مقدمة بقلم /الدكتور ناجح إبراهيم
يغيب الأب عن أسرته ومملكته كثيرا ً هذه الأيام ... وقد تطول غيبته إلي سنوات عديدة ... يعيش فيها بعيدا ً عن زوجته وأولاده .. ويعاني الأب آلام الغربة وهمومها وأحزانها .. وكذلك أسرته .. ولكن كلا الفريقين يحاول أن يتكيف مع حياته الجديدة.. ويتأقلم مع وضعه الجديد .. فيحاول الأب في غربته أن يتواءم مع من حوله في غياب زوجته وأولاده .. ويكتسب من بيئته الجديدة عادات وأنماطاً جديدة عليه وعلي أسرته .. إذ أن الزوج عادة ما يعيش في غربته في بيئة ذكورية خالصة .. كما أنه يكابد في غربته سواء للعمل في دولة أخري أو في أي مكان آخر ألوانا من الضغوط النفسية والبدنية ليحافظ علي وضعه الاقتصادي والاجتماعي .. أو ليستمر في عمله.. أو ليتمسك بدينه ومبادئه وعقيدته.. وكل ذلك يخلف آثارا ً عميقة في بدنه ونفسه .. وكذلك زوجته التي تعاني من غياب زوجها فتتقمص شخصية الأب والأم والزوج ورب الأسرة معا ً .. فيحدث لها ازدواج في شخصيتها بين رفق الأم وقوة الأب.. وبدلا ً من أن تستريح من عناء قيادة السفينة لتتفرغ للرحمة والعطف علي أولادها.. إذا بها تكابد عناء القيادة في المنزل وفي المجتمع.. لتواجه بنفسها كل مشاكل الأسرة الاجتماعية والتعليمية والتربوية والاقتصادية مجتمعة.. وذلك كله دون أن تجد السند الحقيقي لها وهو زوجها.. ودون أن تجد من يشحن بطارية إيمانها ويقينها وعزمها ومشاعرها وعواطفها وهو زوجها.. فتظل تقود الأسرة دون زاد من الإيمان والعزمات والمشاعر .. وإذا بها تري سفينة أسرتها تكاد تغرق حينما يشب الأولاد عن الطوق ويبلغوا سن المراهقة في غياب الأب.. حيث لا تستطيع هي السيطرة عليهم فتعمد إلي شراء رضاهم عنها بمزيد من التزلف لهم والانقياد الخاطئ أمام رغباتهم التي تضرهم وتضر سمعة الأسرة ..
هذه المشكلة العميقة .. كيف نشأت ؟.. وما هي آثارها؟ وكيف تحل هذه المشكلة ؟ كل هذا وغيره يتصدي له في هذه الدراسة الشيخ / علي الديناري .. ولعل هذه الدراسة تهم كل طبيب ومدرس ومهندس وغيرهم غاب عن أسرته عده سنوات وهو يعمل في دول الخليج وغيرها.. ولعلها تهم كذلك كل مسلم اعتقل لعده سنوات فغاب عن أسرته قهرا ثم عاد إلي أسرته فواجه هذه المشكلات وأحتار كيف يتصرف فيها.. وما أكثر المعتقلين الآن في بلاد المسلمين.. وما أحوجنا جميعا لهذه الدراسة التربوية العميقة التي كتبها الشيخ علي الديناري بعد دراسة عملية عميقة .. فلم يكتبها من غرفة مكيفة في بيت أسرته التي لم يغب عنها .. ولكن كتبها بعد أن غاب عن أسرته 15 عاما ً كاملة وعاش وعاصر كثيرا ً ممن غابوا عن أسرهم .. فعاش المشكلة بنفسه ... وامتزج بها امتزاج الروح بالجسد .. وهكذا دوما كتابات الشيخ علي تنبع من داخل نفسه وروحه وكيانه.. إذا أنها يعيش فيها أو تعيش فيه...
