زهير بن أبى سُلْمَى والنبى عليه السلام
د. إبراهيم عوض
كنت
كنت أتصفح كتاب الراهب الجزائرى المتفرنس ذى الأصل المسلم جان محمد عبد الجليل: "Breve Histoire de la Litterature Arabe"، الذى صدر فى منتصف أربعينات القرن المنصرم بباريس، فألفيته، لدى كلامه عن زهير بن أبى سلمى ولبيد بن ربيعة تحت عنوان "شعراء فلاسفة"، يقول إن زهيرا كان على قيد الحياة فى أولية الإسلام، بل إن الروايات لتذكر أن محمدا كان يخشاه لأن الجنى الذى يوحى إليه كان جنيا قديرا. ثم مضى فذكر كيف كان زهير شاعرا جادا رصينا لا يحب المغالاة فى المديح ولا البذاءة فى الهجاء ولا الإفحاش فى الغزل، فضلا عن أنه كان يستعين دائما بالحكم والأمثال التى تحمل أفكارا أخلاقية، واتسم أسلوبه الشعرى بالرصانة والتناسق...
وأود أن أتريث بعض التريث إزاء قوله إن الروايات تذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخشاه لأن الجنى الذى يوحى إليه كان جنيا قديرا. فما مدى صحة هذا الكلام؟ ترى هل كان زهير سليط اللسان لا ينجو أحد من لدغاته بحيث يخشاه الناس هكذا من الباب للطاق دون أن تكون بينهم وبينه أية عداوة؟ ذلك أنه لم تكن هناك خصومة بين النبى وبين زهير فيما نعرف. فلم يا ترى خاف لسانه وأشفق أن يوحى إليه شيطانه بهجائه والسخرية منه وتشويه صورته؟ وأين زهير، وكان يعيش فى نجد بأواسط الجزيرة، من الرسول الكريم، الذى كان يعيش آنئذ فى مكة؟ ومتى كان النبى يخشى الشعراء إلى هذا الحد؟ لقد هاجمه عدد منهم سواء من المشركين الوثنيين أو من اليهود الحاقدين، فما سمعنا أنه صلى الله عليه وسلم قد ارتاع على النحو الذى يصوره كلام الراهب المتفرنس المتنصر، ذلك الكلام الذى نقله عن بعض كتب التراث، ومنها كتاب "الأغانى". وأقصى ما فعله عليه السلام أن سمح لشعراء يثرب: حسان وكعب وابن رواحة بالنَّضْح عنه حينما أَتَوْه يلتمسون منه الرد على من يهجونه ويؤلبون القبائل على دينه.
ثم إن زهيرا، على العكس من ذلك، كان شاعرا حكيما يدعو إلى السلم ويؤثر الصلح والتفاهم ويحبذ دائما وضع حد للحروب والمعارك التى تنشب بين القبائل ويمدح مدحا شديدا كل من ساهم فى إخمادها كما فعل فى معلقته حين أثنى أعطر الثناء على الحارث بن عوف وهرم بن سنان لتحملهما ديات القتلى الذين سقطوا فى المعارك بين عبس وذبيان وقضيا بذلك على تلك الحروب الحمقاء التى كادت تفنى القبيلتين. ولقد ذكر عبد الجليل نفسه أن زهيرا كان شاعرا جادا رصينا لا يحب المغالاة فى المديح ولا البذاءة فى الهجاء ولا الإفحاش فى الغزل، فضلا عن أنه كان يستعين دائما بالحكم والأمثال التى تحمل أفكارا أخلاقية، واتسم أسلوبه الشعرى بالرصانة والتناسق. فكيف يتسق هذا وذاك؟ على أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن زهيرا، حسبما ترينا معلقته الجميلة، كان يؤمن بيوم الحساب وأن الله لا ينسى شيئا ولا يضيع عنده شىء، بل يسجل كتابُه كل عمل يعمله الإنسان ويحفظه إلى يوم البعث، وعندئذ يحاسب كل إنسان حسبما هو مكتوب فى سجله. فكيف يمكن أن يبغض مثل ذلك الشاعر المؤمن الحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لم يأت بشىء يخالف ما كان زهير يعتقده ويذكّر الناس به؟ لا أقصد أنه لا بد أن يؤمن به ضربة لازب، ولكن على الأقل لا يمكن أن يفكر فى العدوان على رجل كالنبى محمد صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئا يناقض ما عنده.
