها. كما أن الغالبية منهم لا تستطيع كتابة معظم الكلمات على نحو سليم. والسبب، فى جانب منه على الأقل، هو هجر المدارس لتلك الطريقة التى ينظر التربويون الحاليون إليها بوصفها طريقة بائدة، على حين أنهم هم البائدون الفاشلون، إذ ينقلون الطرق الأجنبية إلى مدارسنا رغم اختلاف لغتنا إملاء ونطقا عن لغاتهم. ولكن ماذا تقول فى الأمخاخ الضيقة التى تظن أن كل شىء يأتينا من الغرب المتقدم لا بد أن يكون متقدما أولا، ومناسبا لنا بل لا يصلح لنا سواه ثانيا، مع أن تقدم الغرب، الذى لا ننكره، لا يعنى أن كل شىء هناك متقدم بالضرورة، ولا أن ما هو متقدم بالنسبة لهم لا بد أن يكون متقدما بالنسبة لنا أيضا؟ ولا أظن إلا أن هناك تآمرا فى الموضوع، إذ إن كثيرا من رجال تربيتنا يأتمرون بما يقوله الأجانب لغاية فى نفس يعقوب، ويطيرون إلى الامتثال لكل ما يطلبونه منهم ومن سياسيينا، الذين لا يصلح كثير منهم لأكثر من أن يكون سائسا فى إسطبل. وما زلت أذكر طريقة "شرشر" و"فلفل"، التى أُدْخِلَتْ إلى مدارسنا فى أواسط خمسينات القرن البائد، وثبت فشلها تماما، إذ كانت تقوم على حفظ شكل الكلمة كلها مرة واحدة، فكان الأولاد والبنات يعرفون جيدا الكلمات التى حفظوها، أما ما لم يسبق لهم حفظه فكانوا يعجزون عن التعرف إليه، ويقفون مبلِّطين كحمار فى مطلع.
وكان المنهج المتبع فى حفظ القرآن هو تعيين بضع آيات يقرؤها التلميذ على الشيخ من المصحف، ثم يقوم بكتابتها على اللوح الخشبى المدهون بطبقة طلاء زيتى أبيض، ثم يُصِحّه على الشيخ، ثم يحفظه، ثم يعود إلى الشيخ لتسميعه. فإذا نجح فى تسميعه دون خطإ انطلق فراجع ما سبق له حفظه من القرآن ليقف بين يدى الفقيه لتسميع حصة من المحفوظ القديم. وفى الغد يتكرر الأمر على نفس النحو... وهكذا دواليك. ومن يفشل فى أداء واجبه يضرب بالعصا، وقد يضرب بالفلقة إذا كان من الكسالى المتخلفين النائمين فى الخط أو من المتمردين أو ممن شكاههم أهلوهم إلى الفقيه. فإذا هرب خوفا من الضرب أرسل الفقيه وراءه بضعة تلاميذ من ذوى الجثث الضخمة والأَيْد الشديد، فيظلون يبحثون عنه حتى يأتوا به حتى لو كان لائذا بالبروج المشيدة أو كان مختبئا تحت طقاطيق الأرض. وهنا لا مفر من الفلقة. ومن ثم ترَوْنَنِى أصف التعليم فى الكتاب والجمعية بأنه كان جِدًّا كله، ومرارةً كله، ولا موضع فيه للهزل أو العبث. وكنا، ونحن نُسَمِّع اللوح أو الحصة، نقف أمام الفقيه متباعدى الرجلين نميل مرة إلى اليمين ثم إلى الشمال كبندول الساعة مع الاعتماد على الرجل الموجودة فى الناحية التى نميل إليها ورفع الرجل الأخرى. وكان بعضنا يضيف إلى تلك الحركات العامة حركات أخرى تخصه هو وتميزه عن باقى التلاميذ.
وقد تعرضت لضرب الفلقة مرة رغم أنى كنت ممن لا يُضْرَبون عادة لاجتهادى فى حفظ القرآن وانتقالى من مستوى إلى مستوى أعلى منه قبل زملائى الذين فى سنى وظروفى، بل قبل من يسبقوننى سنا وتعليما، إذ كان قد ضاع مبلغ صغير من المال من البيت، وظن والدى أننى أنا الذى أخذته، وكان لا يطيق أن ينحرف أحد من أولاده حتى إنه، على ندرة ما ضربنى، رآنى ذات مرة أمد إصبعى لأنفض الرماد من سيجارة أحد الزبائن فى الدكان، وكان قد وضعها فوق البنك، فما كان منه إلا أن صفعنى فى الحال على وجهى خشية أن يكون لمسى رماد السيجارة مقدمة للتدخين. وهو بالمناسبة لم يكن يدخن، كما لا أظنه كان مدمنا للشاى أو القهوة. وكان، على كل حال، حريصا ألا نتعود على أى من هذين المشروبين، ولهذا كان يصنع لنا العصائر المختلفة والسحلب والقرفة والزنجبيل والينسون وخلطة شِدِيد، التى كان بعضهم يسميها: "الوَرْد"، وكانت رائعة المذاق. وقد فكرت فى ثمانينات القرن الماضى أيام كنت آخذ زوجتى القاهرية إلى القرية، التى صارت بسببى تحبها على نحو غير اعتيادى أثار استغراب أهل القرية أنفسهم متعلمين وغير متعلمين، أن أشترى من شارع درب الأثر بطنطا خلطة شديد، فأعطانا البائع ما طلبناه، لكن الخلطة كانت داكنة لا وردية، كما كان طعمها حريفا أكثر من اللازم، وتفتقر إلى نكهة الورد المنعشة اللذيذة. 
