كيف نقرأ القرآن في رمضان؟
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ،
فلقد اعتاد الكثير منا عندما يدخل عليه شهر رمضان ، أن ينكب على المصحف ويجتهد في قراءة القرآن وختمه عدة مرات، بل ويتبارى على ذلك الأقران ، ومما لاشك فيه أن هذه الظاهرة تحمل في طياتها بعض الجوانب الإيجابية ، مثل اهتمام المسلمين بكتابهم ، وحبهم له ، وتعلقهم به ، ولكن ، ومما يدعو للأسف ، أن محور الاهتمام غالباً ما يدور حول حروف القرآن وألفاظه ، دون أن يصاحب ذلك اهتمام مماثل بما تحمله هذه الألفاظ من معانٍ هادية تدفع من يعيش في أجوائها إلى الاستقامة على أمر الله وعلى صراطه المستقيم كما قال تعالى "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم "[الإسراء:9 ]
وخير دليل على أن ما نفعله مع القرآن ينقصه الكثير والكثير هو واقعنا الذي نحياه ، فالواحد منا يقرأ الآيات والسور ، وينتهي من الختمة تلو الختمة ، دون أن تجد أثراً لهذه القراءة في أفعاله وسلوكه ، بل إنك إن سألته عما استوقفه من آيات لم تجد منه جواباً ، ، فالهمُّ منصرف لتحصيل أكبر قدر من القراءة طمعاً في الأجر والثواب الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله :" من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف "1
المعنى هو المقصود :
وما هذا فقط أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان أمر القرآن يتعلق بالثواب المترتب على قراءته فقط لكان من الأولى أن نتجه إلى أعمال أخرى تعود علينا بثواب أكبر ، مثل ما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كُتب له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورُفع له ألف ألف درجة ، وبُني له بيت في الجنة "2
ولسنا نعني بذلك التقليل من شأن الثواب المترتب على قراءة القرآن ، بل نعني إعادة النظر في طريقة تعاملنا معه ، فقيمة القرآن وبركته الحقيقية تكمن في معانيه ، ولأن اللفظ وسيلة لإدراك المعنى كان التوجيه النبوي بالإكثار من تلاوته ، وتحفيز الناس على ذلك من خلال الثواب الكبير المترتب على قراءته ، ومثال ذلك : الأب الذي يرصد مكافأة لابنه إن استمر في المذاكرة عدة ساعات هو بالتأكيد لا يقصد من وراء ذلك مجرد جلوسه على المكتب والنظر في الكتب دون فهم ما تحتويه ، بل هدفه تشجيع ابنه على المذاكرة بذهن حاضر ليتحقق له النجاح..
فإذا ما نظرنا إلى الهدف الأسمى من نزول القرآن ، وربطنا بينه وبين ما رتب الشارع الحكيم على قراءته من ثواب عظيم ، لوجدنا أن من أهداف هذا الثواب تشجيع المسلمين على دوام الاقتراب منه حتى يهتدوا بهداه ، ويستشفوا بشفائه ..أمّا أن نقترب منه وليس لنا هدف إلا ثواب القراءة فقط دون الالتفات إلى المعنى المقصود من الخطاب فإننا – لاشك –سنخسر كثيراً بالإقتصار على ذلك التعامل الشكلي ولن يحقق فينا القرآن -حينئذٍ - مقصوده
لا بديل عن التدبر :
إن نصوص القرآن واضحة في أهمية تدبره عند قراءته أو الاستماع إليه ليكون التدبر وسيلة للفهم والتأثر ثم العمل.
يقول تعالى " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب"[ص:29]
وقوله تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها "[محمد:24]
...ولأن فهم مقصود الخطاب لابد أن يلازم قراءة القرآن كان توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص بألا يختم القرآن في أقل من ثلاث معللاً ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم :"لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث"1
إننا نعمل جاهدين على فهم المقصود من أي كلام نقرؤه أو نسمعه ..فلماذا لا نطبق هذه القاعدة على القرآن ؟
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :
ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه ، فالقرآن أولى بذلك 2
ويؤكد على هذا المعنى الأستاذ حسن الهضيبي فيقول :
ليست العبرة في التلاوة بمقدار ما يقرأ المرء ، وإنما العبرة بمقدار ما يستفيد ، فالقرآن لم ينزل بركة على النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظه مجردة عن المعاني ، بل إن بركة القرآن في العمل به ، واتخاذه منهجاً في الحياة يضيء سبيل السالكين ، فيجب علينا حين نقرأ القرآن أن يكون قصدنا من التلاوة أن نحقق المعنى المراد منها ، وذلك بتدبر آياته وفهمها والعمل بها1
التدبر وسيلة وليس غاية :
... نعم لابد أن يصاحب قراءة القرآن الفهم والتدبر.
