.
خرج الإمام أحمد بإسناده عن رجل من باهلة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة مرة فقال: " من أنت؟ " قلت: أما تعرفني؟ قال: "ومن أنت؟ " قلت: أنا الباهلي الذي أتيتك عام أول فقال: " إنك أتيتني وجسمك ولونك وهيئتك حسنة فما بلغ بك وما أرى"؟ قلت: والله ما أفطرت بعدك إلا ليلا قال: "من أمرك أن تعذب نفسك من أمرك أن تعذب نفسك"؟ ـ ثلاث مرات ـ "صم شهر الصبر" قلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني قال: "صم يوما من الشهر" قلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني قال: "فيومين من الشهر" قلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني قال: "ثلاثة أيام من الشهر" قال: ألح عند الرابعة فما كاد فقلت: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني قال: " فمن الحرم وأفطر" وخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بمعناه وفي ألفاظهم زيادة ونقص وفي بعض الروايات: "صم الحرم وأفطر".
في هذا الحديث دليل على أن من تكلف من العبادة ما يشق عليه حتى تأذى ذلك جسده فإنه غير مأمور بذلك ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم له: "من أمرك أن تعذب نفسك" وأعادها عليه ثلاث مرار وهذا كما قاله لمن رآه يمشي في الحج وقد أجهد نفسه: "إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه فمروه فليركب".
وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص حيث كان يصوم النهار ويقوم الليل ويختم القرآن في كل ليلة ولا ينام مع أهله فأمره: أن يصوم ويفطر ويقرأ القرآن في كل سبع وقال له "إن لنفسك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فآت كل ذي حق حقه" ولما بلغه عن بعض الصحابة أنه قال: أنا أصوم ولا أفطر وقال آخر منهم: أنا أقوم ولا أنام وقال آخر منهم: لا أتزوج النساء فخطب وقال: "ما بال رجال يقولون: كذا وكذا: لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وسبب هذا: أن الله تعالى خلق ابن آدم محتاجا إلى ما يقوم به بدنه من مأكل ومشرب ومنكح وملبس وأباح له من ذلك كله ما هو طيب حلال تقوى به النفس ويصح به الجسد ويتعاونان على طاعة الله عز وجل وحرم من ذلك ما هو ضار خبيث يوجب للنفس طغيانها وعماها وقسوتها وغفلتها وأشرها وبطرها
ـ فمن أطاع نفسه في تناول ما تشتهيه مما حرمه الله عليه فقد تعدى وطغى وظلم نفسه
ـ ومن منعها حقها من المباح حتى تضررت بذلك فقد ظلمها ومنعها حقها فإن كان ذلك سببا لضعفها وعجزها عن أداء شيء من فرائض الله عليه وحقوق الله عز وجل أو حقوق عباده كان بذلك عاصيا وأن كان ذلك سببا للعجز عن نوافل هي أفضل مما فعله كان بذلك مفرطا مغبونا خاسرا.
وقد كان رجل في زمن التابعين يصوم ويواصل حتى يعجز عن القيام فكان يصلي الفرض جالسا فأنكروا ذلك عليه حتى قال عمرو بن ميمون: لو أدرك هذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه وكان ابن مسعود يقل الصيام ويقول: إنه يضعفني عن قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي.
فمن تكلف من التطوع ما يتضرر به في جسمه كما فعل هذا الباهلي أو يمنع به حقا واجبا عليه كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره ممن عزم على ترك المباحات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ينهى عن ذلك ومن احتمل بدنه ذلك ولم يمنعه من حق واجب عليه لم ينه عن ذلك
إلا أن يمنعه عما هو أفضل من ذلك من النوافل فإنه يرشد إلى عمل الأفضل وأحوال الناس تختلف فيما تحمل أبدانهم من العمل.
