علي الديناري

موقع دعوي يشمل نسمات من القرأن وشروح بعض الأحاديث ومدرسة الدعوةأسرة المسلمة والفكر والقضايا المعاصرة

authentication required


- إن أرواحنا حين توقن بفراق هذه الأرواح المؤمنة التي خلقت معها من فلقة واحدة فتعارفت فائتلفت وارتبطت بها بأقوى رباط  تصبح جريحة تنزف في حالة يرثى لها.. وتحتاج حينئذ إلى شفاء من القرآن ومن السنة ولابد (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) فأين وماذا نجد عن حالتنا هذه في كتاب ربنا؟

- كان موعدي مع سورة الحج وكانت عادتي معها أن أستقى منها لمواضع معينة في أرضى لا يرويها إلا هي.. فإذا فارقتها بدأ الظمأ من جديد حتى أعود إليها.. لكنها هذه المرة روتني رواء جديدا لم أطلبه منها من قبل؛وعلى غير انتظار فوجئت بهذه الآية وكأني لم أقرأها من قبل:

- (وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ).. إن هذه الآية تنزل بردا وسلاما على قلوبنا حين نعود فنتذكر:

 

لماذا فارق إخواننا ديارهم؟

 

وتطمئن قلوبنا حين نتذكر أنهم ما خرجوا في سبيل الشيطان ولا في سبيل الدنيا والهوى وإنما في سبيل الله.. لقد خرجوا مخرجا تكرهه النفوس لمفارقة الديار والأوطان والأهل والخلان ولكنه مخرج يرضاه الله تعالى فعوضهم الله من جنس العمل مدخلا يرضونه.

 

- وأحسب أن إخواننا الذين سافروا هنا وهناك إنما خرجوا من ديارهم وأهليهم بحثا عن مرضاة الله أين تكون؛ فلعل الله تعالى قد أراد أن يبلغهم مرضاته وأن يرضيهم بهذه الوفاة وهم في سبيل الله، وفى ديار الغربة لينالوا هذه المنزلة التي ضحوا من أجلها وطلبوها في مظانها.

 

- ولنعش الآن مع تفسير هذه الآيات وأخواتها فإن فيه المزيد من المواساة والعلم:

 

يقول ابن كثير في هذه الآية: "يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده, وترك الأوطان والآهلين والخلان, وفارق بلاده في الله ورسوله, ونصرة لدين الله ثم قتلوا, أي في الجهاد, أو ماتوا أي حتف أنفهم أي من غير قتال على فرشهم, فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل, (ليرزقنهم الله رزقاً حسنا ً) أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم (وإن الله لهو خير الرازقين) (ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم) أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك (حليم) أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب, ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه".

 

- ولا يقتصر هذا الفضل والإكرام على المهاجرين وحدهم بل ذلك لكل من توفى في سبيل الله مهاجرا أو غير مهاجر يقول ابن كثير: "وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر, فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه".

 

- ثم نقل حديثا ًعن ابن أبي حاتم بسنده إلى شرحبيل بن السمط قال: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم, فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه, فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر, وأجرى عليه الرزق, وأمن من الفتانين, واقرؤوا إن شئتم "والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم".

 

ونقل عنه أيضا أن فضالة بن عبيد كان مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق, والآخر توفي, فجلس عند قبر المتوفى فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده ؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت؛ إن الله يقول: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً) الآيتين..

 

فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه, ورزقت رزقاً حسناً؟!).

 

- هذا بعض ما أورده ابن كثير أما صاحب الظلال فكعادته ينقلنا إلى ظلال الآيات ومعانيها الرحبة الواسعة فيقول رحمه الله : والهجرة في سبيل الله تجرد من كل ما تهفو له النفس, ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه: الأهل والديار والوطن والذكريات, والمال وسائر أعراض الحياة.. وإيثار العقيدة على هذا كله ابتغاء رضوان الله, وتطلعا إلى ما عنده وهو خير مما في الأرض جميعا ً.

 

- والهجرة كانت قبل فتح مكة وقيام الدولة الإسلامية.. أما بعد الفتح فلم تعد هجرة.. ولكن جهاد وعمل - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن جاهد في سبيل الله وعمل كان له حكم الهجرة.. وكان له ثوابها.

