من اختيارات إبراهيم عوض
"اللغة العربية بلا معلم"
بقلم إبراهيم المازنى
(من كتابه: "صندوق الدنيا")
"وقفتُ مرة بباب مكتبة أتأمل معروضاتها من وراء الزجاج، فأخذتْ عيني كتيبا صغيرا يعلم الأجانب "اللغة العربية بلا معلم"، فراعتني هذه الجرأة، وتمثل لخاطري ما يكابده الأساتذة من العناء في تدريس هذه اللغة، بل ما نعانيه نحن الذين نزعم أنفسنا أدباء وشعراء من البرح والجهد. ولا أُطِيل: اشتريت الكتاب بثمن باهظ، ثم انتحيت ركنا في قهوة ورحت أقلبه، فإذا هو لا أكثر من ألفاظ ومحادثات باللغة الانجليزية وما يقابلها باللغة العربية، فتحسرت على ما بذلتُ فيه، وساءلتُ نفسي: ماذا أصنع به؟ كيف أعوّض خسارتي؟
واللهُ أكرمُ من أن يضيع على فقير مثلي ماله إذا صح أن تسمَّي القروش: مالا. فألهمني أن أنتزع منه متعة لا أظن أن مصريا غيري حلم بها أو طمع فيها. ذلك أني فرضت جدلا أني "مالطي"، واتخذت هذا الكتاب مرشدا لي، وقلت: أتقيَّد بجمله وعباراته في المحادثات التي أُضْطَرّ إليها في تجوالي في المدينة.
ولما كنت "سائحا"، وشوارع المدينة متداخلةٌ تُضِلّ الغريب، فقد وجب، طبقا لمشورة الكتاب، أن أركب "عربة" وأن أحتمل هذا الترف الضروري. ففتحت الصفحة الثانية عشرة حيث الحديث مع سائق العربة، ودنوت من "الموقف"، وأشرت بِعَصًا اشتريتها خصيصا لهذه المناسبة السعيدة، وصحت بلسانٍ مُلْتَوٍ: "أَرْبَجِي!"، فألهب السائق جواديه وعَدَا إليّ بهما. فلما صار عندي عدت إلى الكتاب أستوحيه الجملة الثانية التي ينبغي أن تتلو النداء، ثم رفعت إليه رأسي وقلت: "رُوهْ هات أَرَبَهْ". فكأني لطمت الرجل على وجهه. فانطلق يمطرني وابلا من الكلام لم أفهمه كما هو المفروض، إذ كنت غريبا عن هذه الديار. ولكني تبينت من لهجة الرجل وإشاراته أن المعاني جميلة جدا، وأن جملتي راقتْه كما لم يَرُقْه شيء في حياته!
وعدت إلى الكتاب أستمليه الجملة الثالثة لعلها تحل الإشكال، فقلت: "يا أربجي، إنت فاضي؟"، فرماني بنظرةِ مَغِيظٍ مُحْنَقٍ لم أَدْرِ ما مسوِّغها، ثم رفع طَرْفه وكفَّه إلى السماء، ثم صاح بالناس، فالتف حولي منهم اثنان كلمني أحدهما بالفرنسية، فهززت له رأسي، فخاطبني باليونانية، فظللت أَهُزّ له رأسي، فجرَّب الثاني الايطالية، فأشرت له بأصبعي أنْ: لا. وخفت أن يطول الأمر، فرددت عليه بالانجليزية، فاستغرب وجعل يرفعني ويخفضني بعينه. وأُوجِزُ فأقول إني، حَسْمًا للنزاع، ركبتُ وقلتُ للسائق بعد أن تجاوزتُ عن جملتين من الكتاب: طيب. اذهب بي إلى الـمِهَطَّة.
فانطلقت العربة. وبديهيٌّ أني كنت أُوثِر مكانا آخر، ولكني كنت مقيدا بالكتاب. فلما انتهينا لم أنزل وصحت به نقلا عن مُرْشِدي: "كم تريد أجرة لك؟". وكان ينبغي أن يقول طبقا للكتاب: "واحد شلن". ولكنه طلب نصف ريال، فدهشت وبحثت في غلاف الكتاب عن تاريخ طبعه، فألفيته 1926، فقلت لنفسي: لعل الأجور ارتفعت في هذا البلد بعد صدور الكتاب. وكان عليَّ أن أناقشه كما يحتّم الكتاب، فقلت: "لا. هذا كثير".
وكان ينبغي، على ما رَسَم الكتاب، أن يكون رده على ملاحظتي: "كما في التعريفة". غير أنه، بدلا من أن يفعل ذلك، مضى يشتمني ويسبني ويلعن لي آبائي وجدودي، وهو آمن مطمئن إلى جهلي بلغته البذيئة على الأقل. فلم أر مناصا من أن أَعُدّ لعناته مرادِفةً للرد الواجب، ونقلت له من الكتاب: "ستة كروش أبيض بس". فحَصَبَني بمِلْء صحراءَ من اللعنات والشتائم، ثم قال: "هات بقى". ففهمت "هات" لأنها من الكتاب، وتجاوزت عن "بقى" على اعتبار أنها على الأرجح كلمة شكر أو دعاء، وناولته القروش الستة البيضاء. وإذا به يَثِبُ إلى الأرض ويجذبني من جيب سترتي ويصبّ عليَّ من السِّبَاب ما يكفي شعبا بأسره جيلا كاملا. فما أشد إسرافه، قاتله الله! وتنازعني الضحك والغضب والخوف، ولكني ضبطت عواطفي وصوبت عيني إلى الكتاب، ثم رفعت له وجهي وقلت: "وَدِّيني الكَشْلَة". فقال: "القشلة؟ يا خبر أسود يا ناس. تعالوا انظروا هذا. يريد أن يدعي أني كسرته"... وهكذا وهكذا مما يستطيع القارئ أن يتصوره، ولا حاجة بنا إلى وصفه.
ولم أَدَّعِ أنا شيئا من هذا ولا خطر لي أن أفعل، ولكنه الكتاب استوجب مني أن أذهب إلى القشلة بعد أن حملني إلى المحطة، ولا موجب لهذا ولا ذاك، ولكن هكذا شاء، فكان ما أراد. فرأيت الأحزم أن أنتقل إلى الجملة التي تلي "القشلة"، فقلت: "طيب اعمل فُسْهَه في البلد". فلم يَدْرِ أيشتم أم يضحك. وبعد أن تأملني قليلا قال: "يا ابن...، مِنَ القشلة للفسحة؟". وبينما كان هو يصعد إلى مقعده كنت أنا أترجَّل. فالتفت إلي مذهولا، فأنقدتُه القروش العشرة وقلت له: "لا مؤاخذة! لقد كنت أمزح". فحار كيف يعتذر عن شتائمه ولعناته...
سأجرب فضل الكتاب في نزوة أخرى استخلاصا لحقي!".
نشرت فى 27 مارس 2015
بواسطة dribrahimawad
عدد زيارات الموقع
33,987