قال القرطبي عند تفسير قوله تعالى " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" [النساء:82]
يقول: ودلت هذه الآية على وجوب التدبر في القرآن ليُعرف معناه2
فتدبر القرآن وإن كان واجباً على قارئه أو مستمعه إلا أنه ليس غاية في حد ذاته ، بل هو وسيلة لتفعيل معجزته الكبرى وتحقيقها في نفس متلقيه.
المعجزة الكبرى :
نعلم جميعاً أن القرآن الذي بين أيدينا هو أكبر وأعظم معجزة جاءت من عند الله عز وجل للبشر ..أكبر من معجزة عيسى – عليه السلام- في إحيائه للموتى بإذن الله ، ومن عصا موسى ، وناقة صالح عليهما السلام ، وغيرها من المعجزات.
فما هو سر هذه المعجزة والذي جعلها تتفوق على كل ما سبقها من معجزات ؟
قد يجيب البعض بأن معجزة القرآن تكمن في أسلوبه ، وبلاغته ، وتحدي البشر به ، وأنه صالح لكل زمان ومكان و........نعم هذا كله من أوجه إعجاز القرآن ، ولكن يبقى سر إعجازه الأعظم في قدرته على التغيير ...تغيير أي إنسان ، ومن أي حال يكون فيه ليتحول من خلاله إلى إنسان آخر عالماً بالله عابداً له في كل أموره وأحواله ، حتى يتمثل فيه قوله تعالى "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"[الأنعام:162]
كيفية التغيير:
والتغيير الذي يحدثه القرآن يبدأ بدخول نوره إلى القلب ، فكلما دخل النور إلى جزء من أجزائه بدَّدَ ما يقابله من ظلمة أحدثتها المعاصي والغفلات واتباع الهوى.
وشيئاً فشيئاً يزداد النور في القلب ، وتدب الحياة في جنباته ، ليبدأ صاحبه حياة جديدة لم يعهدها من قبل.
قال تعالى"أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " [الأنعام: 122]
فالقرآن إذن هو الروح التي تُبث في القلب فتحييه.
قال تعالى "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا"[الشورى: 52 ]
وعندما تُبث الروح في القلب ، وتمتلئ جنباته بنور الإيمان فإن هذا من شأنه أن يطرد الهوى وحب الدنيا من القلب مما يكون له أبلغ الأثر على سلوك العبد واهتماماته ، وهذا ما أوضحه صلى الله عليه وسلم للصحابة عندما سألوه عن معنى انشراح الصدر الذي جاء في قوله تعالى"أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه"[الزمر:22]
قال صلى الله عليه وسلم :"إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح" قلنا : يا رسول الله وما علامة ذلك؟قال " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله"1
من آثار المعجزة :
يقول تعالى"ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قُطعت به الأرض أو كُلِم به الموتى بل لله الأمر جميعاً "[الرعد:31]
إن للقرآن تأثيراً قوياً يفوق ما يمكن تخيله ، ولقد ضرب لنا سبحانه وتعالى مثلاً لذلك فقال عز من قائل " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون"[الحشر:21 ]
فالجبال -كما يقول القرطبي- إذا ما خوطبت بهذا القرآن ، مع تركيب العقل لها لانقادت لمواعظه ، ولرأيتها على صلابتها ورزانتها خاشعة متصدعة ، أي متشققة من خشية الله2
وفي هذا المثل دعوة للتفكر في قوة تأثير القرآن ليكون حجة على الجميع ، ويبطل دعوى من ادعى بأنه ليس أهلاً لتدبر القرآن.
القرآن والجن :
ومن آثار المعجزة القرآنية ، وقوة تأثيرها ما حدث لنفر من الجن حين استمع للقرآن.