 

- (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا).. سواء لاقوا الله شهداء بالقتل, أو لاقوه على فراشهم بالموت.. فلقد خرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيله مستعدين لكل مصير, واستروحوا الشهادة في هجرتهم عن أي طريق , وضحوا بكل عرض الحياة وتجردوا بهذا لله. فتكفل الله لهم بالعوض الكريم عما فقدوه:

 

- (ليرزقنهم الله رزقا حسنا ً, وإن الله لهو خير الرازقين).. وهو رزق أكرم وأجزل من كل ما تركوا: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) فقد خرجوا مخرجا يرضي الله , فتعهد لهم الله بأن يدخلهم مدخلا يرضونه.. وإنه لمظهر لتكريم الله لهم بأن  يحقق لهم ما يرضونه, وهم عباده , وهو خالقهم سبحانه.. (وإن الله لعليم حليم).. عليم بما وقع عليهم من ظلم وأذى , وبما يرضي نفوسهم ويعوضها.. حليم يمهل.. ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى".

 

- وهذه المعاني العظيمة التي تغير مفاهيم الناس عن الموت في الغربة لم تأت وحدها في القرآن بل أراد الله تعالى أن يؤكدها بأختها في سورة النساء (ومن يهاجر في سبيل الله  يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة*ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله  ثم يدركه الموت  فقد وقع أجره على الله*وكان الله غفورا رحيما).

 

- قال ابن كثير: أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر, كما ثبت في الصحيحين: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها, أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

 

وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال.. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الآخر أدركه الموت في أثناء الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقال, فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها,  فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها  فقبضته ملائكة الرحمة.

 

- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله) الآية.

 

ونقل عن الإمام أحمد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله,  فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله, أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله) الحديث, يعني بحتف أنفه على فراشه

 

- أما الأستاذ سيد قطب رحمه الله فهو يقول في ظلال هذه الآيات: (ومن يهاجر في سبيل الله  يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة*ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله  ثم يدركه الموت  فقد وقع أجره على الله* وكان الله غفورا رحيما).

 

- إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة  في وضوح وفصاحة ; فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ; ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى.

 

- فهو أولا يحدد الهجرة بأنها (في سبيل الله).. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام . فليست هجرة للثراء , أو هجرة للنجاة من المتاعب, أو هجرة للذائد والشهوات , أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة.. ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل الله - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض , ولا يعدم الحيلة والوسيلة.. للنجاة وللرزق والحياة:

 

(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة).. وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها ; يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق, مرهونة بأرض ومقيدة بظروف, ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا .

 

- وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة ; هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم, وتسكت على الفتنة في الدين ; ثم تتعرض لذلك المصير البائس مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.. والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله.. يحييه ويرزقه وينجيه.

 

- ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله.. والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة ; إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم.. وسواء أقام أم هاجر , فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر .

 

- غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة.. والمنهج يراعي هذا ويعالجه.. فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله:

 

( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله  ثم يدركه الموت  فقد وقع أجره على الله ) أجره كله.. فماذا بعد ضمان الله من ضمان ?

 

- ومع ضمانة الأجر المغفرة للذنوب والرحمة في الحساب.. وهذا فوق الصفقة الأولى.. (وكان الله غفورا رحيمًا).. إنها صفقة رابحة دون شك.. يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى).

 

وهكذا ينساب كلام الرحمن تبارك وتعالى على قلوبنا فيزيح كل الهموم التي تراكمت مع هول الصدمة فالأجل والموت لا علاقة له بالسفر والإقامة (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) بناها لكم أحباؤكم ليحفظوكم فيها بعدما منعوكم من الانتقال بعيدا عنهم هنا أو هناك

 

- وأما العناء الذي نتصورهم وهم قد كانوا فيه فنرجو أن يكون قد زال وهم في وعد الله تعالى (ليرزقنهم الله رزقا حسنا).