ما علينا. نعود إلى حكاية الفلقة. لقد أحضرنى أبى وحاول أن يقررنى بما لم أفعل، ظنا منه أننى أكذب، فأؤكد له صادقا أننى لم أر تلك الفلوس التى ضاعت. إلا أنه ظل ورائى يقنعنى أنه لا بأس علىَّ إذا ما أقررت بالحقيقة، فكان أن انخدعت بالكلام المعسول، واعترفت، كذبا والله العظيم، أننى أخذت المال تصورا منى أن المسألة ستنتهى عند ذلك الحد، بيد أننى كنت واهما كبيرا، فقد شرع يسألنى ماذا فعلت به، فأخذت أقول إننى اشتريت حمصية وسمسمية، وحمصية وسمسمية، وحمصية وسمسمية، ثم حمصية وسمسمية لا أدرى للمرة الكم، ثم لم أستطع المضى فى شراء الحمصية والسمسمية مع أنه كان عندنا فى الدكان حمصية وسمسمية تكفى الأطفال المفاجيع فى الدنيا كلها وتفيض، فقلت له إن باقى الفلوس قد وقع منى وأنا ألعب فى السوق. 
وهنا، وبعد أن ظننتُ أننى قد عبرت الامتحان بسلاسة وسلام، أخذنى أبى إلى سيدنا الشيخ مرسى فى جمعية المحافظة (فقد كان أحيانا ما يستقل بكُتَّابه هو وابنه الشيخ نبيه، وأحيانا ما كانا يدمجانه مع تلاميذ الجمعية ويصير زيت المشايخ كلهم فى دقيقهم)، وإذا بالشيخ مرسى ينادى: إلىَّ بالفلقة، فتأتيه الفلقة فى الحال، وتُشَدّ قدمامى فيها، وهات يا ضَرْب، فتستحيل قدماى كتلة من النيران الملتهبة حتى إننى لم أستطع بعد انتهاء العلقة أن ألبس حذائى ولا كان بإمكانى لمس الأرض دون مقاساة الآلام الفظيعة التى لا تطاق. وكانت هذه هى العلقة الفلقية الوحيدة التى نلتها فى المدرسة، وكانت علقة ظالمة. ولكن هل فى نفسى الآن أية غضاضة تجاه أبى أو سيدنا الشيخ مرسى؟ أبدا والله. لقد كانا يربياننى، وإن كانا قد أخطآ الطريق. ولكن النية كانت طيبة. ثم إن هذا الكلام قد وقع منذ ما يقرب من ستين عاما، ولا شك أننى لو كنت ظللت أنقم عليهما طوال تلك الأعوام لكنت صخرى القلب لا ألين. إلا أن هذه ليست طبيعتى، كما كان أبى ذا فضائل كثيرة، وكنت أحظى منه أنا بالذات بالتدليل والتشجيع، فكيف أنسى هذا كله ولا أتذكر إلا تلك الشدة التى أخذنى بها مرة وحيدة يتيمة بنية سليمة تبغى تقويمى، وتخشى انحرافى؟ 
وقد أتممتُ حفظ القرآن المجيد قبل الثامنة حسبما أذكر مما كان يردده على مسامعى المشايخ الذين حفَّظُونِيه، وكانت والدتى قد تُوُفِّيَتْ قبل ذلك بعامين أو أكثر، فأهدى والدى سيدنا الشيخ مرسى، الذى حَفِظْنا القرآن على يديه المباركتين، باكو شاى كبيرا وتلفيعة ضخمة مما كان يبيعه فى الدكان تدفئه فى الشتاء حلاوةَ إتمامى حفظ القرآن، وربما شيئا آخر أو أكثر. وكان يقع فى يدى، بين الحين والحين فى ذلك الوقت، كتاب من كتب الأطفال كنا نتصفحه ونحاول القراءة فيه. ومما أذكره من هذه الكتب كتاب عن سيدنا نوح. ويبدو، اعتمادا على ما لا يزال منقوشا فى الذاكرة، أنه قصة من قصص الأنبياء التى ألفها للأطفال عبد الحميد جودة السحار أو محمد أحمد برانق، وكان قد أحضرها تلميذ اسمه محمد المسيرى معه إلى كتاب سيدنا الشيخ مرسى. كما عثرت فى بيتنا على نسخة من "ألف ليلة وليلة" ممزقة الصفحات الأولى والأخيرة حاولت أن أطابق بينها وبين حلقات المسلسل الذى كان يبدعه المرحوم طاهر أبو فاشا، وفشلت أن أجد ذلك التطابق الذى كنت أبحث عنه، إذ لم أكن أعرف أن أبو فاشا كان يكتفى باستيحاء الجو الألفليلى فقط غير ملتصق بما جاء فى "الليالى العربية" كما يسميها المستشرقون.
