<!--
<!--<!--<!--<!--<!--<!--
الغربة التي يشكو منها ابنك في مدرسته ليست أمراً غريباً.
والإحباط الذي يشعر به ليس حالة فريدة.. بل هي ظاهرة وسط أبنائنا الطلاب.
إن هذه الغربة لها أسبابها المنطقية.. فقد قضى ابنك في مدرسته الأولى سنوات.. وفى خلال هذه السنوات ربى علاقات مختلفة بينه وبين زملائه.. فله في مدرسته أصدقاء يحبهم، ويحب أن يقضى معهم وقتاً طيباً، ويمارس معهم أنشطة فأصبحت المدرسة هي الملتقى الذي يجمعه بالزملاء والأصدقاء الأحباب.
كما أنه ربى علاقات طيبة مع مدرسيه وألف المدرسة وتعود على مناخها وجوها، وشارك في أنشطة المدرسة فأصبح له دور في المدرسة.. كما أنه تربى فيها وكبر حتى صار من كبار المدرسة الذين يعاملون باحترام يختلف عن صغارها.. وقد يكون هو أحد زعماء الطلاب أو قياداتهم وروادهم في مدرسته.
تخيل أنك مكانه وقد فارقت ذلك كله.
أصدقاؤك تبعثروا وتفرقوا بين المدارس المختلفة؛ وليس لك في هذا المكان الجديد صديق.
مدرسوك فارقتهم بعد أن كنت مرتبطا ببعضهم ارتباطا قوياً.. ومتعلقاً به في هذا السن الذي إن أحب فمن كل قلبه إلى درجة التعلق..وقد يكون أستاذه في نظره هو البطل والقدوة التي يقتدي بها، ويحاول أن يتقمص شخصيتها.
وأنت مطالب أن تتعامل مع مدرسين جدد لا تعرفهم ولا يعرفونك!
وقد يمد أحدهم يده بالضرب دون تقدير لهذا الطالب الجديد في المدرسة الجديدة!
وأنت في هذا المكان مجهول بعد أن وصلت في شهرتك في مدرستك القديمة إلى درجة النار على العلم.
والطلاب الكبار قد يمارسون عليك أنواعا من المعاملة باحتقار باعتبارك ما زلت صغيراً وجديداً.
أضف إلى ذلك إذا كانت الدراسة في هذه المرحلة الجديدة تحتاج إلى اعتماد على النفس أكثر من المرحلة التي انتقلت منها؟
ما شعورك في هذه الحالة؟!
لا أظن أنك ستجيب كما يجيب بعض الآباء:
أنت مالك وما حولك؟
أنت لك دروسك ومذاكرتك ليس إلا.. طالما المدرسون يشرحون جيدا وكتبك معك.. فما عليك إلا الحضور والانتباه للدروس وفقط.
هذه الإجابة إنكار للمشكلة.. وإنكار المشكلة لا يحلها.. بل قد يفاقمها.
ومن الطبيعي أن يرفض الابن توجيهاتك إذا شعر أنك تنكر المشكلة.. وتتهمه بأنه يختلقها وهى ليست موجودة!
أو ليس من حقه أن يشعر بها فإن شعر فهو متهم بأوصاف مكروهة.
وكذلك لا نؤيد أن تتعاطف مع الابن من أول وهلة والمسارعة بطلب نقه من المدرسة.
ما هي المدرسة؟!!
إنها بالتأكيد ليست الجدران والفصول والأثاث.. ولا هي كذلك الكتب والحصص.. وإنما أهم ما فيها الأرواح التي ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
إنها زملاء وأصدقاء، ومدرسون وحصص، وأنشطة.. رحلات، وحفلات، وملاعب ومكتبات، ومعامل وحدائق.. و... و....
وفى النهاية كل ذلك له في قلب الإنسان ووجدانه ذكريات وتعلقات وارتباطات روحية متعانقة.
إن الشعور الطبيعي عند مفارقة المدرسة هو الشعور الذي يشكو منه الابن.