والآن أترككم مع هذه الدراسة الشيقة أخوكم د. ناجح إبراهيم
عودة الأب بعد غيابه.. المشاكل والحلول
يغيب الأب عن أسرته لأي سبب غياباً طويلاً فتترتب على غيابه مشاكل لأسرته…
ثم يعود…
فإذا بعودته بعد غيابه مشكلة أو مشكلات تحتاج إلى كثير توقف وتفكير..ونحن هنا نحاول أن نساعد الأسرة التي عاد إليها الأب بعد غياب لتجتاز المرحلة الإنتقالية الأولى بسلام دون أزمات حادة تعصف بالأسرة وتفصل بين أعضائها وحديثنا هنا في عدة نقاط:
الأولى: ماذا حدث للأسرة في غياب الزوج.
الثانية: أوضاع الأب بعيداً عن أسرته.
الثالثة: ماذا تتوقع الأسرة عن عودة الأب.
الرابعة: عودة الأب في الواقع.
الخامسة: مشاكل متوقعة بعد العودة.
السادسة: توصيات وحلول.
أولا :ماذا حدث للأسرة في غياب الأب؟
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
غالباً ما تمر الأسرة بعد غياب الأب بعدة مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة فقد الاتزان
وفي هذه المرحلة تعتمد الأسرة على ما تركه الأب سواء من إمكانيات مادية أو توجيهات وإرشادات وضوابط وقيم ربيَّ عليها أفراد الأسرة؛ ولكن كل هذا الموروث يحتاج إلى متابعة يفتقدها بغياب الأب، فيعيش أفراد الأسرة ما بين الالتزام بالقيم وفاءً للأب الذي غرسها وما بين التحلل منها استجابة للضغوط ولهوى النفوس؛ ويزداد فقدان الاتزان كلما كانت هناك مشكلات وضغوط وكان حلها سهلاً إذا تحللت الأسرة من القيم المبادئ.
من ناحية أخرى تعيش الأسرة في هذه المرحلة أسيرة الحزن الكامن والأسى على غياب الأب وعلى الماضي الذي كان يشغله.
المرحلة الثانية: مرحلة التكيف مع الوضع الجديد وانفضاض الأسى والحزن
فقد اعتادت الأسرة على غياب الأب وبدأت أوضاع جديدة تنشأ في الأسرة وتترسخ رويداً رويداً منها ما هو موروث من الأب ومنها ما هو جديد تماماً نابع من شخصيات أفرادالأسرة وميولهم واتجاهاتهم خصوصاً الأشخاص الأقوى في الأسرة؛ وبعض هذه الأوضاع سيكون مؤثراً في مشكلتنا التي نناقشها أي بعد عودة الأب. ومن هذه الأوضاع مثلاً:-
1- أن تقوم الأم بدور الأب فهي التي تقود وتتخذ القرار والكلمة كلمتها وحدها.
2- أن يعتاد الأبناء على التصرف دون الرجوع للأب ولا انتظار إذنه.
3- أن يعيش الأولاد مدللين بدرجة كبيرة، فهذه هي سمة تربية الأم التي لا تقوى على الحزم وتزداد المشكلة إذا كانت هناك جدة أو جدات يفرضن رأيهن في التربية حيث يشفقن على الأبناء الذين حرموا من أبيهم. ونقصد بالتدليل هنا أن يصبح الابن قادراً على أن يفرض رأيه وطلبه صواباً كان أو خطأ وأن يفعل الخطأ دون حساب.
4-أن توجد بعض المكروهات التي لا يرضاها الأب، وقد تصل إلى حد المنكرات التي قد تهواها الأم وقد ترفضها ولكنها لا تقوى على منعها وربما لا تريد حرمان أبنائها من أمر يحبونه.
5- بغياب الضبط والحزم تغيب بعض القيم الهامة ويتصرف كل فرد في الأسرة حسب هواه. وفي هذا الموضع يقول موقع العدالة الاجتماعية تحت عنوان غياب الأب فعلاً أو مجازاً:
إن الأب يؤدي دور النموذج الذكري (الرجل) في الأسرة فإن غاب الأب عن المنزل بسبب السفر لفترات طويلة أو العمل لساعات طويلة أو كان موجوداً لكنه لا يقوم بهذا الدور فإن نموذج (الرجل) الأب يغيب عن الأسرة فيفقد الأبناء قيمة تقليد وتقمص هذا النموذج ويفقدون أهم مصدر للقيم والضوابط في البيت، ولو لم يكن هناك من يملأ هذا الفراغ كالأم أو المدرس أو بعض الشخصيات الأخرى فإن الطفل ينشأ غير قادر على الالتزام بأي ميزان قيمي أو أي قانون أسري أو اجتماعي وهذا الوضع ربما يدفع بالطفل إلى مجالات الانحراف السلوكي مثل الإدمان والسرقة...الخ.