كان سفيان الثوري يصوم ثلاثة أيام من الشهر فيرى أثر ذلك عليه وكان غيره في زمنه يصوم الدهر فلا يظهر عليه أثره وكان كثير من المتقدمين يحملون على أنفسهم من الأعمال ما يضر بأجسادهم ويحتسبون أجر ذلك عند الله وهؤلاء قوم أهل صدق وجد واجتهاد فيحثون على ذلك ولكن لا يقتدى بهم وإنما يقتدى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خير الهدي هديه ومن أطاعه فقد اهتدى ومن اقتدى به وسلك وراءه وصل إلى الله عز وجل.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التعسير ويأمر بالتيسير ودينه الذي بعث به يسر وكان يقول: "خير دينكم أيسره"
ورأى رجلا يكثر الصلاة فقال: "إنكم أمة أريد بكم اليسر" ولم يكن أكثر تطوع النبي صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه بكثرة الصوم والصلاة بل ببر القلوب وطهارتها وسلامتها وقوة تعلقها بالله خشية له ومحبة وإجلالا وتعظيما ورغبة فيما عنده وزهدا فيما يفنى
وفي المسند عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني أعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا"
قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيرا منكم
قالوا: ولم؟
قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا وأرغب في الآخرة
وقال بكر المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره قال بعض العلماء المتقدمين: الذي وقر في صدره هو حب الله والنصيحة لخلقه
وسئلت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز بعد وفاته عن عمله؟
فقالت: والله ما كان بأكثر الناس صلاة ولا بأكثرهم صياما ولكن والله ما رأيت أحدا أخوف لله من عمر لقد كان يذكر الله في فراشه فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم.
ولهذا المعنى كان فضل العلم النافع الدال على معرفة الله وخشيته ومحبته ومحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه.لا سيما عند غلبة الجهل والتعبد به أفضل من التطوع بأعمال الجوارح قال ابن مسعود رضي الله عنه: أنتم في زمان العمل فيه أفضل من العلم وسيأتي زمان العلم فيه أفضل من العمل
وقال مطرف: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع وخرجه الحاكم وغيره مرفوعا
ونص كثير من الأئمة على: أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وكذلك الإشتغال بتطهير القلوب أفضل من الإستكثار من الصوم والصلاة مع غش القلوب ودغلها ومثل من يستكثر من الصوم والصلاة مع دغل القلب وغشه كمثل من بذر بذرا في أرض دغلة كثيرة الشوك فلا يزكو ما ينبت فيها من الزرع بل يمحقه دغل الأرض ويفسده فإذا نظفت الأرض من دغلها زكى ما ينبت فيها ونما
قال يحيى بن معاذ: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم هذا استغفر وقلبه فاجر وهذا سكت وقلبه ذاكر وقال غيره: ليس الشأن فيمن يقوم الليل إنما الشأن فيمن ينام على فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب من سار على طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهاجه وإن اقتصد فإنه يسبق من سار على غير طريقه وإن اجتهد.
من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدا وتجيء في الأول
والمقصود أن هذا الباهلي لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنهكه الصوم وغير هيئته وأضر به في جسده أمره: أولا: أن يقتصر على صيام شهر الصبر وهو شهر رمضان فإنه الشهر الذي افترض الله صيامه على المسلمين واكتفى منهم بصيامه من السنة كلها وصيامه كفارة لما بين الرمضانين إذا اجتنبت الكبائر فطلب منه الباهلي أن يزيده من الصيام ويأمره بالتطوع وأخبره أنه يجد قوة على الصيام
فقال له: "صم يوما من الشهر"
فاستزاده وقال: إني أجد قوة
فقال: "صم يومين من الشهر"
فاستزاده وقال: إني أجد قوة
فقال "صم ثلاثة أيام من الشهر"
قال: وألح عند الثالثة فما كاد يعني ما كاد يزيده على الثلاثة أيام من الشهر وهكذا قال لعبد الله بن عمرو بن العاص أيضا ففي صحيح مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صم يوما من الشهر ولك أجر ما بقي"
قال: إني أطيق أكثر من ذلك
قال: "صم يومين ولك أجر ما بقي"
قال: إني أطيق أكثر من ذلك
قال: "صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي"
ففي هذا: أن صيام ثلاثة أيام من الشهر يحصل به أجر صيام الشهر كله وكذلك صيام يومين منه ووجه ذلك أن الصيام يضاعف ما لا يضاعف غيره من الأعمال
وخرج الترمذي والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام كل شهر ثلاثة أيام كان كمن صام الدهر" فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] اليوم بعشرة أيام
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر"
وفي المسند عن قرة المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وإفطاره" يعني صيامه في مضاعفة الله وإفطاره في رخصة الله.
