لعلاقات الاقتصادية بين العالم الإسلامي والغرب.. "2"
بقلم :د.خالد عزب - [email protected]
16/12/2010
ويكفي أن نتتبع انتصارات الدينار الإسلامي كوسيلة للتعامل في تداوله عبر العالم في العصور الوسطي. وقد كشفت بعض الحفريات الحديثة في مناطق كثيرة عن وجود كميات هائلة من العملات الإسلامية في روسيا وفنلندا والبلاد الاسكندنافية والبلقان. بل هناك أمثلة متفرقة وجدت في مناطق بعيدة مثل بريطانيا وايسلندا وكانت غالبية العملة تحمل تاريخاً يقع في الفترة ما بين نهاية القرن السابع إلي القرن الحادي عشر الميلادي. مما يدل علي نفوذ المسلمين الاقتصادي في هذه الفترة.
لقد بلغ الازدهار الاقتصادي للعالم الإسلامي ذروته. حيث نتج عن حركة التجارة الدولية التي قادها المسلمون ثراء واضح لم يكن يخطر علي العقل لكل من التاجر والدولة. ففي القرن العاشر الميلادي سجل المؤرخون أرقاماً خيالية تمثل الثروة والتقدم في بلاد الخلافة شرقها وغربها. فقد قدر دخل التجارة في مدن حلب ودمشق وبيت المقدس في سوريا في عام 908م. بما يقرب من 000.000.2 دينار ذهب. دون أن تتأثر باتجاهات التضخم التي نعرفها في العصر الحديث. ويجب ألا ننسي القوة الشرائية العالمية للنقود في ذلك الوقت. وكلما اتجهنا غرباً وصل الثراء إلي درجة خيالية في الأندلس حيث يؤكد الرحالة ابن حوقل 976م أن الخلافة الأموية في قرطبة تحت حكم عبدالرحمن الثالث استطاعت أن تحقق دخلاً يساوي 000.000.20 دينار ذهب من تجارة الذهب السوداني الذي كانت القوافل تحمله إلي سجلماس وإلي مراكش في الفترة من 912 إلي .951
كانت العلاقات الاقتصادية مع العرب غاية في الأهمية لبيزنطة. ولم تكن أهميتها لتقتصر علي الناحية التجارية فحسب. بل كانت تعزز مكانتها الدولية كذلك بالنسبة للعرب وأوروبا. إذ كان أكثر تجارة الشرق الإسلامي ينقل قبل فترة الحروب الصليبية إلي داخل أوروبا عن طريق بيزنطة. وكانت هذه تجني دخلاً عظيماً بفضل قيامها بدور الوسيط بين الشرق والغرب. ولكن الصليبيين أقاموا علاقات تجارية مباشرة بين أوروبا والشرق. حتي أن ازدهار بيزنطة الاقتصادي تلاشي بعد ذلك بقليل. وانتهي دور السيادة الاقتصادية إلي المدن الإيطالية وعلي رأسها البندقية وجنوة.
بلاد المناصفات
فرضت الحروب الصليبية نوعاً من العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب. ففي أعقاب الغزوة الصليبية لبلاد الشام. نشأت كثير من المشكلات السياسية والاقتصادية الخاصة بالمناطق المتنازع عليها ومناطق الحدود. لذا كان من الضروري قيام تنظيم جديد يكفل حل تلك المشكلات. وهو ما اصطلح علي تسميته ب"نظام بلاد المناصفات" والحقيقة أن هذا النظام بما له من مقومات وخصائص كان سابقاً علي ماتوصلت إليه بعض الدول في عصرنا الحديث لحل مشاكل مناطق الحدود المتنازع عليها. وبمرور الوقت تطور وضع هذه البلاد. فأصبحت تخضع لإدارة إسلامية إفرنجية مشتركة. هذه الإدارة يرأسها نائبان أحدهما يمثل سلطان المسلمين والآخر يمثل الحاكم أو الأمير الأفرنجي الذي وافق علي عقد المعاهدة الخاصة بذلك النظام وكان يتم النص في المعاهدة علي ألا ينفرد أحد منهما بشئ إلا باتفاق من الجهتين.