وقد رجعت إلى كتاب "الأغانى" لأبى الفرج الأصفهانى فوجدته يقول خلال ترجمته لزهير: "وجدت في بعض الكتب عن عبد الله بن شبيب عن الزبير بن بكار عن حميد بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن أخيه إبراهيم بن محمد يرفعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى زهير بن أبي سلمى، وله مائة سنة، فقال: اللهم أعذني من شيطانه. فما لاك بيتا حتى مات". لكن أبا الفرج، سامحه الله، لم يقف ليتساءل: كيف عرف رواة تلك الحكاية أن زهيرا لم يقل بيت شعر منذ دعا النبى عليه إلى أن مات؟ بل كيف عرفوا أن النبى دعا عليه فعلا؟ ثم ألم يكن لزهير أو لقبيلته وأسرته أى رد فعل على ما حصل؟ فكيف يا ترى كان ذلك؟ لقد دخل ابناه الشاعران المشهوران الإسلام: دخل بجير أولا ثم لحق به كعب فيما بعد فى قصة معروفة. فكيف سكتا عما حدث فلم ينبسا ببنت شفة سلبا أو إيجابا عن تلك الحكاية العجيبة؟ بل لقد أُثِرَ عن بجير هجومٌ على دين زهير وجده سنان مقابل مدحه للدين الجديد الذى دعا إليه النبى وآمن هو به:
فدينُ زهيرٍ، وهو لا شيء غيره ودين أبي سلمى عليَّ محرَّمُ
وفى ذات الوقت دافع كعب، قبل أن يستجيب لدعوة أخيه ويدخل فى الإسلام، عن دين زهير وسفَّه اتباع أخيه للنبى عليه السلام وترك ما كان عليه أبوه وأمه وإخوته:
على خلقٍ لم تلف أُمًّا ولا أبًا عليه، ولم تدرك عليه أخًا لكا
فكيف لم تثره أو تحرك ذكرياته حكايةُ استعاذة الرسول من شيطان زهير حينذاك؟
وفى "الأغانى" أيضا قبل ذلك مباشرة نقرأ ما يلى: "أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا هارون بن عمر قال: حدثنا أيوب بن سويد قال: حدثنا يحيى بن يزيد عن عمر بن عبد الله الليثي عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب ليلة مسيره إلى الجابية: أين ابن عباس؟ فأتيته... قال: هل تروي لشاعر الشعراء؟ قلت: ومن هو؟ قال: الذي يقول:
ولو أن حمدًا يُخْلِد الناس أُخْلِدوا ولكن حمد الناس ليس بمُخْلِدِ
قلت: ذاك زهير. قال: فذاك شاعر الشعراء. قلت: وبم كان شاعر الشعراء؟ قال: لأنه لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدا إلا بما فيه...
أخبرني الحسن بن علي قال: أخبرنا الحارث بن محمد عن المدائني عن عيسى بن يزيد قال: سأل معاوية الأحنف بن قيسٍ عن أشعر الشعراء، فقال: زهير. قال: وكيف؟ قال: ألقى عن المادحين فضول الكلام. قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله:
فما يَكْ من خيرٍ أَتَوْه فإنما توارثه آباء آبائهم قَبْلُ
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا عبد الله بن عمرو القيسي قال: حدثنا خارجة بن عبد الله بن سليمان عن زيد بن ثابت عن عبد الله بن أبي سفيان عن أبيه عن ابن عباس قال، وحدثنيه غيره وهو أتم من حديثه، قال: قال ابن عباس: خرجت مع عمر في أول غزاةٍ غزاها. فقال لي ذات ليلة: يا ابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء. قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: ابن أبي سلمى. قلت: وبم صار كذلك؟ قال: لأنه لا يتبع حُوشِيَّ الكلام، ولا يعاظل من المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمتدح الرجل إلا بما يكون فيه. أليس الذي يقول:
إذا ابتدرتْ قيسُ بن عيلانَ غايةً من المجد مَنْ يسبقْ إليها يُسَوَّدِ
سبقتَ إليها كل طلقٍ مبرِّزٍ سبوقٍ إلى الغايات غير مُزَنَّدِ
كفعل جوادٍ يسبق الخيلَ عفوَه الســــــــــــــــــــــــــراعَ، وإن يجهدْ ويجهدْنَ يَبْعُدِ
ولو كان حمدٌ يُخْلِد الناسَ لم تمت ولكنّ حمدَ الناس ليس بمُخْلِدِ
أَنْشِدْني له. فأنشدته حتى برق الفجر. قال: حسبك الآن. اقرأ القرآن. قلت: وما أقرأ؟ قال: اقرأ "الواقعة". فقرأتها، ونزل فأذن وصلى".