قال تعالى "وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين"[الأحقاف:29-32]
نموذج للتغيير القرآني :
للقرآن تأثير عجيب في نفس من يُحسن استقباله والتعامل معه على حقيقته ككتاب هداية وشفاء ، فمن شأنه أن يُحدث انقلاباً جذرياً شاملاً في شخصيته فيعيد صياغتها وتشكيلها من جديد على ما يحب الله عز وجل ويرضى، فإن كنت في شك من هذا فتأمل معي ما حدث للصحابة – رضوان الله عليهم- والذين كانوا قبل إسلامهم غاية في الغرابة والجاهلية ، ليدخلوا بهذه الحالة إلى مصنع القرآن ثم يخرجوا منه أُناساً آخرين تفخر بهم البشرية حتى الآن.
إنه لأمر عجيب يشهد بقدرات هذا الكتاب على إحداث التغيير الجذري في النفوس –أي نفوس- وإلا فمن يصدق أن أمة تعيش في الصحراء ، حفاة عراة ،فقراء ، بلا مقومات تذكر ، لا توضع في حسابات القوى الكبرى آنذاك ، فيأتي القرآن ليغيرها ويعيد صياغة شخصيتها وكيانها من جديد ، ويرفع هامات أبنائها إلى السماء ، ويربط قلوبهم بالله ليكون وحده هو الغاية والمقصد حدث كل هذا في وقت قصير...سنوات معدودات كانت كفيلة بإحداث هذا التغيير الجذري.
...فماذا كانت النتيجة ؟!
تحقق الوعد الذي وعد الله به عباده إذا ما قاموا بتغيير ما بأنفسهم كما قال تعالى " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"[الرعد: 11 ]
ففي سنوات معدودة خرجت القوة الجديدة من قلب نفس الصحراء لتحطم الإمبراطوريات وتقلب الموازين وتؤول لها القيادة والريادة "و من أوفى بعهده من الله"[التوبة:111]
لماذا غيّر القرآن الصحابة ؟! :
الذي مكّن القرآن على إحداث هذا التغيير الجذري في جيل الصحابة هو حسن تعاملهم معه بعد أن أدركوا قيمته وفهموا المقصد من نزوله ، ولقد كان أستاذهم ومعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتهم في ذلك ، فلقد عايش – عليه الصلاة والسلام- القرآن بكيانه كله وانصبغت حياته به ، حتى صار وكأنه قرآناً يمشي على الأرض ، يغضب لغضبه ، ويرضى لرضاه.
كان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن قراءة متأنية مترسلة ، فيرتل السورة حتى تُصبح أطول من أطول منها ، ولقد ظل صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة يردد في صلاته آية واحدة وهي قوله تعالى" إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"[المائدة:118]
بل إنك لتعجب من قوة تأثير القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يخبرنا بقوله"شيبتني هود وأخواتها قبل المشيب"1
أما تأثير القرآن على الصحابة ، فخير دليل عليه هو واقعهم الذي تبدل ، واهتماماتهم التي تغيرت ، فإن أردت مثالاً لكيفية معايشة الصحابة للقرآن وقوة تأثيره عليهم، فانظر إلى أمر عبَّاد ابن بشر الذي كان يتبادل حراسة المسلمين مع عمّار ابن ياسر في غزوة ذات الرقاع ، فطلب من عمّار وقد كان مجهداً أن ينام أول الليل ويقف هو ، فلما رأى أن المكان آمناً صلى ،فجاء أحد المشركين فرماه بسهم فنزعه وأكمل صلاته ، ثم رماه بسهم ثان فنزعه وأكمل صلاته ، ثم رماه بثالث فنزعه وأنهى التلاوة وأيقظ عماراً وهو ساجد ، فلما سأله عمار لِمَ لَمْ يوقظه أول ما رُمي فأجاب ( كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفدها فلما تابع عليّ الرمي ركعت فآذنتك ، وأيم الله لولا أن أُضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفدها)2
بركة القرآن :
إذن فقيمة القرآن الحقيقية تكمن في معانيه ، وقدرته على إحداث التغيير الجذري لقارئه ، وإعادة صياغة عقله ، وبث الروح في قلبه ، وترويض نفسه، ليخرج منه عالماً بالله عز وجل ، عابداً له بإخلاص وعلى بصيرة ، وهذا لن يتحقق بمجرد القراءة العابرة باللسان فقط ، ولو تم ختمه بهذه الطريقة آلاف المرات.