كل شيء في المدرسة الجديدة على غير ما يرام !! حتى الهواء ليس كهواء المدرسة !! ولا مدرسة إلا تلك.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل للقلب يألفه الفتى وحنينه دوما لأول منزل
إن أي منا إذا فارق مكانه المحبب إلى مكان جديد فقلما يبصر حسنات المكان الجديد.. بل يقضى مدة لا يرى فيها إلا سيئاته وعيوبه.
الحلول المقترحة
الاعتراف بالمشكلة أول خطوة لحلها فعلينا أن نشعر الابن بأننا مقدرون لهذا الشعور.. وأنه شعور طبيعي وله أسبابه.. وأن هذه المشكلة تقوى كلما كان الإنسان متمتعاً بالعاطفية والحس الإنساني.. وكلما كان الطالب محباً لمدرسته.. له أصدقاء ومعارف تعز عليه مفارقتهم.
الخطوة الثانية: أن نناقش مع الابن هذه المشكلة وأسبابها.. ونعوده من خلال المناقشة على تقييم الأمور تقييماً سليما متزناً يرى الإيجابيات كم يرى السلبيات.
ونسأله:
ما هي الإيجابيات التي تجدها في مدرستك الجديدة؟
وما هي مميزاتها التي لم تكن تجدها في القديمة؟
فإذا أجاب بأنه لا شيء.. فعلينا أن نعدل له هذه الطريقة في التقييم حتى لا يتعود التقييم العاطفي.. وهذا التعديل جزء من حل هذه المشكلة.. كما أنه تربية للمستقبل فهذه المشكلة نموذج يتكرر كثيرًا في الحياة وسيقابله كثيراً في مستقبله.
إن النتيجة النهائية من هذا الحوار والتقييم هو الوصول إلى السبب الحقيقي لكراهيته لمدرسته الجديدة.. وهو فراقه الصعب لمدرسته الأولى.. وليس لعيوب حقيقية في المدرسة الجديدة.. وهناك فرق كبير بين السببين.
فالسبب الحقيقي يعنى أن هناك أمل في قبول المدرسة وفى تربية علاقات بها.. بل والوصول يوما ما إلى حبها مثل الأولى أو أكثر منها.
الخطوة الثالثة: أن نقف معه ونساعده على تكوين العلاقات.. وتأخذ هذه المساعدة أكثر من طريقة.
منها الجلوس معه يومياً ليحكى ما حدث اليوم في المدرسة.. ثم نناقشه فيه.. ومن خلال المناقشة نوجهه التوجيه السليم.. ونقترح عليه طرق تكوين العلاقات.
ومنها أن نرسل معه هدية أو تحية أو تهنئة إلى مدرس الفصل.
أحد الآباء عود ابنه أن يأخذ معه في بداية الدراسة هدية رمزية.. مثل وردة للمدرس فإن لم يكن فليذهب الابن للمدرس بعد الحصة ليسلم ويتعرف علي مدرسه بكل حب واحترام.
كانت طالبة تشكو من قسوة المديرة وتجهمها دائما مع الطلبة! فأرسل الأب مع ابنته لوحة قيمة للمدرسة شكرًا على مجهودها ـ وكانت تستحق الشكرـ فاعتنت بها المديرة وعلقتها في مكتبها ونشأ الود مع الابنة.
وما فعله هذا الأب لا يزيد عن الكلمة الطيبة (والكلمة الطيبة صدقة) لها أثرها الحي على القلوب.. والحق أن كثيرًا من العاملين في التربية والتعليم يستحقون الشكر.. ولكنهم لا يجدون من الآباء إلا المحاسبة على الأخطاء.. ومن التلاميذ إلا التضجر والتجهم.
فتنشأ علاقة أشبه بعلاقة ريس العمال الجاد بالعامل الكسول.. وهذا في حد ذاته سبب لملل الأبناء وشعورهم بالغربة في المدارس.. والكلمة الطيبة والشكر يمكن أن يغير هذا المناخ الغير صحي في التعليم.