6- تعيش الأسرة مشكلات مزمنة بعضها لا حل لها إلا بعودة الأب وبالتالي تعلق الأسرة آمالاً كبيرة على عودته وتتوقع أنه بعد العودة سيحل كل المشكلات وتستريح الأسرة من كل العناء.
ثانيا :أوضاع الأب بعيداً عن أسرته ( ماذا تغير فى الغربة)؟
1- أما أوضاع الأب وهو بعيد عن أسرته فهو الآخر قد اعتاد أن يعيش منفرداً بعيداً عن أسرته، وتدريجياً تناقصت خبرته في التعامل مع أفراد الأسرة حتى أنه مع طول الفترة فقدها تماماً. في الوقت الذي اكتسب فيه خبرات جديدة في التعامل مع الوسط الجديد الذي يعيش معه وربما يكون هؤلاء الرفقاء الجدد كلهم من الرجال.
إن المشكلة يمكن أن تزداد عندما يعمم خبراته بمعنى أن يعتقد أن نفس الطرق والأساليب التي نجحت في تعامله مع زملائه وأصدقائه تصلح في المعاملة مع أفراد أسرته؛ أو بأسلوب أبسط نقول أن الأب قد تعود على طرق معينة وتعبيرات معينة ونمط حياة معين وأسلوب في حل المشاكل نجح به في حياته فى الغربة وهذا الأسلوب قد لا يتناسب مع أسرته بعد العودة.
2- ن الأب ربما يعتاد الإنفراد والعزلة والانزعاج من كثرة الخلطة وربما اعتاد أخذ قراراته الشخصية بمفردة كما تعود على القيام بأعماله الشخصية وحده وكما يحب هو، فهو يجهز طعامه ويرتب مكانه بالطريقة التي تعجبه.
3- إن كل ما سبق عندما تطول عليه الفترة قد يتحول إلى طباع راسخة يصعب على الأب تغييرها، هذه الطباع ربما اختلفت كثيراً عن طباعه قبل غيابه عن أسرته.
4- غالباً ما يعاني الأب حرمانه العاطفي من أسرته في الغربة، وعندما تطول الفترة فإنه يعتاد هذا الحرمان أو على الأقل لم يعد يمارس طرق التعبير العاطفي مع أسرته وبالتالي قد يتحول مع الزمن إلى إنسان جاف العبارات معهم.
لقد عبَّرت زوجة عن هذا التغير بقولها : هذا ليس زوجى الذى أعرفه .إنهم بدَّلوه
5- تصور الأب عن أوضاع أسرته بالتأكيد غير كامل فهو لا يعرف الكثير عنها وربما كانت فكرته فالأم غالباً ما تعطي الأب صورة وردية غير حقيقية عن تمسك أبنائها بالقيم المبادىء التي يحب الأب أن يربي عليها أبناءه، والأبناء يظهرون أمام أبيهم في أحسن صورة في كل الفرص التي يحدث فيها اللقاء أو الاتصال ثم تعود الأمور إلى ما كانت عليه بعد عودة الافتراق.
ثالثا:ماذا تتوقع الأسرة عن عودة الأب
إذا أردنا أن نستوضح الصورة التي فيها خيال كل من الأب والأسرة عن: ماذا بعد عودة الأب؟ الذي ينتظره كل أحد وما الذي يتوقعه؟ لوجدنا الأمر يختلف من فرد إلى أخر من أفراد الأسرة.
تصور الأب وتوقعه لما بعد العودة:
أما الأب فقد ساعدت عوامل كثيرة على تشكيل تصوراته وتوقعاته؛
من هذه العوامل:
1- ضغوط الغربة والأمل في الارتياح منها.