وفيه أيضا عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر ويذهب مغلة الصدر قلت: وما مغلة الصدر؟ قال: رجس الشيطان"
وفيه أيضا عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صيام شهر الصبر وثلاثة من كل شهر يذهبن كثيرا من وحر الصدر"
وفي غير هذه الرواية: "وغر الصدر" وهما بمعنى واحد يقال: وحر صدره ووغر: إذا كان فيه غل وغش وقيل: الوحر الغل والوغر الغيظ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام ثلاثة أيام من كل شهر وكذلك كان إبراهيم عليه السلام كما خرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعا: "صيام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر صام الدهر وأفطر الدهر"
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قيل لها من أيه كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيه صام
وقد روي في صفة صيام النبي صلى الله عليه وسلم للأيام الثلاثة من الشهر أنواع أخر:
أحدها: ما خرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والإثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس وقال حديث حسن وذكر أن بعضهم رواه موقوفا يعني من قول عائشة رضي الله عنها غير مرفوع.
الثاني: ما خرجه أبو داود وغيره من حديث حفصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر الإثنين والخميس والإثنين من الجمعة الأخرى فعلى هذه الرواية كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعلها من أول الشهر ولا يوالي بينها بل كان يتحرى بها يوم الإثنين مرتين والخميس مرة.
الثالث: عكس الثاني خرجه النسائي من حديث حفصة أيضا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام أول اثنين من الشهر ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه.
وفي رواية له أيضا: أول اثنين من الشهر وخميسين وخرج أبو داود من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك وفي رواية في المسند: الإثنين والجمعة والخميس وكأنها غير محفوظة فإن كانت محفوظة فهي نوع رابع.
والنوع الخامس: ما خرجه أبو داود والنسائي والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام وحسنه الترمذي وذكر أن بعضهم لم يرفعه يعني وقفه على ابن مسعود وظاهر هذا أنه كان يوالي بين الأيام الثلاثة من أول كل شهر.
والنوع السادس: أنه كان يصوم أيام البيض فخرج النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع صيام أيام البيض في حضر ولا سفر وخرج الترمذي والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بصيام أيام البيض: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وفي السنن الأربعة خلا الترمذي عن قتادة بن ملحان عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وخرج النسائي من حديث جابر البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا.
وقد روي عن الحسن: أنه كان يصوم خمسة أيام من أول الشهر ويقول: ما يدريني لعلي لا أدرك البيض وفي كتاب مناقب الحسن لأبي حيان التوحيدي: أن رجلا سأل الحسن لأي شيء استحب صيام الأيام البيض؟ فلم يدر ما يقول فقال أعرابي عنده: لأن القمر ينكسف في لياليهن فيكون الناس عند حدوث الآيات على عبادة فقال الحسن: خذوها من غير فقيه.
وفي حديث الباهلي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إني أجد قوة وإني أحب أن تزيدني فقال له: "فمن الحرم وأفطر" وفي رواية: "صم الحرم وأفطرط وفي رواية قال: "صم الأشهر الحرم" فهذا دليل على فضل صيام الأشهر الحرم الأربعة ا ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وشهر رجب وقد كان كثير من السلف يصوم الأشهر الحرم كلها روي ذلك عن ابن عمر والحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي.
وقال سفيان الثوري: الأشهر الحرم أحب إلي أن يصام منها
وهو أيضا من أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]
وقيل: إن تحريم ذي القعدة كان في الجاهلية لأجل السير إلى الحج وسمي ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال وتحريم المحرم لرجوع الناس فيه من الحج إلى بلادهم وتحريم ذي الحجة لوقوع حجهم فيه وتحريم رجب كان للإعتمار فيه من البلاد القريبة.
ومن خصائص ذي القعدة أن عَمر النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت في ذي القعدة سوى عمرته التي قرنها بحجته مع أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بها أيضا في ذي القعدة وفعلها في ذي الحجة مع حجته
وقد روي عن طائفة من السلف منهم ابن عمر وعائشة وعطاء تفضيل عمرة ذي القعدة وشوال على رمضان لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة وفي أشهر الحج حيث يجب عليه الهدي إذا حج من عامه لأن الهدي زيادة نسك فيجتمع نسك العمرة مع نسك الهدي
يا من لا يقلع عن ارتكاب الحرام لا في شهر حلال ولا في شهر حرام يا من هو في الطاعات إلى وراء وفي المعاصي إلى قدام يا من هو في كل يوم من عمره شرا مما كان في قبله من الأيام متى تستفيق من هذا المنام متى تتوب من هذا الإجرام يا من أنذره الشيب بالموت وهو مقيم على الآثام أما كفاك واعظ الشيب مع واعظ القرآن والإسلام الموت خير لك من الحياة على هذه الحال والسلام.
يا غاديا في غفلة ورائحا ... إلى متى تستحسن القبائحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفا ... يستنطق الله به الجوارحا
ساحة النقاش