 

وإن تصورنا أنهم قد خرجوا كارهين فهاهم قد دخلوا راضين (مدخلا يرضونه) وإن الذي نكرهه نحن لهم لهو الذي طلبوه هم وخرجوا له وضحوا من أجله ويرضى الله عن عبد الله بن رواحة فقد علم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما خرجوا إلا راغبين في الشهادة في سبيل الله فذكرهم بذلك في ساحة القتال وفى ساعة الإحجام أو الإقدام فقال (أيها الناس إن الذي تكرهون لهو الذي خرجتم إليه تطلبون).

 

- أما الفراق وناره فتطفئه الآيات في نفوسنا دون أن نشعر وتحوله إلى شوق لنفس المصير حتى نلتقي.. فالطريق إلى لقاهم مفتوح فالحديث عن الآخرة يجعلنا نشعر أن اللقاء قريب فالدنيا قصيرة مهما طالت والدنيا موصولة بالآخرة ونحن هنا في الدنيا نعيش من أجل مهمة سنؤديها كما أدوا (في سبيل الله) ورسالة نبلغها ثم نمضى إلى لقاء الله ومقابلة كل الذين سبقونا إلى هناك بإذن الله (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزوجهم وذرياتهم).

 

- وهكذا تغير حالنا أو ينبغي فقد دخلنا إلى هذه الآيات ونحن مشفقون على إخواننا مشفقون من مصيرهم هناك في الغربة وماذا جرى في ظروف وفاتهم يا ترى؟ فتجاوزت الآيات قضية ماضيهم وما كان إلى الأهم وهو مستقبلهم وما سيكون  فما تركتنا إلا ونحن نغبطهم على مصيرهم ونتمنى أن يرفعنا ألله إلى منزلتهم فلا مكان إذن لوسوسة شيطانية من قبيل (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) فهذه ليست من أقوال المؤمنين وإنما من أقوال غيرهم (ليجعل ذلك حسرة في قلوبهم) لأن تلك الآيات  التي تأملناها وعشناها تعيد للقلوب صفاءها فتتذكر (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله خير مما يجمعون*ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)

 

- إن الله تعالى يتكلم عن أناس هم له ،وهو لهم، وهم منه، وهو وليهم، فمن كان منهم وعلى شاكلتهم فإنه يغبطهم لأن غايته هي غايتهم غير أنهم قد وصلوا؛ ومن لم يكن منهم فماله ومالهم؟ وما دخله بهذه الولاية بين عبد أفنى نفسه راضيا محبا في سبيل معبود ه وبين رب عليم حليم رزقه خير رزق وأدخله مدخلا يرضاه؟

 

وهل يبتغى مؤمن غير رضاه !!

 

- وأخيرا فإني أحتسب بهذا المقال أن يثبتني الله به حين تزيغ القلوب وأن يسددني به حين تزل الألسنة والأقدام آمين اللهم إنا نتوسل إليك بحبنا لعبادك الصالحين أن تحشرنا معهم آمين.

 

  
 
 
لعلنا جميعا تأثرنا بما كتبه أستاذنا وشيخنا الشيخ أسامة حافظ عن أخته التي لاقت ربها في بلاد الغربة.. ولعل هذا الخبر قد أعاد إلى ذاكرتنا أسماء أحبة لنا خرجوا أو أخرجوا من ديارهم وأهليهم وكنا في انتظار لقياهم يوما ما.. لكننا لاقينا أخبار رحيلهم من دنيانا وساعتها تذكرنا أنهم رحلوا من الدنيا دون أن ينالوا منها ما نال غيرهم.. ويزيد حزننا كلما تذكرنا ما كانوا فيه من العناء وكأنهم مازالوا يعيشون في دنيا البلاء!!
 
- إن أرواحنا حين توقن بفراق هذه الأرواح المؤمنة التي خلقت معها من فلقة واحدة فتعارفت فائتلفت وارتبطت بها بأقوى رباط  تصبح جريحة تنزف في حالة يرثى لها.. وتحتاج حينئذ إلى شفاء من القرآن ومن السنة ولابد (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) فأين وماذا نجد عن حالتنا هذه في كتاب ربنا؟
 
بينما أنا متأثر حزين بما قرأته في المقال إذ أذن المؤذن (الله أكبر، ألله أكبر).. الله أكبر من الأحزان فيجلوها.. (حي على الصلاة حي على الفلاح) فدخلت في صلاتي وقرأت قراءتي فإذا هي كعهدي بها تشخص ما بي ثم تداويني.
 