2- الأشواق والحرمان العاطفي مع الأخذ في الاعتبار أن الحرمان من كل فرد على حدة له مراراته معاناته الخاصة، فالحرمان من الابن له مرارة... ومن الأم له مرارة أخرى... ومن الزوجة مرارة مختلفة، وبالتالي هذا الخليط من الحرمان يجعل أماني العودة لها قوتها وتأثيرها على تصوره لما بعد اللقاء، وربما يكون بعيداً عن الواقع بدرجة أو بأخرى.
3- الصورة التي تعطيها الأسرة للأب عن حياتها، وعن الحياة عامة في المجتمع الذي غاب عنه؛ لها دور في تشكيل تصوراته.
4- تجارب الآخرين له في العودة وما يسمعه من حكايتهم عندما يوافق شغف الأب بتكوين صورة لما بعد العودة يساعد على تكوين صورة معينة قريبة أو بعيدة عن الحقيقة.
5- الجديد الذي اكتسبه الأب واكتسبته الأسرة، يشارك أيضاً في تكوين صورة الأب لأوضاع الأسرة بعد عودته.
6- ثقافة الأب وأفكاره وميوله وطباعه الشخصية لاشك أنها تساعد على تصوره.
وكل ما سبق يجعل الأب كلما اقترب وقت العودة إلى أسرته تمنى وسرح بخياله فيما سيكون عليه الحال فيما بعد وكيف سيصلح ما أفسدته الغربة والابتعاد عن أبنائه... وهذا ما يجعل الأب مستعجلاً بعد العودة في التوجيه والنصح والتقويم، وربما يتوقع الأب أن توجد أمامه مشاكل كثيرة بعد عودته ولكنه يتوقع أن تقف الأسرة بجانبه وأن لا تتضجر من المشاكل في بداية حياتهم الجديدة باعتبار أن هناك مرحلة لابد منها وهى المرحلة الانتقالية بعد عودته والأسرة تتفهم ذلك
شعور الأبناء عن عودة الأب... ...
أما الأبناء فيتنازعهم شعوران؛ شعور بالشوق لعودة الأب الغائب الذي سيغدق عليهم من عاطفته التي فقدوها بغيابه، وشعور أخر بالتخوف من التضييق عليهم باعتبار أن وظيفة الأب هي وضع الأمور في نصابها وقد عاشت الأسرة فترة طويلة وبعض الأمور ليست في نصابها ولكن البعض قد استراح على هذا الحال ولا يريد له أن يتغير خصوصاً إذا كان الأب متمسكاً بالقيم المبادئ ، وقد يكون في نظر أبنائه متشدداً فسيحرمهم من كثير مما تعودوا عليه.
فضغوط غياب الأب ومشاكل بُعده عنهم تجعلهم مشتاقين لعودته بينما تعوُّدهم على بعض الأمور التي يعرفون أن الأب لا يرضى عنها تجعلهم متوجسين خيفة من عودة الضبط والحزم والحساب.
شعور الأم تجاه عودة راعي الأسرة
وأما الأم فهي كذلك مترددة الشعور فهي قد تعبت من كثرة المشاكل التي عانتها بغياب الأب وأهمها مشقة تربية الأبناء فقد كبروا وأصبح دورها غير مؤثر وشخصيتها غير رادعة، هذا بالإضافة إلى كثير من المشقات والمصاعب والمتاعب التي تمني نفسها ليل نهار بأن يعود الرجل الذي ستعيش في ظله فتستريح وتشعر بالأمان وتنزح المسؤولية عن كاهلها. أي أن عودة الأب هي الفرج بالنسبة إلى الأم وإن كان مشوباً بهاجس ضعيف هو هاجس الضبط الذي تتوقع أن تنتج عنه مشاكل لأولادها وربما لها هي أيضاً.
رابعا :عودة الأب... في الواقع
ما سبق هو ما يعني عودة الأب ولكن في الخيال والأماني والأحلام أما الحقيقة فبالتأكيد سيكون بعضها موافق لما كان في الخيال وبعضها بعيد تماماً بدرجة تختلف من إنسان لإنسان، ومن واقع لأخر؛ فعودة الأب في الحقيقة تعني عودة الدور المفقود في الأسرة بكل ما في هذا الدور من حلوجميل ومن مُرٍكذلك أي من أمور يحبها الأبناء أو يكرهونها مما يوافق هواهم وما يختلف معه أيضاً.
