يرى المفكر العربي فهمي جدعان في كتابه الجديد، إنه منذ مطالع القرن التاسع عشر إلى أيامنا هذه، اتخذت مسألة "النص" الديني الخاص بالمرأة صيغا متباينة وصورا متفاوتة، ظلت في حدود ما أطلقت عليه الأدبيات الفكرية المعاصرة مصطلح "الإصلاحية الإسلامية".
وهي نزعة حاولت أن توظف مبدأ "الاجتهاد" في فهم النصوص الدينية، من أجل رفع ما يبدو في "التراث الديني" من مظاهر غير عقلانية، وتقريب أحكام النصوص من المعطيات والحساسية "الحديثة"، التي أخذت تحكمها بشبه إطلاق أحكام العقل والعلم وقيم الحداثة الغربية.

إلا أن الملفت للانتباه خلال العقود الأخيرة هو تبلور  حركة "نسوية إسلامية"، لمجموعة من المفكرات والأكاديميات اللواتي يمثلن تيارين رئيسيين.
ففي أعمال التيار الأول، تشكلت حركة "النسوية الإسلامية" الحقيقة، التي تجعل الإسلام نفسه منطلقا ومرجعية أولية لها، وتوجه عملها وفق منهج "إعادة القراءة" للنصوص الدينية وللتاريخ الإسلامي.
أما التيار الآخر من هذه التجربة، فقد وجد في فضاءات الحرية الغربية مجالا واسعا للتعبير عن مواقف لفتيات مسلمات، ذوات نزعات نسوية "رافضة" لجملة "التراث الثقافي" الذي نشأت عليه، وجاعلة من أعمالهن الأدبية أو الفكرية، تجسيدا لنزعة يمكن تسميتها بـ"النسوية الإسلامية الغاضبة".

النسوية الإسلامية التأويلية

برز خلال العقود الأخيرة، حشد كبير من الباحثات اللواتي أخذن يناقشن أوضاع المرأة ونضالها في وجه النظام الأبوي ولكن من مرجعية إسلامية.
وقد عنى المنهج التطبيقي بالنسبة لهذه العصبة، الانخراط في فعل "اجتهادي" مباشر وفي سجال "لاهوتي" اعتبرته المشاركات أنه حق لهن.
وقد عززت هؤلاء المفكرات مناهجهن في (الاجتهاد)، باستخدام الأدوات والآليات اللسانية، والتاريخ والإنثربولوجيا. مؤكدات على ضرورة الكف عن اللجوء إلى الفهم الحرفي الظاهري للنص الديني، ومشددات على رد النص وإعادة وضعه في سياقه التاريخي.
وبالتالي فإن كلمة السر الكبرى لهذا التيار الجديد ترى "ليس الإسلام هو الذي يضطهد النساء، وإنما القراءة الذكورية له هي التي تفعل ذلك".
بعد هذا التوضيح يحاول المؤلف التطرق لبعض رائدات هذا الاتجاه التجديدي ضمن حقل الدراسات النسوية والجندرية.
حيث تمثل فاطمة المرنيسي، عالمة الاجتماع المغربية، أول من أبرز "نسوية إسلامية" قائمة على التأويل وإعادة قراءة النصوص والواقع التاريخي.
ففي أطروحاتها الأساسية، التي تميزت بجرأة المعالجة وبأصالة المنهج، حاولت البحث عن المسوغات والأسباب التي أدت إلى استبعاد النساء من المجال العام والسياسي، محاولة تطبيق منهج جديد يرتكز على أسس علمية ومعرفية، تتعلق بالانطلاق من مرجعية الإسلام نفسه في سياقه التاريخي والاجتماعي، ومراجعة جميع الأحاديث النبوية التي جاءت في شأن النساء.
وقد تبين لها، بأن أعظم إنجازات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تمثل في أنه أدخل في أكثر الشعوب "ذكورية"، حقلا نسويا قويا، وربما أوضح دليل على ذلك هو حينما نزل عليه الوحي، التجأ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زوجته ليخبرها بسره العظيم بدلا من البوح به لأحد الرجال، فكان منها أن هدأت من قلقه وآمنت به كأول شاهد على النبوة.
أما بالنسبة للكاتبة الأفرو أميركية أمينة ودود فهي بكل تأكيد، أبرز من دفع بإعادة القراءة والتأويل للنصوص الدينية إلى أبعد مدى تم تحقيقه حتى اليوم.
ولكونها تتكلم باسم قراءتها لـ"النص" الديني الإسلامي، فإنها لا ترى أنه يتعين على المسلمات أن يمررن بالعلمانية، لكي يفرضن حقهن الرئيسي في المساواة. بل تقترح بدل ذلك أن تقود "جهادا" مضادا للتمييز بين الجنسين، من خلال إعادة تأويل "التراث الديني الإسلامي"، وذلك بفهم النص فهما حقيقا، بدل التقوقع في المعاني الظاهرية أو الجزئية للنص.
ولذلك نجدها في تفسيرها ، لما جاء في سورة الواقعة حول (الحور العين) تذهب إلى أن الوصف الذي يقدمه القرآن الكريم للحور العين، إنما جاء في سياق ترغيب العرب في نيل ما يشتهون وما يحلمون به في الآخرة.
ويدرك المشهد النسوي التأويلي الإسلامي قدرا أعظم من الاكتمال والثراء، مع المفكرة الباكستانية رفعت حسن. وذلك من خلال السؤال الذي طرحته، والذي يمثل أكثر آرائها أصالة وجدية. وهو يتمحور حول السبب الذي أدى إلى اعتقاد المسلمين بأن المرأة أدنى مكانة من الرجل.
وهي تعزوه إلى الاعتقاد، الذي يرى أن أول مخلوقات الله من البشر هو (آدم)، وأن حواء خلقت بعد ذلك، من "ضلع رجل" هو آدم، وأن حواء كانت العامل الأول في "خطيئة الرجل" وفي طرده من الجنة.
ولذلك تنهض رفعت حسن بقوة في وجه هذه المزاعم. إذ تؤكد أولا أن القول بأن المرأة كانت المخلوق الثاني بعد الرجل هو قول لا أثر له في القرآن، وإنما جاءنا من (سفر التكوين).
كما أن القرآن، لا يذكر أبدا أن حواء أغوت آدم وخدعته، وإنها كانت سببا في طرده من الجنة.

