اشتهر المؤرخ البريطاني ريشارد ج. ايفانس بأعماله العديدة التي قدمها عن تاريخ النازية وعن التاريخ الأوروبي، وهو يكرس كتابه الجديد «سكان جزر عالميّون» للبحث عن الأسباب العميقة التي دفعت كبار المؤرخين البريطانيين وأكثرهم نفوذاً للاهتمام بالكتابة عن تاريخ القارة الأوروبية.

وهو يدرس من خلال هذا علاقة بريطانيا التي تعتبر أن واقعها الجغرافي كجزيرة منحها عدداً من الخصوصيات بالعلاقة مع «اليابسة» التي تمثلها القارة الأوروبية. وبالمقابل يدرس المؤلف الكيفية التي درس بها المؤرخون الأوروبيون التاريخ البريطاني.

تتوزع مواد هذا الكتاب بين خمسة فصول، يحمل الأول منها عنوان: «تبادل غير متكافئ» والثاني: «كما يبدو المشهد عبر المانش»، أي البحر الذي يفصل بين بريطانيا والقارة الأوروبية، وعنوان الفصل الثالث: «افتحوا الحدود» يليه «معنى ما للمغامرة»، وانتهاء بفصل يحمل عنوان: «مشاكل اللغة».

وفي الفصل الأول يدرس المؤلف تحديداً الكيفية التي تتم بها كتابة التاريخ في الجامعات الفرنسية والإيطالية والألمانية والبريطانية والأميركية.

وقد قام المؤلف في منظور توفّر المعلومات الدقيقة بإرسال 1471 استمارة لمعنيين بالمسائل التاريخية في أوروبا، ووجّه إلى 60 مؤرخاً بريطانياً سؤالاً واحداً هو: عن الكيفية التي يختارون بها مواضيعهم.

ويولي المؤلف في هذا السياق أهمية خاصة لدراسة ما يسمّى «مدرسة الحوليات» في كتابة التاريخ أو «المدرسة التاريخية الفرنسية الجديدة» التي تأسست في ثلاثينات القرن الماضي. ومن المبادئ الأساسية لدى هذه المدرسة التركيز على السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديموغرافي، وحتى الطبيعي الذي أنتج الأحداث التاريخية أكثر من الاهتمام بالأشخاص.

والفصلان الثاني والثالث مكرّسان لدراسة مساهمات المؤرخين البريطانيين في دراسة تاريخ القارة الأوروبية. هذا مع التأكيد على فكرة أساسية مفادها أن مؤرخي «الجزيرة البريطانية» واكبوا باستمرار إرادة التاج الملكي.

وتميّزت كتاباتهم عن القارة الأوروبية منذ نشوب الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 وإلى أكثر من قرن لاحق، وتحديداً حتى عام 1870 بنوع من العداء شبه الواضح ضد الثورة «البورجوازية» الفرنسية وضد السلوكيات «الثورية» التي رافقتها.

بالمقابل، أكد المؤرخون البريطانيون في المرحلة نفسها على تمجيد النظام الملكي البريطاني. هذا إلى جانب التركيز على أن الفرنسيين عندما قاموا بثورتهم أرادوا أن «يحرقوا» تاريخ بلادهم السابق لها ويبدأوا من الصفر «من جديد»، ومن هنا كان حرصهم على إبادة النظام الملكي ورموزه. لكن الانجليز، كما قدمهم مؤرخوهم حافظوا بعد ثورتهم على التاج الملكي وعلى هياكل الدستور الأساسية التي أجروا بداخلها الكثير من التعديلات.

وما يؤكده المؤلف هو أن المؤرخين البريطانيين أولوا اهتماماً حقيقياً بالكثير من التعاطف للتاريخ الأوروبي في القرن العشرين، على مبدأ الانطلاق من وحدة المصير. بل إن كتب التاريخ الانجليزية عن أوروبا أو عن هذا البلد الأوروبي أو ذاك غدت تجد بشكل عام، مكانها في عداد قائمة الكتب الأكثر انتشاراً في بريطانيا.
وبالتوازي كانت تجد أيضا مكانها في هذه القائمة بالبلدان الأوروبية بعد ترجمتها. هذا الاهتمام «التأريخي» البريطاني بالقارة الأوروبية انضوى تحته المؤرخون الانجليز بكل مشاربهم وتوجهاتهم، كما يؤكد ريشارد ايفانس، قبل أن يضيف أن العكس لم يكن صحيحاً من قبل المؤرخين الأوروبيين، على خلفية نوع من الإحساس العام أن بريطانيا هي «جزيرة» تفضل بالأحرى التوجه نحو الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، نحو «الأفق الواسع الرحب»، كما صرّح ذات يوم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل.

ويجدد المؤلف القول إن أحد الظواهر لدى المؤرخين البريطانيين تتمثل في كون أن اهتماماتهم عكست إلى حد كبير «الاهتمام الرسمي الحكومي». بل يؤكد القول إنه كانت لهم دائماً «علاقات قوية مع وزارة الخارجية البريطانية». وهكذا مثلاً «جنحوا» خلال الحقبة الإمبريالية إلى كتابة تاريخ بلدان مثل الهند.

وعلى خلفية نفس «التقارب» مع الخط الرسمي تميّزت كتابات المؤرخين البريطانيين اعتباراً من الحرب العالمية الثانية بشجب ألمانيا النازية ثم تحوّلوا بعد ذلك نحو إظهار «التاريخ الأسود» للاتحاد السوفييتي السابق.

وفي المحصلة يحاول المؤلف أن يرسم «خطاً بيانياً» للتطورات التي عرفها اهتمام البريطانيين بالقارة الأوروبية منذ عصر التنوير وحتى نهايات القرن العشرين، ويصل إلى القول إن المؤرخين البريطانيين أولوا اهتماماً كبيراً بمختلف مظاهر تاريخ القارة.

لكن مثل هذا الاهتمام يواجه اليوم «تهديداً» حقيقياً مع التأكيد أن المطلوب هو العمل كي يستمر مثل هذا التوجه في المستقبل. وإذا كان البريطانيون هم «من أهل الجزر» فإنهم يتمتعون بقدر عال من الحس «الكوني الكوزموبوليتي». وهذه هي الأطروحة التي يدافع عنها عملياً على مدى صفحات هذا الكتاب ويوحي بها بوضوح أيضاً عنوانه.

وكتاب يدافع فيه المؤلف-المؤرخ البريطاني ريشارد ج. ايفانس عن أجيال من المؤرخين من أبناء بلاده. لم «تمنعهم» ثقافتهم كسكان جزر من أن يكونوا أكثر «كونية» من نظرائهم على الشاطئ الآخر من بحر المانش.

الكتاب: سكان جزر عالميون

تأليف : ريشارد ج. ايفانس

الناشر: جامعة كمبردج لندن 2009

الصفحات: 272 صفحة

القطع: المتوسط

المصدر: جريدة البيان
  • Currently 238/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
79 تصويتات / 680 مشاهدة

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

66,228