والآن هل يمكن أن يقول عمر ومعاوية فى زهير هذا الكلام الجميل البديع لو أن الرسول استعاذ بالله من شره؟ وهذا إن كان مثله شريرا يستعاذ بالله منه أصلا. فما بالنا إذا كان الرجل وقورا دمثا يحب السلام ويبغض الشر والخصام؟ ثم متى اشتهر زهير بالهجاء. لقد اشتهر بالمديح والحكمة، وهو فى مديحه داعية سلام، لكنه لم يُعْرَف عنه سلاطة اللسان قط. بل هل يمكن أن يكون النبى قد استعاذ بالله منه ثم نقرأ أنه قال فيه وفى شعره: "إنَا قد سمعْنا كلامَ الخطباء والبلغاء، وكلامَ ابن أبي سلمى، فما سمعْنا مثلَ كلامه من أحد" حسبما نقرأ فى "زهر الآداب وثمر الألباب" للحصرى؟ لقد كان ينبغى أن يكون هذا التناقض دافعا لمن يزعم استعاذة الرسول من شيطانه إلى التوقف والتفكر فى الأمر بمنطق وعقل.
وأخيرا، وهذه وحدها كافية فى حسم الأمر حسما نهائيا، ينبغى أن نعلم أن زهيرا مات قبل بعثة النبى عليه الصلاة والسلام بعام كما جاء فى "الأزمنة والأمكنة" مثلا للمرزوقى. ولم يقل أحد إنه عاش حتى بعث النبى. ولو كان الأمر بخلاف ذلك لوجدنا عن ذلك أخبارا فى كتب السيرة والأحاديث النبوية، وهو ما لا وجود له. وكنت قادرا على أن أسوق هذه النقطة فى أول الكلام وأحسم بها الأمر منذ البداية، لكنى آثرت تأجيلها حتى هذه اللحظة كى أبين للقارئ كيف أن الخبر لا يمكن أن يكون صحيحا على أى نحو نظرت إليه وعلى أى جنب قلبته. ومعروف أن صاحب "الأغانى" كحاطب الليل يتفق له الغرر والعرر معا. وقد أخذت عليه فى أكثر من كتاب لى بعض أخطاء من هذا اللون، وصححتها له.
بل لقد كتب المرزوقى فى كتابه عن "الأزمنة والأمكنة" أن زهيرا قال لبنيه يوما: "رأيت رؤيا. ولَيَحْدُثَنَّ أمر عظيم، ولست أدركه. رأيت كأني أُصْعِدْتُ إلى السماء حتى إذا كدت أنا لها انقطع السبب، فهَوَيْتُ. فمن أدركه منكم فليدخل فيه. فأتى ابنُه بحيرٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان زهير يكنى ببجير، فأسلم، وأبي كعب أن يسلم حتى هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقَدِم وأسلم، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدته اللامية واعتذر مما كان فيها". ولست أورد هذا الخبر مصدقا له بالضرورة، بل إنه ليغلب على ظنى أنه مصنوع. لكنى أردت إلى القول إن خبر استعاذة النبى منه خبر غير صحيح أو معقول أو مقبول.