وكذلك يعود الأب فيعود الدور المفقود بكل ما تسمح به الأقدار أو ما تحول بين الأسرة وبينه.
* فقد يعود الأب ولكن لا يجد وقتاً يقضيه معهم كما كانوا يتمنون.
* وقد يعود فينقص دخل الأسرة لسبب أو لأخر، وبالطبع سيزيد الاستهلاك.
* وقد يعود الأب مُثقلاً بمطالب الحياة الجديد التي سيعيشها، وقد يحتاج إلى أن يبدأ من الصفر وهو في نفس الوقت مُحاصَر بمشاكل متراكمة فالكل قد ألقى مشاكله أمام الأب فور عودته منتظراً أن تقوم العصا السحرية بدورها وتحل المشاكل بدون أدنى انتظار لوقت آخر، بينما الأب يرى أمامه خطوات لابد أن يمضيها بتدرج ، والحقيقة أن هناك تراكمات كثيرة تراكمت عبر سنين وبالتالي تحتاج إلى وقت لحلها.
* كما أن الأب قد يعود فيجد المجتمع قد تغير كثيراً عما تركه عليه وهذا التغير لم يحدث فجأة وإنما بتدرج جعل تعايش الناس المعايشين له سهلاً بل ربما لم يشعروا بالتغيرات والفروق، أما هو فأمام فجوة كبيرة وفرق هائل وتغيرات بعيدة جداً عن الماضي، وكل ذلك دفعة واحد بلا تدرج؛ وهو لم يتمرن على التعامل مع هذه التغيرات كما تمرن الناس بالتدريج وإنما هو يواجه نتائج هذه التغيرات وهو مطالب من أسرته بأمرين متناقضين، فتارة يقولون له: إنك لا تعرف؛
الدنيا تغيرت فلا تتصرف وحدك فالأفضل أن ترجع إلينا قبل أن تتصرف أو تترك كل شيء على ما هو عليه؛
وتارة يطالبونه بسرعة حل المشاكل ويصدمونه بعبارتهم: "إننا كنا نتوقع أن تحل مشاكلنا بأسرع من ذلك"
"لقد خاب أملنا"
والأب لا يدري خيبة الأمل هذه ما اسبابها؟: هل هي من تقصيره أو أخطائه؟ أم أنها من الواقع حوله؟! أم من الأقدار وحدها أم من أين؟!.
إن هذه المشاعر تدفع بالأب إلى الاضطراب والارتباك وقد يسرق تفكيره أحياناً الحنين إلى مجتمعه الذي كان فيه وعاش وتكيف معه من قبل حتى ولو كان ذلك المجتمع سيئاً.
وهذه حقيقة ثابتة بالدراسات النفسية الأكاديمية التي تفترض وتدعوا إلى التدرج في عودة الغائب، وإلى فتح كل قنوات الاتصال المختلفة المتنوعة بينه وبين المجتمع قبل عودته وإزالة الحواجز قبل العودة... ومن ناحية أخرى تطالب المجتمع بمساعدته حتى يجتاز المرحلة الانتقالية دون انتكاسات نفسية أو مادية أو فكرية.
خامساً:مشاكل متوقعة بعد عودة الأب
إذا تأملنا ما سبق فيمكننا بسهولة أن نتوقع المشاكل المحتملة التي يمكن أن تواجهها الأسرة كلها بعد عودة الأب، وهذه هى المشكلات التى واجهها فعلا الآباء العائدون منهم من واجهته كلها ومنهم من واجهته بعضها
المشكلة الأولى:
اختلاف الطباع فطِباع الأب الجديدة قد تشكلت بعيداً عن أسرته، والأسرة اكتسبت طِباعاً وأوضاعاً رسخت في غيابه فيعود الأب من جديد كأنه تزوج حديثاً، يجد زوجته تستغرب بعض طباعه؛ يتكلم الكلمة يظن أنهم يعرفونه فسيدركون قصده ولكنه يُفاجأ بأنها تُحمل على محامل بعيدة، ويحزنه أنها لا تتفق مع شخصيته ولا يمكن أن يقصد هذا المعنى الذي فهموه؛ وبينما يتوقع ردود فعل معينة إذا به يفاجأ بردود فعل غريبة كأنه إنسان غريب.