كذلك كان فى أحد الأدراج بدكان أبى رحمه الله بعض الكتب مثل "فقه السنة" وبعض أعداد من "كتاب الهلال" ومن مجلة "الدكتور". وكان الوالد أيضا يشترى بانتظام مجلتى "المصور" و"الإذاعة" وكل الصحف تقريبا بما فيها "البعكوكة". وبالمثل كنت ألاحظ اهتمامه بالمذياع، الذى كان يتاجر فى أجهزته، فكنت أستمع معه إلى القرآن الكريم وإلى الأغانى وأحاديث السهرة والتمثيليات، وتتكرر على مسامعى أسماء العقاد وطه حسين وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم وأحاديثهم وأخبارهم، فنشأت وأنا أسمع تلك الأسماء الكبيرة وأصوات القارئين والمطربين والمطربات المبدعين، وكانت تشجينى وأحب أن أقلد أصحابها. وما زلت أذكر كيف كنت، وأنا ولد صغير بالكتاب، أقلد صوت الشيخ الشعشاعى، الذى كنت أجده فى ذلك الحين منفرا قبيحا، فكنت أقلده متهكما، فيضحك أبى رحمه الله. إلا أننى، بعدما كبرت، صرت أستمتع بصوت الشيخ نَوَّر اللهُ رَمْسَه، وأجد لما فيه من رسوخ وفخامة وجلال نداوةً وحلاوةً فى قلبى، على عكس صوت ابنه الشيخ إبراهيم، الذى لم أستطع قط ابتلاعه ولا حتى قبول منظره وقد ارتسمت على ملامح وجهه علامات المعاناة الشديدة لَدُنْ قراءته للقرآن. 
لقد كنا نحب صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لحلاوته الحادة، وصوت الشيخ مصطفى إسماعيل لفخامته وشموخه، وصوت الشيخ رفعت لما فيه من حنان متدفق كأنه آت من الفردوس، وكان ولا يزال مرتبطا فى أذهاننا بأذان مغرب رمضان والاستعداد للإفطار بعد صوم يوم طويل، وصوت الشيخ الشعشاعى المختنق الجميل (غريبة! أليس كذلك؟)، وصوت الشيخ محمد صديق المنشاوى الحنون الرقراق، وصوت الشيخ طه الفشنى، وصوت الشيخ عبد العظيم زاهر العريض القوى الذى يستولى على الأذن تماما فى سخاء وثقة، وصوت الشيخ الدروى، الذى كنا نسمعه صباحا، ونحن لا نزال فى الفراش، فأربط بينه وبين اللبن الحليب، الذى كنا نأكله عادة فى الصباح يأتينا من عند جيراننا فى تلك الأيام حيث كنا نستمتع بكل ما لدى جيراننا الفلاحين من لبن حليب ولبن رائب وجبن قريش وأذرة مشوية بكل سهولة، وربما دون مقابل أو بمقابل طفيف على عكس الأمور الآن تماما. وكنا ننتظر قرآن السهرة فى الثامنة على إذاعة القاهرة كل ليلة فى دكان أبى رحمه الله. وكان دور الشيخ عبد الباسط فى أول الأسبوع مساء السبت، يليه يوم الأحد الشيخ الحصرى الهادئ الوقور الرتيب الذى لا يعرف صوته أى نتوء، والجميل مع ذلك جماله الخاص. كما أذكر أن الشيخ الشعشاعى كان يقرأ مساء الخميس، ليكون مسك الختام الأسبوعى هو صوت الشيخ مصطفى إسماعيل مساء الجمعة.