- كان موعدي مع سورة الحج وكانت عادتي معها أن أستقى منها لمواضع معينة في أرضى لا يرويها إلا هي.. فإذا فارقتها بدأ الظمأ من جديد حتى أعود إليها.. لكنها هذه المرة روتني رواء جديدا لم أطلبه منها من قبل؛وعلى غير انتظار فوجئت بهذه الآية وكأني لم أقرأها من قبل:
 
- (وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُوَاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنّهُمُ اللّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ).. إن هذه الآية تنزل بردا وسلاما على قلوبنا حين نعود فنتذكر:
 
لماذا فارق إخواننا ديارهم؟
 
وتطمئن قلوبنا حين نتذكر أنهم ما خرجوا في سبيل الشيطان ولا في سبيل الدنيا والهوى وإنما في سبيل الله.. لقد خرجوا مخرجا تكرهه النفوس لمفارقة الديار والأوطان والأهل والخلان ولكنه مخرج يرضاه الله تعالى فعوضهم الله من جنس العمل مدخلا يرضونه.
 
- وأحسب أن إخواننا الذين سافروا هنا وهناك إنما خرجوا من ديارهم وأهليهم بحثا عن مرضاة الله أين تكون؛ فلعل الله تعالى قد أراد أن يبلغهم مرضاته وأن يرضيهم بهذه الوفاة وهم في سبيل الله، وفى ديار الغربة لينالوا هذه المنزلة التي ضحوا من أجلها وطلبوها في مظانها.
 
- ولنعش الآن مع تفسير هذه الآيات وأخواتها فإن فيه المزيد من المواساة والعلم:
 
يقول ابن كثير في هذه الآية: "يخبر تعالى عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلباً لما عنده, وترك الأوطان والآهلين والخلان, وفارق بلاده في الله ورسوله, ونصرة لدين الله ثم قتلوا, أي في الجهاد, أو ماتوا أي حتف أنفهم أي من غير قتال على فرشهم, فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل, (ليرزقنهم الله رزقاً حسنا ً) أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم (وإن الله لهو خير الرازقين) (ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم) أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله وبمن يستحق ذلك (حليم) أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب, ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم عليه".
 
- ولا يقتصر هذا الفضل والإكرام على المهاجرين وحدهم بل ذلك لكل من توفى في سبيل الله مهاجرا أو غير مهاجر يقول ابن كثير: "وأما من توفي في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر, فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه وعظيم إحسان الله إليه".
 
- ثم نقل حديثا ًعن ابن أبي حاتم بسنده إلى شرحبيل بن السمط قال: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم, فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه, فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر, وأجرى عليه الرزق, وأمن من الفتانين, واقرؤوا إن شئتم "والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم".
 
ونقل عنه أيضا أن فضالة بن عبيد كان مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق, والآخر توفي, فجلس عند قبر المتوفى فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده ؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت؛ إن الله يقول: (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً) الآيتين..
 
فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه, ورزقت رزقاً حسناً؟!).
 
- هذا بعض ما أورده ابن كثير أما صاحب الظلال فكعادته ينقلنا إلى ظلال الآيات ومعانيها الرحبة الواسعة فيقول رحمه الله : والهجرة في سبيل الله تجرد من كل ما تهفو له النفس, ومن كل ما تعتز به وتحرص عليه: الأهل والديار والوطن والذكريات, والمال وسائر أعراض الحياة.. وإيثار العقيدة على هذا كله ابتغاء رضوان الله, وتطلعا إلى ما عنده وهو خير مما في الأرض جميعا ً.
 
- والهجرة كانت قبل فتح مكة وقيام الدولة الإسلامية.. أما بعد الفتح فلم تعد هجرة.. ولكن جهاد وعمل - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن جاهد في سبيل الله وعمل كان له حكم الهجرة.. وكان له ثوابها.
 