ومن الوسائل أيضا أن يزور الأب المدرسة أو يلتقي ببعض المدرسين ومعه ابنه ويسأله عنه أو يجرى بينهما أي حوار جميل في حضور الابن.
إن زيارة ولى الأمر للمدرسة وسؤاله المهذب عن ابنه تعطى للابن مكانة في المدرسة واهتماما من المدرسين وشعورًا من الابن بالاهتمام من ناحية.. ومن ناحية أخرى بأن هناك نوع مراقبة من مدرسيه ناتج من إمكانية اتصالهم بولي أمره.
إن الاتصال بين ولى الأمر والمدرس بأي صورة من الصور سيزيل جزءً كبيراً من شعور الابن بالغربة في المدرسة.. فضلا عن فوائد أخرى كثيرة.
ومن وسائل علاج الغربة تشجيع الابن على المشاركة في أنشطة المدرسة.. وهذا التشجيع ليس المقصود به مجرد توجيه الابن ونصحه ثم الإلحاح عليه ثم زجره ونهره.. ليس كذلك.. وإنما قد يحتاج الابن إلى الأخذ بيده خطوة خطوة بداية من سؤاله:
ما هي الجماعات أو الأسر التي تمارس الأنشطة في المدرسة؟
وما النشاط أو الجماعة التي يحب أن يشارك فيها؟
وإذا أجاب أنه لا يميل للمشاركة في هذه الجمعيات نسأله عن الأسباب.. ثم نرغبه في المشاركة لأنها تربى في الابن.. وتنمى جوانب شخصيته المختلفة.. وتعوده على السلوك الاجتماعي السليم والوسط.. فتحميه من الانطواء والخجل.. وكذا من الذوبان والتميع.. كما أنه تربى الانتماء للمدرسة وحبها.
فإذا شارك ساعدناه على تقديم نوع من المشاركة.. فإذا كان سيقدم مجلة أو نموذجا مصنوعا مثلا ساعدناه في عمله وهكذا.
وفى اعتقادي أن التربية السليمة وقاية من مشكلة الاغتراب والانطواء في المدرسة أو غيرها.. وخصوصاً التربية على الأخلاق الفاضلة التي تؤهل الإنسان للتعايش والتعامل الصحيح مع الناس.. فالمؤمن إلف مألوف يألف ويؤلف ولابد بعد قليل من الوقت أن يجد في مكانه الجديد من يحبه فيحبه.
والتربية على الخلق الحسن من الصغر تعتبر أساساً نحتاج أن نبنى عليه التربية على الدعوة إلى الله بوسائلها المختلفة.
وتعويد الابن على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والكلمة الطيبة والتعارف والإكرام ، وحب الخير للناس وحسن الحوار كل ذلك وقاية تلقائية من الشعور بالغربة.. فهذا الابن حيثما حل سيفتح أبوبا للتعارف مع من حوله.. ومن هنا ستنشأ علاقات طيبة وعلى أساس سليم.. لأنها ستكون لله وما كان لله دام واتصل.
وأخيراً فهناك استدراكان مهمان:
الأول: أن كل ما سبق لا يعنى أن الابن الذي تربى تربية جيدة لا يشعر بهذه المشكلة.. بل على العكس.. ولكن الفرق أن التربية السليمة تجعل المشكلة في حدودها الطبيعية التي تجعل الحل ممكنا وسهلاً.
الاستدراك الثاني: أن هذا المقال قد تناول ظاهرة تعد أحد أسباب الشعور بالغربة في المدرسة الجديدة.. وهو صعوبة الفراق للمدرسة الأولى مع حبها.
ولم يستعرض المقال جميع أسباب هذا الشعور.. فقد تكون هناك أسباب حقيقية هامة لشعور الابن بالغربة أو بمعنى أدق بالكراهية لمدرسته.. وهذه الأسباب لا نصل إليها إلا بمناقشته الهادئة ودراسة المشكلة.
وكل عم ونحن وأبناؤنا بخير وتوفيق
الأربعاء الموافق
20-10-1431هـ
29-9-2010م
ساحة النقاش