كذلك كنا نستمتع بالأغانى التى تغنيها ليلى مراد وصباح ونجاة على ورجاء عبده ومحمد قنديل وفايزة أحمد وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الغنى السيد ومحمد عبد المطلب وفايدة كامل ونور الهدى ولوردكاش وعائشة حسن وأحلام وسعاد محمد ونجاح سلام وعبد الحليم حافظ وشادية ونجاة الصغيرة وغيرهم. ومن أغانى تلك الفترة أغنية "تلات سلامات" وكذلك أغنية "إن شالله ان شالله ما اعدمك * دى قلوبنا بحور وانت السمك"، التى كنت أضحك عند سماعها لتصويرها للحبيب على هذا النحو الفكاهى، وكأنه سمك "يتلعبط" فى قلب المحب، وإن كان محمد قنديل قد نسى أن يقول لنا هل ينوى أن يأكله مشويا أو مقليا بعد أن يصطاده من قلبه بالسنارة، التى نرجو من الله ألا يَعْلَق خطافها بشغافه فتكون طامّة كبرى. ومن أغانى تلك الفترة أيضا أغنية نجاح سلام: "بَرْهُوم حاكينى"، التى كنت أتصور أنها موجهة لى لأنهم كانوا ينادوننى فى طفولتى: "بُرْهُم"، إذ الفرق بين الاسمين مجرد "واو" لا راحت ولا جاءت، فلا تحبِّكوها من فضلكم وتفسدوا علىَّ فرحتى. وكنت أقرأ نصوص هذه الأغانى مع صور من يغنونها فى مجلة "الإذاعة" التى كان أبى يشتريها هى وكل الصحف والمجلات ويحضرها معه من طنطا ويعطينيها كى أقرأها أول واحد عند حضوره من طنطا، ويناقشنى أحيانا فى بعض ما تنشره. ومن المضحك أننى لم أكن أفهم كيف يحضر والدى مجلة "الإذاعة" يوم الجمعة معه من طنطا عند عودته آخر اليوم رغم أنها تصدر يوم السبت، أى بعد ذلك بيوم. ولا أظننى حاولت أن أسأله عن هذا "اللغز"، الذى كان يؤرقنى دون أن أجد فى عقلى جوابا شافيا له. 
وكنت كثيرا ما أسمع قصيدة "مصر التى فى خاطرى وفى فمى"، التى ألفها أحمد رامى وغنتها أم كلثوم من تلحين رياض السنباطى بُعَيْد قيام ثورة يوليه 1952. وما زلت أذكر سماعى إياها ذات ضحى أمام الدكان فى الشارع الصغير الذى يقع فيه، وكان أبى جالسا على كرسى خارج المحل، ويبدو أن الدنيا كانت ربيعا أو صيفا. وكانت هذه الأغنية وما فتئتْ تستولى على عقلى وقلبى كلما سمعتها. وقد نزََّل أحدُ الطلاب الجامعيين من أقربائى نغمتها فى الأيام الأخيرة على هاتفه المحمول، فكلما طلبته هاتفيا سمعتُ أولا مقطعا من تلك القصيدة قبل أن يرد بنفسه علىَّ، فأقول مداعبا إياه: عجيبة يا جحش! كيف استطعتَ أن تلمح روعة هذه الأغنية فى جيلكم هذا المنكود المنكوب بفساد الذوق؟ فيضحك ويرد عَلَى "عَمُّو الدكتور" بأى كلام، والسلام! ومع ذلك فإننى أسارع فى كل مرة فأشكره على هذه النغمة الجميلة الجليلة التى تعيدنى فى الحال على ظهر بُرَاق إلى ذلك الضحى الذى لم أكن قد تجازت فيه السابعة من عمرى، إن لم أكن أقل من ذلك. شكرا يا حسين العزلة! وهذا هو اسم صديقنا الشاب، وهو حفيد خالى حسين رحمه الله.