وهذا ما كان يؤكد عليه الصحابة رضوان الله عليهم ، فقد قيل للسيدة عائشة – رضي الله عنها- إن أناساً يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثاً ، فقالت : قرءوا ولم يقرءوا ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة التمام فيقرأ سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، وسورة النساء لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله تعالى ورغب ، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ1
وعن أبي جمرة قال : قلت لابن عباس : إني سريع القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلاث ، فقال : لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ كما تقول2
ومن وصايا ابن مسعود رضي الله عنه : لا تهذُّوا القرآن هذّ الشعر ، ولا تنثروه نثر الدقل ، وقفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ولا يكن همَّ أحدكم من السورة آخرها3
ويؤكد على هذا المعنى الآجري في كتابه أخلاق حملة القرآن فيقول :
والقليل من الدرس للقرآن مع التفكر فيه وتدبره أحب إلىّ من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه ، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة وأقوال أئمة المسلمين.
سُئل مجاهد عن رجل قرأ البقرة وآل عمران ، ورجل قرأ البقرة ، قراءتهما واحدة ، وركوعهما وسجودهما ، وجلوسهما ، أيهما أفضل ؟ قال الذي قرأ البقرة، ثم قرأ " وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث "[الإسراء:106]4
حالنا مع القرآن :
أتعلم يا أخي أن القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن الذي كان مع الصحابة ، وهو الذي صنع منهم هذا الجيل الفريد؟!!
فما الذي تغير ؟!
لماذا لم يعد القرآن ينتج مثل هذه النماذج ؟!!
هل فقد مفعوله ؟!
حاشاه أن يكون كذلك ، وهو المعجزة الخالدة إلى يوم القيامة
إذن فالخلل فينا نحن ، فمع وجود المصاحف في كل بيت ، وما تبثه الإذاعات ليل نهار من آيات القرآن ، ومع وجود عشرات بل مئات الآلاف من الحفاظ على مستوى الأمة وبصورة لم تكن موجودة في العصر الأول ، إلا أن الأمة لم تجن ثماراً حقيقية لهذا الاهتمام بالقرآن
...لماذا؟
لأننا لا نوفر للقرآن الشروط التي يحتاجها لتظهر آثار معجزته ويقوم بمهمة التغيير ، فلقد اقتصر اهتمامنا بالقرآن على لفظه ، واختُزل مفهوم تعلم القرآن على تعلم حروفه وكيفية النطق بها دون أن يصحب ذلك تعلم معانيه ، وأصبح الدافع الرئيسي لتلاوته هو نيل الثواب والأجر دون النظر إلى ما تحمله آياته من معان هادية وشافية مما جعل الواحد منا يسرح في أودية الدنيا وهو يقرأ القرآن ، ويفاجأ بانتهاء السورة ليبدأ في غيرها ، ويبدأ في السرحان مرة أخرى دون أن يجد حرجاً في ذلك ، بل إنه في الغالب ما يكون سعيداً ، وفرحاً بما أنجزه من قراءة كماً لا كيفاً !
نُدير مؤشر المذياع على صوت قارئ القرآن ثم نتركه يرتل الآيات ويخاطب بها الجدران ثم ينصرف كل منا إلى ما يشغله.
من آثار هجر القرآن :
هذا التعامل الشكلي مع القرآن أدى إلى عدم الانتفاع الحقيقي به.
فماذا كانت النتيجة ؟!!
توقفت المعجزة القرآنية –أو كادت- في إحداث التغيير الحقيقي في النفوس ، لتزداد الفجوة بين الواجب والواقع ، والقول والفعل 00تغيرت اهتماماتنا ، وازداد حبنا للدنيا وتعلقنا بها ، فجرت علينا سنة الله عز وجل.
" ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم"[الأنفال:53]
وانطبق حالنا مع ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ؟ قال :"بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"1
ضرورة العودة إلى القرآن :
من هنا يتضح لنا أنه قد آن أوان للعودة الحقيقية إلى القرآن فنقبل على مأدبته ، ونُعطي له وجوهنا ، ونترك له أنفسنا.
