عندما كنتُ طفلاً صغيراً كنت مولعاً بقراءة يافطات المحال التجارية وكذلك اللوحات الاعلانية .. فعندما كنت أخرج مع أخواتي .. أو عندما كان يصطحبني أبي معه لزيارة صديق .. كنت أمشي ممسكا بيد من هوأكبر مني ورأسي معلقا إلى أعلى أقرأ اليافطات وكم إصطدمت ببعض المارة بسبب أني لم أكن أنظر أمامي .. وأحيانا كثيرة كنت أقرأ بصوت مسموع وكنت استمتع بذلك كثيرا ولم تكن قراءة اليافطات هوايتي الوحيدة بل كنت اتأمل ايضا جمال الخط الذي كُتِبَت به وكنت احاول تقليده وانا اسير بجانب ابي او اخواتي .. كنت اكتب ما اقرأه على الهواء بإصبعيّ السبابة والوسطى .. والعجيب في الامر انني برغم اني اكتب على الهواء كنت ارى ما اكتبه .. واحاول ان اقلده بدقة .. وقد كان هذا التقليد واحدا من اهم الاسباب التي جعلتني اكتب بخط جميل بل وجعلتني اجيد الرسم ايضا .. ولم يتوقف الامر بعد ذلك على قراءة اليافطات فقط بل تطور الى معرفة معانيها والى ماذا تشير او تعلن وادركت بمرور الوقت والعمر لافتات عجيبة فكنت اقرأ على محلات عصير القصب مثلا " وسقاهم ربهم شرابا طهورا" وهي آية قرآنية تتحدث عن شراب اهل الجنة ولكنها أُختزِلت في عصير القصب .. وأقرأ على صالونات الحلاقة " وجوهٌ يومئذ ناعمة " وهي آية تتحدث عن وجوه المؤمنين ولكن الحلاقين وجدوا لها تفسيرا وتوظيفا اخر .. ولم يسكت الخياطون بدورهم وبحثوا عن آية قرآنية تخصهم وكتبوا "وكل شئ فصلناه تفصيلا " بالطبع يتحدث الله عن القرآن الكريم ولكن الخياطين كان لهم رأي اخر .. واذا اقتصر الامر على اصحاب المهن وتوظيفهم للايات القرانية لهان الامر .. ولكن ان ينتقل الامر الى بعض من رجال الدين الذين يحيطون بالحكام فهنا مكمن الخطورة .. فهؤلاء الرجال اختصروا ادوارهم ليزينوا للحكام افعالهم ويٌضْفوا عليها نوعا من الشرعية الدينية كي تجعل العامة تتقبل هذه الاعمال باعتبارها تنفيذا لاوامر الله .. ومثال الممثل الكبير حسن البارودي في فيلم "الزوجة الثانية" ليس ببعيد وهو رجل الدين الذي كان يبرر ويدعم أفعال عمدة القرية الظالم ممثلاً في العظيم صلاح منصور مستخدما الدين وخاصة الاية القرآنية المعروفة " واطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم " وقد عني بأولي الامر هذا الحاكم الظالم .. وعلى ارض الواقع فقد لعب رجال الدين دورا واضحا لتسويغ زيارة السادات للقدس ومن بعدها معاهدة السلام باستخدام الاية القرآنية " وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله " رغم ان اليهود لم يجنحوا للسلم ابدا ولكننا نحن الذين عرضناه .. وتلاعبوا بنا بعد ذلك ثم تسولناه منهم فكانت معاهدة السلام .. وكان التركيز في ذلك الوقت على الايات التى تحض على السلم وغض البصر عن الايات التي تدعوا الى الاخذ باسباب القوة والاتحاد مثل " واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " ومثل " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا" .. وقد استخدم السلفيون والاخوان ايضا اية طاعة اولي الامر بعدم جواز الخروج على الحاكم ابان حكم مبارك .. ثم تناسوها عندما حانت الفرصة عقب ثورة يناير لينالوا نصيبهم من الكحكة ويقفزوا الى السلطة .. ان الفهم السليم لكلام الله ووضعه في موضعه الصحيح من الاهمية بمكان ان يصلح حال الامة ويصلح ضميرها .
نبيل رشاد
ساحة النقاش