ومن حبى للصوت الجميل أننى لا أستطيع مثلا أن أنسى تلك المرة التى كنت مارًّا فيها بعد العصر أمام قهوة شعبية مبنية من أعواد الغاب (بالطريقة البُغْدَادْلِى) على الناصية عند ملتقى شاعر سيجر وشارع الحكمة بطنطا أوائل ستينات القرن المنصرم أيام كانت أحوال طنطا بائسة تمام البؤس (وربما كنت آنئذ فى السنة الثالثة الإعدادية بالأزهر وقت أن كنت أسكن مع بعض الطلاب من قريتى فى آخر شارع الحكمة من جهة الجنوب قريبا من الكنيسة الجديدة التى كانت مبنية حديثا هناك وحضرتُ فيها عرس أحد النصارى، متفرجا طبعا دون أية دعوة، شأن أى طفل يرى لأول مرة فى حياته شيئا كهذا)، فشاهدت فى القهوة المذكورة شابا يلبس بدلة وكرافتة، وعليه علامات الشحوب، وشفته السفلى منتفخة بعض الشىء وفيها تشققات خفيفة أو توشك أن تتشقق، وقد تأبط، وهو جالس، عودا يضرب عليه لحن أغنية "شَغَلْنِى بضحكته"، وقد غاب عما حوله فلم يعد مشتغلا إلا بالعود واللحن، وأمامه على كرسى مثله شابة فى سنه تقريبا، وعليها نفس ما عليه من شحوب ومسكنة، وهى تغنى فى فَنَاءٍ كاملٍ أغنية شريفة فاضل، التى أسمعها الآن على كاتوبى فتساعدنى على أن أعيش مرة أخرى تلك الدقائق الرائعة التى وقفتها أمام الغرزة الفقيرة أستمع مبهورا حزينا للأغنية، قد اختلط حزنى الشخصى الناجم من شعورى بالغربة فى المدينة بعيدا عن جدتى وقريتى بحزنى لما أراه من معاناة وإرهاق على مظهر الملحن والمغنية التى يبدو أنها كانت زوجته، بحزنى على انصراف رواد الغُرْزَة البلديين عن الفنَّانَيْن إلى شايهم وقهوتهم وبوظتهم وثرثرتهم دون الالتفات إلى هذا الشجن البديع الذى خلقه الشابان، ولم يكن يستمتع به فيما يبدو سوى الصبى المسكين الذى لم يَمُتْ فيه قَطُّ اختلاجُ المشاعر على أَشُدّها كلما سمع صوتا غنائيا جميلا. ليت شِعْرِى أين ذهب ذانك الفنانان؟ ولكن هل تبالى الدنيا بأحد، فنانا كان أو غير فنان؟ كان غيرك أشطر يا "أنا"!
وكان أبى من جانبه يفاخر بى ويشجعنى ويستعرض دائما ما يظنه ذكاء وتفوقا منى أمام أصدقائه، مما أعطانى ثقة عجيبة فى نفسى وإمكاناتى جعلتنى حتى الآن أتصور أنى قادر على التصدى لأية مشكلة علمية رغم ما ألاحظه من أن ذكائى ليس بالذى هناك. وهو ما يدل على أن العبرة فى الأساس برصيد الشخص من الثقة بذاته، إذ إن هذا الشعور كفيل باستفزاز مواهبه واستخراج أفضل ما عنده وحَفْزه على إنجاز أشياء ما كان لينجزها بقدراته العادية لولا تلك الثقة بالنفس. وآية ذلك أننى قد انتهيت من حفظ القرآن قبل أخى، الذى كان يكبرنى بثلاث سنوات، وكان ذكيا جدا، وهو الذى علمنى القراءة والكتابة. رحمه الله رحمة واسعة. لقد كان موقف أبى منى عاملا عجيبا من عوامل الحفز والتشجيع والدفع بقوة إلى الأمام. كتب الله لأبى الجنة. لقد كان رجلا عجيبا يتمتع بالدماثة والنظافة فى كل شىء مع الأناقة والوسامة والانفتاح على الآخرين، ويحب الحياة والسفر ولعب الكرة، ويصلى ويخطب الجمعة دون مقابل فى المسجد المجاور لبيتنا أو فى عزبة عاشور، التى تبتعد عن قريتنا نحو ثلاثة كيلومترات، كما كان حَسَن الخط، وهى سمة ورثتها عنه، وإن لم أطورها وأتعلم الخطاطة حسبما كان ينبغى أن يحدث. وكنت أحبه حبا شديدا وأتعلق به. وكان إذا سافر، وكثيرا ما كان يفعل، وقد يغيب فى سفره يوما أو يومين، تجتاحنى الأحزان. وأظل أنتظر عودته بفارغ الصبر، حتى إذا رأيته، وأنا ألعب مع لِدَاتى فى السوق، راجعا من طنطا راكبا درجته البخارية شعرت بسعادة الدنيا كلها تجتاح أحزانى فى هجوم مضاد وتهزمها بالضربة القاضية. ولا تَسَلْ عن مشاعرى المهتاجة وأنا عائد إلى البيت لأجده هناك. ولسوء حظنا مات أبى فى بداية ثلاثيناته بعد وفاة أمى بسنواتٍ جِدِّ قليلةٍ، مما أورثنا حزنا وشعورا بالضياع منذ الطفولة. 