- (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا).. سواء لاقوا الله شهداء بالقتل, أو لاقوه على فراشهم بالموت.. فلقد خرجوا من ديارهم وأموالهم في سبيله مستعدين لكل مصير, واستروحوا الشهادة في هجرتهم عن أي طريق , وضحوا بكل عرض الحياة وتجردوا بهذا لله. فتكفل الله لهم بالعوض الكريم عما فقدوه:
 
- (ليرزقنهم الله رزقا حسنا ً, وإن الله لهو خير الرازقين).. وهو رزق أكرم وأجزل من كل ما تركوا: (ليدخلنهم مدخلا يرضونه) فقد خرجوا مخرجا يرضي الله , فتعهد لهم الله بأن يدخلهم مدخلا يرضونه.. وإنه لمظهر لتكريم الله لهم بأن  يحقق لهم ما يرضونه, وهم عباده , وهو خالقهم سبحانه.. (وإن الله لعليم حليم).. عليم بما وقع عليهم من ظلم وأذى , وبما يرضي نفوسهم ويعوضها.. حليم يمهل.. ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى".
 
- وهذه المعاني العظيمة التي تغير مفاهيم الناس عن الموت في الغربة لم تأت وحدها في القرآن بل أراد الله تعالى أن يؤكدها بأختها في سورة النساء (ومن يهاجر في سبيل الله  يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة*ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله  ثم يدركه الموت  فقد وقع أجره على الله*وكان الله غفورا رحيما).
 
- قال ابن كثير: أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر, كما ثبت في الصحيحين: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها, أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
 
وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال.. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً, فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الآخر أدركه الموت في أثناء الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقال, فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها,  فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها  فقبضته ملائكة الرحمة.
 
- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما, قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنزلت (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله) الآية.
 
ونقل عن الإمام أحمد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله,  فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله, أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله) الحديث, يعني بحتف أنفه على فراشه
 
- أما الأستاذ سيد قطب رحمه الله فهو يقول في ظلال هذه الآيات: (ومن يهاجر في سبيل الله  يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة*ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله  ثم يدركه الموت  فقد وقع أجره على الله* وكان الله غفورا رحيما).
 
- إن المنهج الرباني القرآني يعالج في هذه الآية مخاوف النفس المتنوعة  في وضوح وفصاحة ; فلا يكتم عنها شيئا من المخاوف ; ولا يداري عنها شيئا من الأخطار - بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى.
 
- فهو أولا يحدد الهجرة بأنها (في سبيل الله).. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام . فليست هجرة للثراء , أو هجرة للنجاة من المتاعب, أو هجرة للذائد والشهوات , أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة.. ومن يهاجر هذه الهجرة - في سبيل الله - يجد في الأرض فسحة ومنطلقا فلا تضيق به الأرض , ولا يعدم الحيلة والوسيلة.. للنجاة وللرزق والحياة:
 
(ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة).. وإنما هو ضعف النفس وحرصها وشحها ; يخيل إليها أن وسائل الحياة والرزق, مرهونة بأرض ومقيدة بظروف, ومرتبطة بملابسات لو فارقتها لم تجد للحياة سبيلا .
 
- وهذا التصور الكاذب لحقيقة أسباب الرزق وأسباب الحياة والنجاة ; هو الذي يجعل النفوس تقبل الذل والضيم, وتسكت على الفتنة في الدين ; ثم تتعرض لذلك المصير البائس مصير الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم.. والله يقرر الحقيقة الموعودة لمن يهاجر في سبيل الله.. يحييه ويرزقه وينجيه.
 
- ولكن الأجل قد يوافي في أثناء الرحلة والهجرة في سبيل الله.. والموت - كما تقدم في سياق السورة - لا علاقة له بالأسباب الظاهرة ; إنما هو حتم محتوم عندما يحين الأجل المرسوم.. وسواء أقام أم هاجر , فإن الأجل لا يستقدم ولا يستأخر .
 
- غير أن النفس البشرية لها تصوراتها ولها تأثراتها بالملابسات الظاهرة.. والمنهج يراعي هذا ويعالجه.. فيعطي ضمانة الله بوقوع الأجر على الله منذ الخطوة الأولى من البيت في الهجرة إلى الله ورسوله:
 
( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله  ثم يدركه الموت  فقد وقع أجره على الله ) أجره كله.. فماذا بعد ضمان الله من ضمان ?
 