يتعامل الأب على سجيته كما كان يتعامل مع رفقائه في مجتمعهم العائد منه فإذا بهذه المعاملة مستنكرة... إنهم لم يتعودوا على ذلك، وكذلك يُفاجأ الأب بتصرفات مختلفة ويستغربها...
إنها نفس مشكلة التقاء اثنين أو أكثر لا يعرفون بعضاً من قبل فتصطدم الطباع إلى أن يحدث التفاهم والتوافق بالتدريج مع الزمن.
المشكلة الثانية:
نفور الأبناء من الضوابط التي بدأ الأب يضعها ومن الحزم الذي الأب أن يتعامل به معهم؛ فالأبناء لم يتعودوا على الاستئذان منه قبل التصرف فهم ربما يستأذنون الأم وربما لا يستأذنون أصلاً؛ وهذا أمر يريحهم بينما يضايقه جداً، والأم قد اعتادت أن تمضي دون إذن، والأب يريد أن يأخذ مكانه ويمارس دوره فجأة وفور عودته،
ويرى الأب أمورا يعتبرها فوضى وتسيبا بينما هم قد اعتادوا عليها ولايجدون فيها أى غضاضة
ويريد الأب أن يغير بينما هو لم يعش معهم فترة كافية ولم يلتصق بهم ولم يشاركهم آلامهم وآمالهم وبالتالى لم يكن منهم عمليا وليس عاطفياً.
المشكلة الثالثة:
عدم خبرة الأب في التعامل مع أفراد الأسرة، فالأب لم يعش معهم وبالتالي لا يعرف تاريخ كل واحد منهم وما حدث له أثناء غيابه، وما هي المشاكل التي بينهم، ولذلك فهو يتعامل بتلقائية؛ ولكنه يُفاجأ بأن هناك مشكلة لأن معاملته هذه لا تناسب فلاناً لأن له مشكلة سابقة لم يعشها هو ولم يعرفها.
المشكلة الرابعة:
ومن ناحية أخرى يجد الأب صعوبة في تعامله مع بناته إذا كان في غيابه قد اقتصر على معاملة الرجال وانقطع عن زوجته وأخواته وغيرهن من النساء.
المشكلة الخامسة:
حزن الأب على وجود مكروهات لا يرضاها في بيته وقد تصل إلي حد المنكرات
... الأمر الذي يعكر الحياة بينه وبين الأسرة، فهو يسعى للتغيير وربما يسلك طريقة غاضبة لا يرضاها الأبناء فتنفرهم منه فيسيئون معاملته فلا يشعر بالارتياح في بيته فيؤثر ذلك على معاملته لأسرته ويفقدون حبه لهم ويجدون تناقضاً بين ما كان يبديه لهم من مشاعر الشوق وهو في غربته وبين فتور مشاعره تجاههم، وفي تصور كثير من الآباء أنه أب وبالتالي فأن الأمور تتغير بمجرد إشارته أو أمره وبغير ذلك لا تكون للأبوة قيمة ولامعنى؛
ويؤذي الأب جداً أنه قد أبدى لأبنائه ضيقه ولكنهم لم يبالوا بذلك ولم يهتموا بمشاعره وهو لا يدرك أن روح الأبوة تنمو في خط العلاقة بينه وبين أبنائه بالممارسة وبتعلقهم به وحبهم له فهو لم ينل الوقت الكافي ولا الممارسات الكافية لذلك.
وبأسلوب آخر؛ إن الحب الذي بين الأب وأسرته لم يتعمق بعد ولم تتغلغل جذوره بحيث يصبح التغيير سهلاً على نفوسهم.
المشكلة السادسة:
شعور الأب بالغربة بين أبنائه... وهذه المشكلة حصيلة لما سبق، فكثرة النزغات الشيطانية وعدم خبرة الأب في معاملته لأبنائه وإحساس الأبناء بأن حالهم لا يرضي أباهم واختلاف الطباع كل ذلك أنشأ حاجزاً بين الأب وأسرته ويفقد الأب خيط التواصل والود والعلاقة الطبيعية بين الآباء والأبناء إلا قليلاً.