لقد مات بعد أن أتممت حفظ القرآن بسنة ونصف تقريبا، وكان عمره لا يتجاوز الثلاثين إلا بسنتين أو نحو ذلك. وكانت الوالدة، رحمها الله وأنار قبرها وأسكنها فراديس الجنان، قد سبقته إلى لقاء ربها بنحو ثلاث سنوات بعد معاناة شديدة مع مرض لا أستطيع أن أحدده لأننى كنت فى ذلك الوقت صغيرا جدا، لكنى كنت واعيا بالاهتمام الذى أولاه إياها أبى رحمه الله، إذ كان يذهب بها إلى الأطباء فى طنطا، وما برح يرن فى ذاكرتى اسم د. عمر شاكر بالذات. وقد سمعتهم يتحدثون عن انتشار القيح تحت جلدها فى المراحل الأخيرة فى حياتها القصيرة الهادئة، التى انتهت بحزن شديد حين علمتْ بطريقة درامية بأن أبى تزوج عليها فى قرية بعيدة من قرى مركز قلين بمديرية كفر الشيخ. وهكذا صرنا يتامى تامِّى اليتم، ولولا أن الله استبقى لنا جدتنا (أم أمنا) لَضِعْتُ، فقد كانت تنفق علىَّ وأنا فى طنطا أتعلم. 
وحين ماتت زوجة أبى بعد ذلك بعشرات السنين شعرت بالحزن الشديد ودعوت الله لها بالرحمة والغفران، ولم أقف عند كونها زوجة أبى وأننا لم نجد عندها ما كنا نجده عند أمى من العطف والحنان، أو أنها كانت السبب فى الحزن العنيف الذى ضرب أمى فى صميم قلبها، وإن كانت السبب الظاهرى فقط لأنها ليست مسؤولة فى الحقيقة عما جرى، إذ لم تسع إلى أن تؤلم أمى، بل وجدت رجلا يخطبها فقبلت الزواج به. كما أننى لا أجد فى قلبى أى ضيق بتصرف أبى. إنها الحياة، التى لا تسير على مزاج أى منا، والتى لا يمكن أن تخلو من المنغصات. إنها كالجلد والعظم والدهن بالنسبة للحم. هل هناك لحم يخلو من العظم والجلد والدهون؟ هاتوا لى لحما خاليا من ذلك، وأنا أورد لكم حياة خالية من الأحزان. لقد بنيت الحياة على مفارقة عجيبة، وهى أن ما يفرح إنسانا واحدا يؤذى فى الغالب مئات حوله ممن يعرف ومن لا يعرف. وتزوُّج أبى بسيدة أخرى على أمى وإدخاله الحزن القاتل على قلبها هو من هذا الوادى. ثم مَنْ خلق الحياة على هذا النحو؟ أليس هو الله، الذى لا يُسْأَل عما يفعل. هذه هى الحياة، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر أو فليبحث له عن رب آخر ويعش على أرض أخرى وتحت سماء غير السماء. فهل من مستطيع؟ 
ولم يخلِّف لنا أبى شيئا كثيرا، إذ كان لا يزال صغيرا حين فارقنا، فقد مات فى بداية ثلاثيناته كما قلت. ورغم أنه كان تاجرا نشيطا وبارعا ومحبوبا، ويتاجر فى أشياء كثيرة من بينها أجهزة المذياع والساعات فى وقت لم يكن أحد فى الريف يتاجر فى تلك الأشياء فى خمسينات القرن الفائت، فقد كان ينفق لا يبالى، ويحب السفر ويقوم فى الغالب بمصاريف أصحابه الذين كان يأخذهم معه لا على موتوسيكل واحد من الموتوسيكلين اللذين كان يمتلكهما، بل عليهما جميعا. ومن ثم فبعد أن كنا من المساتير بل من الميسورين نسبيا فى حياته رحمه الله صرنا بعد وفاته من المكشوفين. وكانت أغنية محمد عبد الوهاب: "والله ما انا سالى" حديثة عهد بالظهور، فكنت أستمع إليها وأغنيها وكأنها تبكى والدى، وأجد فيها تخفيفا عن اللوعة التى كنت أحس بها لوفاته رحمه الله.