- ومع ضمانة الأجر المغفرة للذنوب والرحمة في الحساب.. وهذا فوق الصفقة الأولى.. (وكان الله غفورا رحيمًا).. إنها صفقة رابحة دون شك.. يقبض فيها المهاجر الثمن كله منذ الخطوة الأولى).
 
وهكذا ينساب كلام الرحمن تبارك وتعالى على قلوبنا فيزيح كل الهموم التي تراكمت مع هول الصدمة فالأجل والموت لا علاقة له بالسفر والإقامة (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) بناها لكم أحباؤكم ليحفظوكم فيها بعدما منعوكم من الانتقال بعيدا عنهم هنا أو هناك
 
- وأما العناء الذي نتصورهم وهم قد كانوا فيه فنرجو أن يكون قد زال وهم في وعد الله تعالى (ليرزقنهم الله رزقا حسنا).
 
وإن تصورنا أنهم قد خرجوا كارهين فهاهم قد دخلوا راضين (مدخلا يرضونه) وإن الذي نكرهه نحن لهم لهو الذي طلبوه هم وخرجوا له وضحوا من أجله ويرضى الله عن عبد الله بن رواحة فقد علم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما خرجوا إلا راغبين في الشهادة في سبيل الله فذكرهم بذلك في ساحة القتال وفى ساعة الإحجام أو الإقدام فقال (أيها الناس إن الذي تكرهون لهو الذي خرجتم إليه تطلبون).
 
- أما الفراق وناره فتطفئه الآيات في نفوسنا دون أن نشعر وتحوله إلى شوق لنفس المصير حتى نلتقي.. فالطريق إلى لقاهم مفتوح فالحديث عن الآخرة يجعلنا نشعر أن اللقاء قريب فالدنيا قصيرة مهما طالت والدنيا موصولة بالآخرة ونحن هنا في الدنيا نعيش من أجل مهمة سنؤديها كما أدوا (في سبيل الله) ورسالة نبلغها ثم نمضى إلى لقاء الله ومقابلة كل الذين سبقونا إلى هناك بإذن الله (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزوجهم وذرياتهم).
 
- وهكذا تغير حالنا أو ينبغي فقد دخلنا إلى هذه الآيات ونحن مشفقون على إخواننا مشفقون من مصيرهم هناك في الغربة وماذا جرى في ظروف وفاتهم يا ترى؟ فتجاوزت الآيات قضية ماضيهم وما كان إلى الأهم وهو مستقبلهم وما سيكون  فما تركتنا إلا ونحن نغبطهم على مصيرهم ونتمنى أن يرفعنا ألله إلى منزلتهم فلا مكان إذن لوسوسة شيطانية من قبيل (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) فهذه ليست من أقوال المؤمنين وإنما من أقوال غيرهم (ليجعل ذلك حسرة في قلوبهم) لأن تلك الآيات  التي تأملناها وعشناها تعيد للقلوب صفاءها فتتذكر (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله خير مما يجمعون*ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون)
 
- إن الله تعالى يتكلم عن أناس هم له ،وهو لهم، وهم منه، وهو وليهم، فمن كان منهم وعلى شاكلتهم فإنه يغبطهم لأن غايته هي غايتهم غير أنهم قد وصلوا؛ ومن لم يكن منهم فماله ومالهم؟ وما دخله بهذه الولاية بين عبد أفنى نفسه راضيا محبا في سبيل معبود ه وبين رب عليم حليم رزقه خير رزق وأدخله مدخلا يرضاه؟
 
وهل يبتغى مؤمن غير رضاه !!
 
- وأخيرا فإني أحتسب بهذا المقال أن يثبتني الله به حين تزيغ القلوب وأن يسددني به حين تزل الألسنة والأقدام آمين اللهم إنا نتوسل إليك بحبنا لعبادك الصالحين أن تحشرنا معهم آمين.
 

 

ساحة النقاش

على الدينارى

denary
موقع خاص بالدعوة الى الله على منهج أهل السنة والجماعة يشمل الدعوة والرسائل الإيمانية والأسرة المسلمة وحياة القلوب »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

345,934