آن الأوان لكي نبدأ عملية التغيير الحقيقية في ذواتنا حتى يتحقق موعود الله لنا كما قال تعالى"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"[الرعد: 11 ]
ولنعلم جميعاً أن أي بداية أخرى تتجاوز القرآن لن تأتي بالثمار المطلوبة ، ولم لا والقرآن هو الدواء الرباني الذي أنزله الله عز وجل ليشفى به الإنسان من أمراضه ، ويعيد به العافية إلى قلبه.
قال تعالى " يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين"[يونس: 57 ]
كيف ننتفع بالقرآن ؟
مما لا شك فيه أن من يقبل على القرآن مستشعراً أنه خطاب من الله عز وجل موجه إليه ، يحمل في طياته مفاتيح سعادته في الدنيا والآخرة ، وأنه القادر بإذن الله على تغييره مهما كان حاله..لا شك أن هذا الشخص لا يحتاج إلى من يدله على وسائل تعينه على الانتفاع بالقرآن ، لأنه بهذا الشعور قد أصبح مهيأً للتغيير الذي يقوم به القرآن.
أما وإنه من الصعب علينا في البداية أن نكون كذلك بسبب ما ورثناه من أشكال التعامل الخاطئ مع القرآن ، مما جعل هناك حاجزاً نفسياً بيننا وبينه يمنعنا من الانتفاع الحقيقي به.
أما والأمر كذلك فإن عودتنا إلى القرآن تحتاج إلى وسائل سهلة وعملية ومحددة تعين صاحبها على إدارة وجهه للقرآن ، والإقبال على مأدبته ، والدخول إلى عالمه ومصنعه بصورة متدرجة.
ومن أهم الوسائل التي تحقق هذا الغرض هي :
-1الانشغال بالقرآن
-2تهيئة الجو المناسب.
-3القراءة المتأنية.
-4التركيز عند القراءة.
-5التجاوب مع الآيات.
-6أن نجعل المعنى هو المقصود.
-7ترديد الآية التي تؤثر في القلب.
أولاً: الإنشغال بالقرآن
بمعنى أن يصبح القرآن هو شغلنا الشاغل ، ومحور اهتماماتنا ، وأولى أولوياتنا ، ولكي يكون القرآن كذلك لابد من المداومة اليومية على تلاوته مهما تكن الظروف ، وأن نعمل على تفريغ أكبر وقت له ، فالتغيير القرآني تغيير بطيء ، هادئ ، متدرج ،ولكي يؤتي ثماره لابد من استمرارية التعامل معه ، وألا نسمح بمرور يوم دون أن يكون هناك لقاء به.
ولنعلم جميعاً أنه على قدر ما سنعطي القرآن سيعطينا ، فمن استطاع أن يجعل له في يومه عدة لقاءات معه فقد حاز قصب السبق.
وشهر رمضان فرصة عظيمة للعودة الحقيقية إلى القرآن وبدء عملية التغيير ، فلقد اعتدنا على الانشغال بالقرآن في هذا الشهر المبارك فلنستثمر هذا التعود ولنطوره في اتجاه الانتفاع بالقرآن لفظاً ومعنى.
ثانياً ، تهيئة الجو المناسب
لكي يقوم القرآن بعمله في التغيير لابد من تهيئة الظروف المناسبة لاستقباله ، ومن ذلك وجود مكان هادئ بعيد عن الضوضاء يتم فيه لقاؤنا به ، فالمكان الهادئ يُعين على التركيز وحسن الفهم وسرعة التجاوب مع القراءة ، ويسمح لنا كذلك بالتعبير عن مشاعرنا إذا ما استثيرت بالبكاء والدعاء.
ومع وجود المكان الهادئ علينا أن يكون لقاؤنا بالقرآن في وقت النشاط والتركيز لا في وقت التعب والرغبة في النوم ، ولا ننس الوضوء والسواك.
ثالثاً : القراءة المتأنية
علينا ونحن نقرأ القرآن أن تكون قراءتنا متأنية ، هادئة ، مترسلة ، وهذا يستدعي منا سلامة النطق وحُسن الترتيل كما قال تعالى"ورتل القرآن ترتيلاً "[المزمل: 4 ]
وعلى الواحد منا ألا يكن همّه عند القراءة نهاية السورة ، ولا ينبغي أن تدفعنا الرغبة في ختم القرآن أكثر من مرة في رمضان إلى سرعة القراءة ، فلقد ختمنا القرآن قبل ذلك في رمضان عدة مرات فماذا فعل بنا؟! وماذا غيّر فينا ؟!