النسوية الإسلامية الرافضة

يرى الكاتب في هذا الفصل أن ما ميز الحرية التي تعلقت بها النزعة التأويلية، هو أن النص الديني ظل مصونا مقدسا، وإن بات طيعا في التأويل.
بيد أن خبرة الحرية لبعض المسلمات في الفضاءات الغربية، كانت تحفل بأشكال من الحرية يأتي بعضها على كل شيء. وقد اقترن في حالات كثيرة بـ"عقل وجداني" يجنح إلى النقد والنفور.
وذلك هو على وجه التحديد ما جرى على أيدي ثلة من النساء المسلمات، اللواتي هاجرن إلى مواطن الحرية الغربية، التي أتاحت لبواعث الرفض عندهن أن تنطلق من عقالها وتنفجر.
بعد ذلك يحاول الكاتب التعرض لتجربة عدد من بنات "تيار الرفض"، من خلال التطرق لسير وأعمال أهم الوجوه الإعلامية التي ظهرت خلال الأعوام الأخيرة، ممن عبرن بحسن نية أو بجهل فاضح، وألبسن النصوص الدينية رغباتهن وآراءهن ومخيلاتهن الإثنية أو الاجتماعية، فضلا عما تم انتحاله أو اختراعه.
حيث نجد الناشطة تسليمة نسرين البنغلاديشية، تصف أعمالها بأنها محاولة للنهوض في وجه "الهذيان الديني"، الذي يتحمل مسؤولية العناء التي ترزح فيه النساء خارج الفضاء الغربي.
ولأن اللغة "الناعمة" ليست ذات تأثير، فإن اللسان "المقذع" هو الذي يتعين التوسل به لإحداث الأثر. ولذلك نجدها لا تتحرج في شأن تبرج النساء، من القول بأن جسم النساء جميل، لكن جسم الرجال جميل أيضا، فلم تجبر النساء على أن يتحجبن؟ وخاصة أننا نحن النساء حساسات لجمال الرجال وللباسهم، وانجذابنا الجسدي للجنس الأخر ليس أقل شدة من انجذاب الرجال، وقد أثبت العلم ذلك. فلم لا يرتدي الرجال أيضا الحجاب؟
وبالتالي فلتجنب هذا الاحتقار الذي يقابل به الإسلام المرأة، فإنها تقترح العمل على حظر الأحزاب الدينية، والتوجه إلى العلمنة التامة للدولة التي باتت تمثل إحدى الأركان الأساسية للحضارة.
أما عن حال الكاتبة الصومالية أيان حرسي، فقد صرحت غداة أحداث الحادي عشر من أيلول بأنها "هجرت الله" ودخلت في "الإلحاد"، ملتحقة بنادي المفكرين الأحرار أمثال: سلمان رشدي، ونصر حامد أبو زيد!!.
وقد تبلور في عقلها أنها هي التي قدر لها أن تكون، لا سبينوزا الإسلام فحسب، وإنما أيضا "فولتيره" الذي يهاجم الدين ويسحق دجاله!!.
وهو ما أقدمت عليه عندما صممت مخططا لفيلم قصير مدته عشر دقائق، حيث تخيلت غرفة مليئة بمجموعة من النساء المعذبات، واللواتي يمثلن ضحايا الإسلام. وكل واحدة منهن رسمت على ظهرها العاري الآية القرآنية التي تسوغ اضطهادها، وذلك لكي يعي المسلمون حقيقة الألم الذي يسببه القران للنساء!!.
وفيما يتعلق بالحياة الجنسية في البلدان الإسلامية، فإنها تسعى إلى تحريض النساء على أن يتجاوزن بحرية العقبة العقلية، وأن يضعن موضع الشك منبع "عبادة العذارى"، والتي تزعم أنها تتغذى من القرآن والسنة، من خلال ممارسة الجنس قبيل الزواج والذي لا يستحق أي عقاب.

بيان من أجل تأسيس نسوية معرفية إسلامية

تصرح كل رموز النسوية الرافضة، بأن فضاءات الغرب الإنسانية، أتاحت لهن مساءلة المقدس ومحاورته والدخول في حالة "سجال" معه، بدلا من البقاء "داخل السرب".
وفي حدود هذا الواقع الفذ، تعلن هذه الرموز جميعا أن قضيتهن "النسوية" ليست في نهاية التحليل، إلا وجها رئيسيا من وجوه عملية ضخمة هي عملية "إصلاح الإسلام".
ذلك أن مشكلة المرأة عندهن، من حيث أنه صادر عن معطى ذي علاقة جوهرية بدين الإسلام وثقافة المسلمين، لا يمكن فصله عن مشكل الإسلام.
لكن السؤال المهم يبقى برأي فهمي جدعان، يتمحور حول "العقل" الذي توسلت به "نسويات الرفض" في التعبير عن منظوراتهن النسوية.
ولذلك نجده يرى أن أنجع مقاربة للإجابة عن السؤال، تكمن في أن نتمثل تمييزا بات كلاسيكيا في العلوم الإنسانية، وهو التمييز بين "العقل المعرفي" و"العقل الوجداني".
ولذلك حينما نتأمل بإمعان في أحوال نسويات الرفض، ندرك على الفور أن الإفراط بالانفعال قد بلغ عندهن على وجه العموم، وأنهن وقعن في الأمر نفسه الذي زعمن أن الدين قد وقع فيه وهو "العنف" بحق النساء.
لقد تمت الإشارة أحيانا إلى دور المجتمع "البطريقي" في هذه المظالم، لكن جهدا علميا كان ينبغي أن يبذل من أجل وضع الأمور في نصابها، ومن أجل أن يكون "النقد العلمي"، لا الهجاء والقدح والذم والسب.
لكن من الحق أن يقال إن جهدا اجتهاديا من هذا النمط، لا يمكن أن يصدر إلا عن من يقبل الانخراط في عملية "تعقل الإيمان"، أما من فقد الإيمان أو خرج منه، أو وضعه في موضع الشك، فإنه لا يستطيع أن يقدم على ذلك.
وغياب الهاجس العلمي والاجتهادي هو الذي في الغالب الأعم، أدى بهؤلاء النسويات إلى الوقوع في حالة عدم التمييز بين الدين والثقافة. فقد بدا واضحا أن معطيات "ثقافية" عديدة قد نسبت منهن إلى الدين، وحمل الدين جريرة الأخذ بها. وخاصة أن بعض "الفقهاء الجدد" زاد في عملية التضليل بما قبلوه أو حبذوه في هذه المسألة أو تلك.
ولذلك فإن هذا التمييز كان ضروريا ليضع الحدود الفاصلة، بين ما هو إلهي وما هو إنساني، ويحول دون تحميل الدين نفسه بعض الأوضاع التي لا تطاق.
وهذا ربما ما غفلت عنه النسوية الرافضة، بينما بانته عن ذلك بحق النسوية التأويلية من خلال رؤيتها أن الفقهاء المسلمين قد خضعوا في كثير من الأحيان، إلى أحكام ظروفهم التاريخية ومجتمعاتهم الأبوية أو البدوية أو إلى أحكام قلوبهم وأمزجتهم.


الكتاب: خارج السرب "النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية
الكاتب: فهمي جدعان
عدد الصفحات:280
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت
الطبعة: الأولى/2010

المصدر: الجزيرة نت/ عرض: محمد تركي الربيعو
  • Currently 150/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
50 تصويتات / 878 مشاهدة
نشرت فى 23 إبريل 2010 بواسطة books

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

66,543