الآن أجلس مضطرًا أنتظر الطعام بعد أن عَصَرت قبضة  الجوع جميع أحشائى بشدة.
فجأة ظهرت صورته أمامى وهو جالسٌ على حرف سريره وقد قبض على حافة السرير بيديه الضعيفتين تماماً كما أجلس الآن بينما قدماه النحيلتان تلمسان الأرض.
كان غاضبًا لكنه منكسر انكسار المرض
اليوم عندما عادت صورته إلى ذاكرتى بعد حوالى 30 سنة من وفاته أصبحت أستطيع أن أقرأ أمورًا كثيرة كانت تتفاعل فى نفسه لكنه كان يكتمها مُكرها ولولا شراسة المرض وقسوته وهضمه لقوته وغيظه لما سكت.. رحمك الله يا أبى.
كان المرض قد فرض عليه الحبس قهرًا على سريره الحديدي  فى عنبرٍ بئيس فى المستشفى العام محرومًا من كل أنواع الطعام إلا نادرًا.كما نحن محرومون الآن في المعتقل .
فى كل يوم كان ينتظرنى وأنا ذاهبٌ إليه أحمل طعامًا أأنف منه فهو لايتعدى الثريد الخالى من الملح فقد طبخوه منزوع الملح والسمن مع قطعة لحم منزوعة الدهن والملح فلا يمكن لمثلى استساغتهاوعندما أصل إليه تكون قد بردت تماماً.
فى هذا اليوم كنت قد سَئِمتُ ذلك المشوار اليومي الطويل المُمِل المفروض علىَّ الذى يلزمنى بترتيب مواعيدي وخصوصا اللعب!الشهي. 
كل هذه الأمور ثارت فى نفسى اليوم وضغطتْ على أعصابى ضغطاً شديداً لكنها لم تفلح فى تركى لهذا الواجب خصوصًا وهو يتم تحت إلحاح الوالدة العزيزة إلا أن النفس الأمارة بالسوء نجحت فى تلكئى وتباطؤى فى الذهاب ومن ثم التأخر وبينما الأم تنادي بحرقة لتستعجلني لأقطع اللعب اذا بي أجيب: حاضر.
 ثم استمر لعلي أنهي شبعي من اللعب غير قادر على قطعه فصورة الوالد المنتظر هناك لم تمثل أمام خاطري.
عندما وصلت إليه هَمَّ أن يثور كما اعتادأن ينفجر؛ أن يتكلم بكلام كثير أستطيع الآن أن أترجمه وأفهمه
وليته فعل ....
ليته فعل وشتمنى
ولو فعل لكان ذلك أرحم من صورته الماثلة الآن أمام عينىَّ مُنكسرا كانكساري الآن من عضة الجوع مع المرض
ورغم أنه لم يتكلم إلا ثلاث كلمات إلا أن قسمات وجهه ونبرات صوته قالت كلاما كثيرًا...
قالت وعبَّرت أكثر مما تتحمله أى عبارة.
لم يزِد رحمه الله إلا أن قال غاضبا مُنكسرا: تأخرت ليه ياابنى ؟!
اللهم اغفر لى وارحمنى واعفُ عنى
لم يكن عُمْر الشباب يومها قد جرَّب المرض وذلته، ولاالجوع وقسوته، ولا قلق الانتظار ولافقدان الشهية والرغبة فى الطعام ورغم ذلك انتظاره مكرها ليتناول بعده دواءه المقرر كُرها.
لم أكن  قد جرَّبت ذلك،
مريضٌ جائعٌ محبوسٌ مُثْبَتٌ قَعيدٌ يجلس ينتظر صبيًا يحمل اليه غذاءه ودواءه لكنه يتلكأ تلكؤ العساكر وهو يحملون التعيين للمعتقلين المنتظرين في زنازينهم !
اليوم راجعت صورتى التى كانت يومها.. مظلوماً مُكلفا بمشوار طويل
 رأيتنى .. صبياً يتلكأ ينتظره مريضٌ جائعٌ حَبيس مُقعد
اللهم ارحمه ووفقني لبره بعد رحيله
 

 

كان الطريق طويلا وهو الطريق الذى كنت أقطعه يوميا لمدرستى الكائنة بجوار المستشفى.

فى الوقت  الذى كان البركان يمور فى نفسى تضجُرًا من هذا المشوار كان هو هناك فى الانتظار تحت سياط الجوع التى لم أكن أعلم قسوتها إلا هذه الأيام فى هذه المجاعة خلف الأسوار.


لم تكن اهتمامات الشباب تمنح الشاب فرصة ليهتم بأحد سوى نفسه فهو وحده الذى يستحق الاهتمام كله من كل مَن حوله والكل يجب أن يقف ليهتم به وحده.. الناس والأرض والكون والأقدار كلها يجب أن تكون خادمة لطموحه وآماله وحده

اليوم ..أجل اليوم فقط بعد ثلاثين سنة وبعد أن جربت نفسى الجوع والمرض وذل الانتظار وثوران النفس على من يتأخر بالقوت.                                       اليوم عادت إلى ذاكرتى صورته:
<!--

اليوم رأيت الحقيقة  تحت أشعة التجربة القاسية
<!--

سالت دموعي وأنا أقول في نفسي : كنت أحسب أني قد بررته قبل موته بدليل حبه الشديد وتدليله لي .


التحميلات المرفقة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 286 مشاهدة

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

291,544