وليس معنى ما كتبتُه عن أبى أنه كان بلا عيوب، فما من بشر إلا وفيه عيوب قَلَّتْ أو كَثُرَتْ. والرجل النبيل الحق من عُدَّتْ معايبه لا من خلا تماما من العيوب، فهذا أمر من الاستحالة بمكان مكين. كل ما هنالك أننى أنظر إلى الشخص لأَرُوزَه: فإن كانت حسناته تَرْجَح عيوبه تكلمتُ فى حقه بكلام طيب، أما إن كانت الأخرى فهذا الذى يمكن أن يعاب. وأبى، رحمه الله، كان من الصنف الأول بكل يقين. وحتى لو كان مَعِيبًا أيصح أن أفضحه وأنال منه على رؤوس الأشهاد؟ فأين البِرّ وواجب البنوّة نحو الآباء والأمهات؟ إننى ما زلت أستغرب ما كتبه د. إدوارد سعيد عن والده فى ترجمته الذاتية: "Out of Place"، التى تُرْجِم عنوانها بـ"خارج المكان"، ولا أدرى ما المقصود بهذا. ذلك أن الترجمة كان ينبغى أن تكون مثلا: "فى غير موضعه" أو "فى غير مكانه المناسب"، أو "فى وضع غير ملائم"... لقد نال د. إدوارد من أبيه نَيْلاً شديدًا، وحاكمه محاكمة غير إنسانية. ولقد نظرتُ فيما ساقه من مسوغات كى يقنعنا بأن أباه يستأهل ما كتبه ضده، ولكنى لم أقتنع. ألا يكفى أن أباه قد رباه أحسن تربية، وأنفق عليه وواصل تعليمه فى كل مكان حتى حصل على أعلى الشهادات، ولم يقصر يوما معه فى حاجة احتاجها؟ هل كان د. إدوارد ينتظر من أبيه أن يكون ملاكا؟ فهل هو نفسه ملاك أو يمكن، تحت أى ظرف من الظروف، أن يكون ملاكا؟ 
وبالمثل فإنى أستغرب مما كتبته أخت زوجة تونى بلير (الصحفية والمذيعة البريطانية التى أسلمتْ بآخرة) عن أمها فى بعض الصحف البريطانية، إذ صورتها فى صورة الأم القاسية التى لم تكن تعرف معنى الأمومة ولا تشعر بشعور الأمهات. ومن بين ما قالته عنها أنها كانت تنفر من رغبتها فى تقبيلها واحتضانها وتبعدها عنها فى ضيق كلما همت بتقبيلها أو الارتماء فى أحضانها. كما كانت ترفض أن تضىء الونَّاسة الكهربية لتتغلب بها على ما يحس به الأطفال من رعب حين ينامون فى غرفةٍ وحدهم، رغم أن جدة البنت الصغيرة هى التى اشترت لها الوناسة وأعطتها البنسات التى يحتاجها العداد الكهربائى المنزلى، مصرة على أن تطفئ الوناسة بيدها، واجدة لذة فى ذلك الإطفاء حسب كلام الابنة فى مقالها. وكانت تقدِّمها لضيفاتها قائلة: كل أطفال الجمعة يتميزون بالحب والرغبة فى العطاء ماعدا لورين، فهى خبيثة وشكاءة بكاءة. ومما ذكرته لورين بوث أيضا أن أمها كانت تؤثر عليها أختها الصغيرة إيثارا كبيرا واضحا. ترى ألو كانت أمى قد عاملتنى هذه المعاملة أكنت أكتم ذلك حين أكتب عنها؟ لكن ألم تعامل تلك الأم البريطانية ابنتها معاملة طيبة على الإطلاق؟ أنا متأكد أن أمى لا بد أن تكون قد ضربتنى ونهرتنى ولم تستجب لى فى كثير من مطالبى ورغباتى كما تفعل الأمهات كلهن تقريبا فى بعض الأحيان، فضلا عن أنها مثلا قد حملتنى ذات يوم إلى المدرسة على غير هواى ودخلت بى الفصل وأنزلتنى من فوق كتفها على الأرض وتركتنى هناك تحت أبصار التلاميذ الشامتين غير عابئة بخجلى وبكائى وتوسلاتى أن تعود بى معها إلى البيت مثلما جاءت بى. بيد أنها، من الجهة الأخرى، كان لها بكل تأكيد مآثر كثيرة كفيلة بأن تجعلنى أغفر لها قسوتها، إن جاز أن نسمى مثل تلك الأمور: قسوة وتعنتا. ويبدو أن تربيتنا، على الأقل: فى ذلك الزمن، لا تسمح لنا بأن نعيب آباءنا وأمهاتنا مهما كان منهم تجاهنا من شدة فى التربية والتوجيه. المهم أنا راضٍ عن أمى رحمها الله، وأدعو لها دائما بالجنة فى حنان وحب ورحمة وتعاطف، فضلا عن الأمل العظيم فى أن الله سوف يستجيب لى فيها هى وجدتى وأبى وكل من عاملنى برقة ولطف فى أوقات الحرج والضيق ولو بكلمة طيبة مشجعة. 