المشكلة السابعة:
إحساس الأم بخيبة الأمل .. فقد كانت تبني على عودة زوجها والد أبنائها آمالاً كثيرة وتمني نفسها بأمانٍ وردية، ولكنها ترى مشاكل جديدة قد حلت عليها، وكذلك الأبناء؛ والمشكلة هنا أن هذا الإحساس يؤثر وينعكس على مزاجها العام في البيت، فهي متسخطة متضجرة لا تتحمل أدنى كلمة من زوجها ولا أبنائها الأمر الذي يفاقم المشكلة الرئيسية والأشد من ذلك على نفسها أن تشعر أن زوجها لا يقدر معاناتها في غيابه ولا تضحيتها ووقوفها معه فى محنته التى خرج منها .
المشكلة الثامنة:
مفاجأة الأب أن هناك من الأوضاع قد ظهرت له على حقيقتها وأنها ليست بالصورة التي نقلوها له؛ والمشكلة هنا أن الأب يمكن أن يشك في أمور أخرى قد أخفيت عنه وبالتالي فإن عليه أن يبحث وراء ذلك.
وإذا شعرت الأم أو الأبناء أنه يسعى للبحث عما وراء الظاهر وأنه غير واثق يزداد الأمر تعقيداً، وإذا صرح لهم بأن ما نقلوه له قد اكتشف أنه غير صحيح فإن بذلك يكون حفر حفرة كبيرة وفجوة شاسعة بينه وبينهم؛ والحقيقة أن الأمر الذي سيكتشفه الزوج لن يكون ذا قيمة إذا قارنه بالمشاكل التي ستترتب على إحساس أسرته بفقدان ثقته فيهم... إنهم بذلك لا يستطيعون تحديد ما الذي يدور في ظنون ا"لأب؟ وإلى أي حدود ذهبت ظنونه؟ وإذا كان سوء الظن من طبع الأب فسيجد الشيطان فرصاً كثيرة جداً ومجالاً واسعاً للإفساد بينه وبين أسرته.
المشكلة التاسعة:
مشكلة تضجر الأبناء من الوضع المادي الجديد للأسرة؛ لقد كانت الأم تغدق عليهم حتى ولو استدانت من أجل أن ترفه عنهم، فالترفيهات في حساب الأمهات ضروريات لا يمكن تأخيرها؛ أما الآباء فهم يقدرون معنى الدّين ويفرقون جيداً بين الضروريات والكماليات، ومن هنا يجد الأبناء فرقاً بين الحياة في ظل الأم وبين الأوضاع الجديدة التي تغيرت وتاريخ تغييرها بالتحديد هو تاريخ عودة الأب.
لقد كانت الأم تجعل مبدأها الأول والأخير هو أن لا يشعر أبناؤها بفرق بينهم وبين زملائهم إن لم يكونوا هم أحسن منهم، وأن لا يشعروا بأثر غياب أبيهم، وهى من أجل ذلك أخفت عليهم كثيراً من المشاكل، ومن الأزمات المادية التي مرت بها.
أما الأب فهو يتخذ مبادئ مختلفة تماماً، ويزيد تضجر الأبناء أنهم قد ملوا من تكرار أبيهم لمبادئه القاسية وتصريحه بها على مسامعهم.
إنه يريد لهؤلاء الأولاد أن ينشأوا رجالاً ويعتمدوا على أنفسهم ويتعودوا على تغيير أحول الدنيا.
وإنه يريد لهؤلاء البنات أن يتعودن على تحمل المسؤولية. عدا فى بيوت ازواجهن
إن لسان حاله يقول إنه مبعوث الأقدار إليهم ليصلح الحال المُعوَّج ويدربهم على التقشف؛ والحقيقة أن هذا هو شعور الأب الكامن في ضمير الأب بدرجة ظهرت على كل أفعاله وأقواله فقد صرح للأم وعاتبها أمامهم أكثر من مرة: الله يسامحك أنت التي عودتهم على الإسراف، أنت التي دللتيهم.
وربما يرد بعض الأبناء في سره: أنت الله يسامحك فنحن في ظل أمنا وقبل عودتك لم نشعر بمشكلة.
تلك هي المشاكل والحلقة القادمة... حديثنا عن التوصيات والحلول بمشيئة الله
ساحة النقاش