كانت له هوايتان.. تتملكانه حتى الهوس. الأولى: قراءة الكتب.. والثانية نقر حبات الزريعة. وكان له هدف واحد فقط في الحياة.. إقامة مشروع تجاري صغير.. يدر عليه بعض الربح ويجد فيه راحته. مشروع يلبي وفي الآن نفسه حاجته المادية والمعنوية.. لذلك.. وبمجرد ان توفر لديه نصيب من المال.. سارع الى انشاء مكتبة صغيرة.. تفنن في تنظيم رفوفها وتصفيف كتبها وتزيين واجهتها.. ووقف خلف الواجهة ينتظر طوابير المثقفين المتلهفين على الفكر والشعر والقصة والرواية.. وطوابير التلاميذ والطلاب المتلهفين على الارتقاء بمعارفهم وتقوية زادهم الذهني والوجداني.
في الأسبوعين الأولين كثر الداخلون والخارجون والمتفرجون.. يمرون بين الرفوف ويقلبون صفحات الكتب.. ويسألونه عن عناوين خاصة ثم ينصرفون. فرك يديه سعادة وقال في نفسه: ( انها بداية الشهر وهم لا شك انهم قناصون مهرة يتربصون بطرائدهم.. وما مجيئهم وذهابهم الا بغاية أن يتأكدوا من وجود بغيتهم بين المعروضات.. وما ينتهي الشهر الا وقد افرغوا رفا او رفين من الكتب.. وحينها علي أن أسافر لأقتني لهم المزيد.. بل الأفضل أن أضع لهم على المنضدة سجلا يدونون فيه طلباتهم حتى أيسر عليهم وعلى نفسي هذه التجارة المربحة.. فلا يكاد يمر شهر بهذه المدينة حتى يقام مهرجان للشعر أو القصة أوالنقد.. والحاجة الى الكتاب ملحة.. والقراء كثر.. وهل يمكن ان تتصور مهرجانات وثقافة ومسرحا وفكرا ورواية ونقدا بدون كتاب؟
أيقن الرجل أن مشروعه ناجح.. وذلك ما أثلج صدره ..وأراح باله.. فراح يحلم بالغد الجميل.. والأسرة السعيدة.. والحياة المستقرة - فمن قال بأن الثقافة لا تضمن المستقبل ولا توفر أسباب العيش؟ -
ومر الشهر الأول.. ولم تغادر الكتب مكانها من الرفوف.. وقل الزوار.. الا ما كان من صديق أوصديقين يلقيان عليه بتحية هي أقرب ما تكون إلى تحية العزاء.. ويبتسمان ابتسامة صفراء.. أدرك فيما بعد أنها ابتسامة الشماتة.
ثم مر شهران آخران.. وثلاثة.. وشهر رابع.. وانتصفت السنة ثم اكتملت دورتها.. وما كان يسليه عما هو فيه من هم ويأس وقنوط غير نقر حبات الزريعة صباح مساء.
اكتشف الرجل وهو يداوم على (قزقزة) الزريعة ان بفعله ذاك أصبح مثار أسئلة المارة من نسوة وفتية وأطفال:
- عمي...عندك الزريعة؟
- عمي...عمي بغيت الزريعة البيضة.
- عمي عندك الزريعة ديال الكرعة؟
ثم تخطى السؤال الزريعة وتغيرت الطلبات:
- وا السي احمد – تقول له الجاره ـ واش ما عندكش الروشارج؟
وتسأل الأخرى:
- أخاي، عندك شوينكوم؟
- كلينيكس؟
قال أحمد: ( لماذا لا أجرب؟)
في اليوم الموالي وضع كيسا من الزريعة على المنضدة...وفي المساء لم يبق بها حبة واحدة.
ضحك أحمد وردد في نفسه:
- لو أن الكتب زريعة...لقزقزها الناس في يوم واحد...لماذا لا تقام مهرجانات للقزقزة بدل مهرجانات لا يشتري روادها ورقة من كتاب؟
لماذا لا نوزع في كل ملتقى لفافات الزريعة على الأوائل من الشعراء والكتاب والنقاد؟
اليست القزقزة في بلادنا أفضل من القراءة وأكثر نفعا؟
وشيئا فشيئا أخذت الكتب تنقص وتقل من الرفوف.. فقد شرع أحمد يستعمل اوراقها الواحد تلو الآخر في لف حبات الزريعة وتقديمها لرواد مكتبته.. وكلما مر أمامه مثقف ( من أولئك الذين على البال)
أنشأ يقول بين الجد و المزاح:
قد عظم الله اجري في الكتاب
وعوضني عنه خيرا في القزقزة
فيا ليت لنا اذاعة وتلفزة
ووزارة للمزمزة.
ساحة النقاش