وكنت أتكلم منذ يومين مع بعض الأصدقاء عن د. طه حسين وما كتبه فى "الأيام" عن أبيه وأساتذته فى الكتاب والأزهر كلهم تقريبا من كلام يمسهم ويشوه صورتهم. وقد أنكر من كانوا معى آنذاك على د. طه ما فعله، وأبدوا ضيقهم بهجومه على مشايخه. وبطبيعة الحال لا يوجد إنسان كامل معصوم، ولكن ليس معنى هذا أن ننطلق فنشوه آباءنا وأساتذتنا تمام التشويه ونجعل منهم مسوخا نضحك الناس عليها، إذ يكفى أنهم علمونا وأخذوا بأيدينا وصنعوا منا ما نحن عليه الآن. صحيح أن هناك من ظلمونا أو نحسب أنهم ظلمونا. إلا أنه من غير المعقول أن يكون الجميع قد ظلمونا وأجحفوا بحقوقنا. وقد أعدت مؤخرا قراءة السيرة الذاتية الممتعة التى كتبها أستاذى د. شوقى ضيف بعنوان "معى"، فألفيته يتحدث عن أبيه وأمه حديثا كله احترام وبر وإجلال حتى إنه ليقول بفخر عظيم إنه كان دائما ما يقبّل، فى حبٍّ ورضًا، يديهما كل صباح. كما وجدته يكتب مستغربا أن ينقلب ابنٌ على أبيه، الذى رباه ونَشَّأَه وقام بكل حاجاته حتى كبر واستوى على ساقه وصار رجلا، فيكرهه ويهينه ويعاديه، وإن أقر بأن ذلك، رغم غرابته وشذوذه البالغ، قد حدث مرارا فى التاريخ، وبخاصة فى بيوت الحكام حيث يثور الابن على أبيه فيخلعه من أريكة الحكم، وقد يقتله فى سبيل بلوغ هذه الغاية. 
أما أنا فرَاضٍ عن أبى تمام الرضا رغم أنه لا يخلو من عيوب، ويكفينى أن حسناته غطت على عيوبه بقوة، وإلا فلن يرضى ابن عن أبيه أبدا ما دامت السماوات والأرض. بل إن هناك من أساء إلىَّ ممن لا تربطنى بهم صلة قرابة، إلا أننى لدى الحكم عليهم أتذكر ما جنيتُه عن طريقهم من منافع مهمة لى قيضهم الله لإيصالها إلىَّ، فأغلِّب هذه على تلك، وأشكر الله، الذى أتاحهم لى كى يؤازرونى حتى لو كانوا قد انقلبوا علىّ تاليا. اللهم ارحم أبى وأمى وجدتى وكل من أحسن إلىَّ قريبا كان أو غير قريب، واجعل أولادى يحبوننى رغم ما أعرفه من عيوبى وما آلمتهم به سواء أكان هذا الإيلام قد صدر منى على سبيل الخطإ أم نزولا على متطلبات التربية السليمة، التى لا تستطيع أن تستغنى عن العقاب والإيلام مهما كان المربى حنونا صبورا طيبا. إن الإيلام جزء من الحياة لا ينفصل عنها أبدا مهما فعلنا، فلِمَ ننتظر من التربية الأبوية أن تكون خالية منها تمام الخُلُوّ؟ إن هذا ضد طبيعة الحياة!
ثم إلى أين نهرب من أمر الله لنا ببر الوالدين حتى لو أرادانا على الكفر به سبحانه وتعالى مع عدم الانصياع لهما فى ذات الوقت فيما يدعواننا إليه من الشرك به عز وجل؟ فما بالنا لو كانوا هم الذين علمونا الإيمان به وحَبَّبُونا فيه وعوَّدونا الصلاة والصوم وشرَّبونا الأخلاق الحسنة؟ لقد كان لوالدى، رحمه الله، فضل عظيم علىَّ، إذ كان يأخذنى معه إلى المسجد المجاور لبيتنا حين يذهب للصلاة أو إلى مسجد عزبة عاشور حين يركب دراجته البخارية إلى هناك قبيل صلاة الجمعة كى يخطب ويؤم الناس فأصلى مع المصلين خلفه، ثم يستضيفنا كبار رجال العزبة ويتحفوننا بالبَتَّاوِى اللذيذ واللبن الرائب وما أشبه من طعام الفلاحين الجميل، ثم يتركنى ألعب مع أولاد العزبة هنا وهناك، وبالذات فى المسجد، الذى كان جديدا وبهيا، إلى أن يَؤُون أَوَانُ رجوعنا عند العصر. 
وكنت أرى أبى وهو يتوضأ فأجد كل شىء فيه جميلا نظيفا. وكان هو من جانبه لطيف المعشر محبوبا من الناس محترما. وكان بشوشا ضحوكا. ومن ذلك أننى رأيته أكثر من مرة يلعب فى الدكان مع أحد طلاب الأزهر ممن كانوا قريبين من سنه لعبة "ملك ووزير" مستخدمَيْن قطعتين صغيرتين مدورتين من قشر البرتقال يلقى كل منهما قطعته على البنك، ومن يخسر يضربه الآخر بمسطرة من الخشب الأبلكاش صنعاها كيفما اتفق لذلك الغرض. وكان صوت الضرب يفرقع فى الدكان، فأسمعه وأشاهد انهماكَهما وجِدَّهما فى الضرب كأنهما يؤديان مهمة جليلة وأنا متعجب. ولا شك أن الضرب لم يكن مؤلما

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 323 مشاهدة
نشرت فى 26 مايو 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

32,864