وليكن تنافسنا مع أقراننا حول المعاني الإيمانية المستخرجة من الآيات ، لا في كمِّ القراءة.
رابعاً: التركيز مع القراءة
نريد أن نقرأ القرآن كما نقرأ أي كتاب، فعندما نشرع في قراءة كتاب أو مجلة أو جريدة فإننا نعقل ما نقرؤه ، وإذا ما سرحنا في موضع من المواضع عُدنا بأعيننا إلى الوراء ، وأعدنا قراءة ما فات على عقولنا ، وما دفعنا إلى ذلك إلا لنفهم المراد من الكلام.
وهذا ما نريده مع القرآن : أن نقرأه بحضور ذهن ، فإذا ما سرحنا في وقت من الأوقات علينا أن نعيد الآيات التي شردت الأذهان معها.
...نعم في البداية سنجد صعوبة في تطبيق هذه الوسيلة بسبب تعودنا على التعامل مع القرآن كألفاظ مجردة من معانيها ، ولكن بالمداومة والمثابرة سنعتاد بمشيئة الله القراءة بتركيز وبدون سرحان.
خامساً : التجاوب مع القراءة
القرآن خطاب مباشر من الله عز وجل لجميع البشر : لي ، ولك ، ولغيرنا ... هذا الخطاب يشمل من ضمن ما يشمل : أسئلة وأجوبة ، ووعد وعيد ، وأوامر ونواهي.
فعلينا أن نتجاوب مع الخطاب القرآني بالرد على أسئلته ، وتنفيذ أوامره بالتسبيح أو الحمد أو الاستغفار ، والسجود عند مواضع السجود…والتأمين على الدعاء ، والاستعاذة من النار ، وسؤال الجنة ، ولقد كان هذا من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام…
ولعل القيام بهذه الوسيلة يساعدنا على زيادة التركيز عند القراءة ، وعدم السرحان.
سادساً: أن نجعل المعنى هو المقصود
البعض منا عندما يشرع في تدبر القرآن ، تجده يقف متمعناً عند كل لفظ فيه مما يجعل التدبر عملية شاقة عليه ، وما يلبث إلا أن يملّ فيعود أدراجه إلى الطريقة القديمة في القراءة دون فهم ولا تدبر.
فكيف لنا إذن أن نقرأ القرآن بتدبر وسلاسة في نفس الوقت ؟!
الطريقة السهلة لتحقيق هذين الأمرين معاً هو أن نأخذ المعنى الإجمالي للآية ، وعندما نجد بعض الألفاظ التي لا نعرف معناها ، فعلينا أن نتعرف على المعنى من السياق ، كمن يقرأ مقالاً باللغة الإنجليزية مثلاً ولا يعرف معنى بعض الكلمات ، فإنه يفهم المعنى الإجمالي من السياق ، وهذا ما أرشدنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال :"إن القرآن لم ينزل يُكِّذب بعضه بعضاً ، بل يصدق بعضه بعضاً ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم فردوه إلى عالمه" 1
وبهذه الطريقة تصبح قراءة القرآن بتدبر سهلة وميسرة للجميع .
وليس معنى هذا عدم النظر في كتب التفسير ومعاني الكلمات ، فمما لاشك فيه أن للتفسير دور كبير في حسن الفهم ، وله أيضاً دور أساسي في معرفة الأحكام الشرعية ، والتي لا ينبغي علينا أن نستنبطها بمفردنا من القرآن، فتاريخ الأمة الإسلامية يشهد بانحراف الكثير ممن استنبط بمفرده الأحكام الشرعية من القرآن دون أن يكون مؤهلاً لذلك مثل الخوارج وغيرهم.
ومع هذا الدور العظيم للتفسير إلا أنه ينبغي أن يكون له وقته الخاص به، والغير مرتبط بوقت القراءة ، فنحن لا نريد أن نخرج من لقائنا بالقرآن بزيادة الفهم فقط ، ولكن نريد القلب الحي كذلك ، وهذا يحتاج إلى اللقاء المباشر مع القرآن ، والسماح بقوة تأثيره أن تنساب داخلنا وتتصاعد من خلال الاستمرار في القراءة ، والإسترسال مع الآيات والتجاوب معها.
