حتى البدانة لها تاريخها، هذا ما يشرحه «مؤرخ الجسد» والأستاذ الجامعي الفرنسي جورج فيغاريللو في كتابه الصادر قبل أسابيع تحت عنوان: «تحولات الشحوم» كعنوان رئيسي، و«تاريخ البدانة من العصور الوسطى حتى القرن العشرين» كعنوان فرعي.

كانت البدانة أحد معايير الجمال في السابق، هذا ما يؤكده المؤلف، كما تشير تماثيل ورسوم «فينوس دو تيتيان» في العصور الوسطى. لكن هذه المعايير تطورت وتباينت، ثم انقلبت كما تؤكد رشاقة أجساد عارضات الأزياء في القرن العشرين، وحيث لا يزال هذا الاتجاه سائداً حتى الوقت الحاضر.
وجورج فيغاريللو «يؤرخ» لهذا التحوّل من تمجيد «الجسد المكتنز» إلى «مديح الجسد النحيل» الذي تخلّص من الشحوم. وهو يركز في «تأريخه» على إظهار المحطات الأساسية التي برز فيها «الاهتمام النسائي» بالنحافة بأشكال مختلفة خلال العصور.
ويرى المؤلف أن الجسد الإنساني يعكس إلى حد كبير التوترات الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء وبين الأقوياء والمضطهدين وبين الرجال والنساء. بهذا المعنى يبدو الجسد بمثابة مرآة تكشف عن المرجعيات الأساسية في المجتمع. مثل هذا الواقع يراه المؤلف واضحاً بالنسبة للحضارة الغربية التي يزداد مواطنوها «بدانة» إلى درجة أن ذلك غدا يمثل مشكلة حقيقية، خاصة بالنسبة للمجتمع للأميركي الذي يعرف نسبة كبيرة من البدينين حتى بين الأطفال.
ولا يتردد المؤلف في القول إن «البدانة» أصبحت إحدى المشكلات الاجتماعية والصحية التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار بسبب آثارها العامة، فضلاً عن آثارها على الأفراد. وهو يشرح على مدى العديد من الصفحات ما يسميه ب«دكتاتورية المظهر» التي تغدو أكثر فأكثر «طغياناً». ويتم في هذا السياق تقديم نوع من «الجرد» للتقنيات الطبية التي تسعى إلى تحقيق هدف واحد هو التخلص من الشحوم الزائدة في الجسد.
وتواكب هذه التقنيات مع الظهور التدريجي لأهمية «الميزان» في المنازل إلى جانب الأنظمة الغذائية «الريجيم» التي وصل عددها إلى عدة آلاف، وأصبحت تشكل قطاعاً اقتصادياً معتبراً.
يتألف هذا الكتاب من خمسة فصول تحمل العناوين التالية : «الشخص الأكول» في العصور الوسطى، ثم «المختل التوازن الحديث» و«من الاختلال البلاهة إلى العجز، عصر الأنوار والحساسيات حيال الجسد» و«الكرش البورجوازي» ثم الفصل الأخير «نحو مفهوم الضحية».
ويشرح المؤلف أنه منذ العصور الوسطى حتى عصر الأنوار، ومن القرن التاسع البورجوازي إلى القرن العشرين «وفي التوجه العقلاني». كانت النظرة مختلفة إلى «البدين».
لكن المسار التطوري للنظرة إليه كان «تنازليا». إذ لا شك أن «الأكول في العصر الوسيط» كان يتمتع ب«مكانة اجتماعية» مهمة من حيث أن «كرشه» كان دليلا قاطعا على ابتعاده عن هوّة الفقر. وبهذا المعنى كان «البدينون» ينتمون غالباً إلى الفئات الإقطاعية في الحالات الطبيعية.
لكن نظرة التشكك حيال البدين بدأت، كما يشير المؤلف، منذ القرن السادس عشر، أي منذ بدايات عصر النهضة الأوروبي، حيث ظهرت بعض المواقف والنصوص الناقدة ل«غياب مفهوم الاعتدال لدى الأكولين».
ويشير المؤلف إلى أن كتابات وليام شكسبير احتوت على شخوص «هامشية» و«غير محببة» اتسمت بالبدانة، مثل شخصية السكير فلاستفال الذي حظي بتوصيفات مثل «صاحب البطن الضخم» و«شحم كبد الاوز» و«الآنية الاسبانية المدوّرة». ومنذ القرن السادس عشر أيضاً أصبحت «البدانة» نوعا من «التخلّف» ومن «عدم التأقلم مع عالم اتخذ فيه النشاط قيمة جديدة، كما يكتب المؤلف.
ويشرح جورج فيغاريللو أن التقدم الطبي كان حاسما بالنسبة للنظرة إلى الجسد. وفي القرن الثامن عشر ظهرت كلمة «البدانة» في قاموس «فورتيير» الصادر عام 1701. ولم يكن توصيفها «القاموسي» آنذاك بعيدا عن اعتبارها نوعا من الظواهر المرضية. ثم فرض عصر التنوير خطاباً «يدين فيه صراحة اكتناز الشحوم» في الجسد الإنساني. وبدأت بالوقت نفسه «معركة الأرقام» حول تحديد شروط إطلاق صفة «البدانة» على المعنيين فيها.
واعتباراً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين وامتدادا إلى اليوم ظهرت الدعوات إلى ضرورة «فقدان عدة كيلوغرامات» حسب درجة البدانة. لقد بدأت حقبة «انهيار الشحوم» لصالح تفضيل الأجساد ذات العضلات القوية وليس الشحوم المترهلة.
وأصبح يشار إلى «السمين» وكأنه مدان، وعليه أن يكفّر عن «بدانته» بالعمل على أن يصبح «مخيفا». هذا استجابة لما ينتظره من مجتمع ينظر إلى الزيادة في الوزن كـ «خطيئة جمالية، بمقدار ما هي خطيئة صحية أيضا».
كذلك أصبحت البدانة إحدى صفات «الفقر» بسبب تناول كميات كبيرة من النشويات، بعد أن كانت من صفات «الثراء» في العصور الوسطى، وكان القرن التاسع عشر قد عرف «الكرش البورجوازي». وفي المحصلة يبيّن المؤلف من خلال النظرة إلى البدانة مدى تعقيد علاقة المجتمعات الغربية مع مفهوم «المعيار» الخاص بتحديد «ما هو جميل» و«ما هو طبيعي».
الكتاب: «تحولات الشحوم، تاريخ البدانة من العصور الوسطى إلى القرن العشرين»
تأليف: جورج فيغاريللو
الناشر: سويل باريس 2010
الصفحات: 362 صفحة
القطع : المتوسط


ساحة النقاش