كانت مواد المعاهدات المتعلقة ببلاد المناصفات تنص علي سلامة وأمن ممثلي كل من الطرفين. كما تهتم بتنسيق التعامل بينهم. ولحل ما قد ينشأ من مشكلات تنجم عن التعامل اليومي بين المسلمين والفرنج في بلاد المناصفات هذه. وغيرها من البلاد التي امتد إليها التعامل بين الجانبين. فقد تم وضع بعض البنود الخاصة بالمعاملات وحل ما قد ينشأ من مشكلات وخلافات حيث كان المبدأ الأساسي في هذه البنود أن تطبق الشريعة الإسلامية إن كان الشخص مسلماً. ويطبق القانون الفرنجي إن كان الشخص فرنجياً.
وفيما يتعلق بالرسوم والضرائب علي اختلاف أنواعها فقد كانت مناصفة بين السلطان والمسئول الفرنجي في بلاد المناصفات. وقد امتدت هذه الرسوم لتمثل شقي الموارد والمرافق الاقتصادية المعروفة آنذاك سواء أكانت في الأراضي الزراعية بما فيها البساتين ومصائد الأسماك والملاحات والمحاصيل الصيفية والشتوية والطواحين والثروة الحيوانية من دواب وأبقار وأغنام. وكذلك ما يفرض من رسوم علي ما يمر بالبلاد وموانيها من سلع تجارية.
وجدير بالذكر أن تجار المسلمين فضلاً عن التجار المسحيين الشرقيين قد لعبوا دوراً أساسياً في نقل السلع والبضائع المختلفة بين الطرفين وقد أشارت المصادر المعاصرة إلي قيام علاقات واسعة بين هؤلاء التجار وتجار الفرنج دون الاهتمام بالعوامل الدينية. فالرحالة ابن جبير يقول في هذا الصدد: "واختلاف المسلمين من دمشق إلي عكا كذلك. وتجار النصاري أيضاً لا يمنع أحد منهم ولا يعترض" وأضاف: "أن من أعجب ما يحدث في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج إلي بلاد الفرنج وسبيهم يدخل إلي بلاد المسلمين" كما أكد كل من ابن الأثير. وبركهارد Burchard. ولادولف Ludolf العلاقات الطيبة التي قامت بين التجار المسلمين والتجار الفرنج في المدن التي خضعت لحكم الفرنج. وأن مدناً كثيرة مثل عكا وبيروت وغيرهما كانت تزخر دائماً بالتجار المسلمين من كل مكان.
هذا بالإضافة إلي أن بعض المدن التي خضعت لحكم الفرنج كان لها شهرتها القديمة في إنتاج بعض السلع والتي لم يكن في استطاعة المسلمين الاستغناء عنها. مثال ذلك ما تذكره بعض المصادر من أن مدينة طبرية كانت تشتهر منذ القدم وطول عصر الحروب الصليبية بصناعة الحصير المسنوب إليها. والذي يقبل عليه الكثير من المسلمين في المشرق والمغرب علي السواء وبخاصة حصيرة الصلاة. والتي بلغ ثمن الواحدة منها في بعض الأحيان خمسة دنانير ذهبية.
وحصل أمراء الشرق الفرنجي علي موارد بالغة الضخامة من المتاجر التي اجتازت البلاد الخاضعة لهم. والتي قام بجلبها التجار المسلمون. إذا اشتد الطلب في أوروبا في العصور الوسطي بوجه عام. وفترة الحروب الصليبية بوجه خاصة علي المتاجر الشرقية. سواء القادمة من الشرق الأقصي أو التي تم إنتاجها في الشرق العربي.
وكثيراً ما طلب نبلاء الفرنج إلي الصاغة من أبناء بلاد الشام في المناطق التي خضعت لحكم المسلمين. أن يصنعوا لهم ما يحتاجون إليه من حلي. هذا فضلاً عن آنية كنسية عديدة. كانت ثمينة بما رصعت به من ذهب وفضة. أو دق فيها من حجارة كريمة أو أنزل فيها من اللآلئ الغالية. والعاج الثمين. وكانت في الحقيقة زينة الكنائس وبهجتها. ليس هذا فحسب بل إنهم حرصوا علي تزويد منازلهم وقصورهم بها. كما استخدموا في إنارة هذه المنازل والقصور الشموع التي اشتهرت بصناعتها بعض المدن الإسلامية مثل دمشق وغيرها. ويؤكد لنا الرحالة المغربي ابن جبير أن السفن الإيطالية التي كانت تنقل المسافرين القادمين لزيارة الأرض المقدسة في بلاد الشام. كان يتم تمويلها في رحلة العودة بمنتجات بلاد الشام المختلفة.
ساحة النقاش