سابعاً : ترديد الآية التي تؤثر في القلب
وهذه من أهم الوسائل المعينة على سرعة الانتفاع بالقرآن ، فالوسائل السابقة مع أهميتها القصوى ، إلا أنها في النهاية تخاطب العقل الذي يعد محلاً للعلم والمعرفة ، أما الإيمان فمحله القلب. والقلب هو مجموع العواطف والمشاعر داخل الإنسان ، وعلى قدر الإيمان فيه تكون الأعمال الصالحة التي تقوم بها الجوارح.
معنى ذلك أن الإيمان عاطفة ومشاعر ، وأنَّ لحظات التجاوب والإنفعال التي نشعر بها في دعائنا أو صلاتنا أو قراءتنا للقرآن تؤدي إلى زيادة الإيمان في قلوبنا.
القرآن وزيادة الإيمان :
قال تعالى" وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً"[الأنفال:2]
فالقرآن من أهم وسائل زيادة الإيمان وذلك من خلال مواعظه البليغة التي تستثير المشاعر وتؤججها ، فيحدث بذلك التجاوب بين الفكر والعاطفة.
…نعم قد تكون لحظات التجاوب والإنفعال قليلة في البداية ، ولكن بالإستمرار على قراءة القرآن من خلال استصحاب الوسائل السابقة ستأتي – بعون الله – تلك اللحظات.
فماذا نفعل وقت حدوثها؟
علينا أن نستثمر الفرصة التي جاءتنا ، ونعمل على دخول أكبر قدر من نور الإيمان إلى القلب في هذه اللحظات وذلك من خلال ترديد الآية التي أثّرت فينا ، وعلينا ألا نملّ من ذلك طالما وُجد التجاوب ، وهذا ما كان يفعله الصحابة والسلف رضوان الله عليهم.
عن عباد بن حمزة قال : دخلت على أسماء رضي الله عنها وهي تقرأ " فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم"[الطور:27]فوقفت عندها فجعلت تعيدها وتدعو ، فطال ذلك فذهبت إلى السوق ، فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو1
وبترديد الآية التي تؤثر في القلب تتولد داخل العبد طاقة ، عليه أن يُحسن تصريفها بالبكاء والدعاء كما قال تعالى " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً"[الإسراء107--109]
وبعد
فهذه سبعة وسائل لا نجد فيها ما يصعب علينا الأخذ به ، ولا يبقى بعد ذلك إلا الرغبة الصادقة في التغيير …هذه الرغبة التي لا نشك أنها متوفرة لدى الجميع -بفضل الله عز وجل - علينا أن نُحسن التعبير عنها بدعاء الله عز وجل وسؤاله تيسير طريق العودة إلى القرآن والانتفاع به.
قال تعالى"وقال ربكم ادعوني أستجب لكم"[غافر:60]
ولنجعل شهر رمضان بمثابة البداية القوية والجديدة مع القرآن ، فالأجواء فيه مهيأة ، والنفوس طَيِّعة ، والشياطين مصفدة.
ولنضع نُصب أعيننا هدفاً محدداً نسعى للوصول إليه في هذا الشهر ألا وهو القلب الحي والذي أخبر عن أماراته رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :"الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والإستعداد للموت قبل نزوله "1
ولنستمر على قراءة القرآن – بهذه الطريقة – بعد رمضان أيضاً ، فالقرآن هو نعم القائد إلى الله في هذه الحياة المليئة بالفتن والشهوات.
وأخيراً
فيا أخي لحبيب
إن كنت تريد السعادة لك ولأهلك فعليك بالعودة إلى القرآن ، وإن كنت تريد العزة والنصر لأمتك فتمسك بالقرآن ففيه كل ما تحتاجه ، ونحتاجه جميعاً.
قال تعالى "أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم" [العنكبوت:51]
ولا تنس وأنت تعيش في أجواء القرآن ، وتغترف من معينه ، وتتذوق من خلاله حلاوة الإيمان أن تدعو لي ولإخوانك المسلمين في كل مكان بالمغفرة والرحمة وحسن الخاتمة.
وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله