مصرنا الحبيبة

الماضي والحاضر والمستقبل

التسامح‏..‏ والتصالح مع الذات


كتب:د‏.‏ إبراهيم أبو محمد

المفتي العام لقارة أستراليا

 

قدمت الحضارة الإسلامية للمجتمع البشري مجموعة من القيم الإنسانية علي مدار تاريخها شكلت في مجموعها منارات للخير تهتدي بها مجتمعات الدنيا‏

تأخذ منها وتنقل عنها ويستفيض علماء النفس والاجتماع في شرح مزاياها وما تضفيه وتضيفه علي العقل والقلب والوجدان من طمأنينة وسكينة وهدوء مصحوب بثقة في حكم الله وحكمته في الأعمار والأقدار والأرزاق والآمال
من هذه القيم العظيمة قيمة التسامح الذي تمدد وامتد ليشمل الآخر المختلف دينا وجنسا ولغة ولم تصل إليه حضارة من الحضارات في القديم أو الحديث, ولم تعرف الدنيا نظاما ومنهجا في واقعه النظري والتطبيقي يرفع من مستوي غير المسلم ليجعل منه شخصية اعتبارية تتجاوز حدود ذاته كفرد لترتفع به إلي مستوي الدولة لدرجة تخول للحاكم المسلم أن يعقد معه بموجب القانون الإسلامي الدولي معاهدة يكون له بمقتضاها حق الذمة
وحق الذمة أو عقد الذمة مصطلح عاني من سوء الفهم وحتي بين المثقفين أنفسهم حين لم يرتفعوا بوعيهم عن محيط الواقع فوقعوا أسري لأخطائه و حبسوا ثقافتهم في معتقل الفكر السائد وهو منتج ومتولد من هذا الواقع الخاطئ ولا يصلح حكما علي المصطلح في كثير من الأحيان
عقد الذمة أو حق الذمة لا تستند رعاية تنفيذه إلي فرد من الأفراد أو إلي مؤسسة من المؤسسات, وإنما هو حق يتضافر في حمايته وتنفيذه كل المجتمع بأفراده ومؤسساته, كما أنه حق لا يصطبغ بصبغة مدنية فقط, بحيث تؤول مسؤولية رعايته وتنفيذه إلي أي جهة, وإنما هو حق يحمل ذمة الله وذمة رسوله( صلي الله عليه وسلم) ليكون له من القداسة والتقدير ما يجعله أهلا لاحترام الجميع; وليحظي بأعلي مستويات الاهتمام والحفظ رعاية لذمة الله وذمة رسوله ( صلي الله عليه وسلم)
ولقد أكدت إحداثيات الواقع في حضارة الإسلام الذي بعث به سيد الخلق محمد بن عبد الله ( صلي الله عليه وسلم) أن الثقافة الإسلامية استوعبت الثقافتين اليهودية والمسيحية, وهي التي قدمت للدنيا سقراط وأرسطو وغيرهم, ولولاها ما عرفت الدنيا هؤلاء ولا سمعت بهم, وتخبرنا ذاكرة التاريخ بشهادتها الموثقة أن حضارة الإسلام مارست التسامح في أعلي تجلياته وعلي يد القمة السامقة رسول الله صلي الله عليه وسلم ليكون قدوة وأسوة لمن بعده فقد عامل المجوس والبراهمة والصابئة معاملة أهل الكتاب وقال ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب) ما داموا جزءا من المجتمع المسلم, وقد قال القاضي ابن عبد البر: إن عبدة الأوثان جزء من الأمة ولا علاقة لنا بعقائدهم فحسابهم علي الله, أما نحن فلنا منهم العمل الصالح وحسن الجوار وعدم الاعتداء, وهنا نشير إلي ميثاق أهل المدينة وعقد الرسول إلي أهل نجران, وعقد عمر إلي أهل إيلياء, فهل عرفت الدنيا مثل هذا التسامح علي مر العصور؟ وهل وجدت في دساتيرها نصوصا تصل إلي هذا المستوي أو حتي تقترب منه في حماية ورعاية الآخرين منذ عرفت الدنيا حقوقا؟
الغريب في أمر الغرب- كمؤسسات لا كشعوب- أنه ينسي ذلك كله ثم يختزل الإسلام بعطائه الإنساني المشهود وحضارته التي ازدهرت بها الدنيا واستنار بها الغرب ذاته, الغريب أنهم الآن ينسون ذلك كله ويختزلون الإسلام في ظرف استثنائي تعيش الأمة فيه حالة من حالات الجزر الحضاري والانكماش الثقافي ليجعل منها عنوانا عاما لدين بني حضارة عمرت المشارق والمغارب وعلي مدي عصور زاهية لم تعرف البشرية ندا لها في العدالة واحترام حقوق الإنسان
ولابد هنا أن نتنبه للفرق بين الغرب كشعوب وبين الغرب كمؤسسات, فالغرب كشعوب ضحايا كما نحن ضحايا, هم ضحايا التزييف السياسي والغش الثقافي والإعلام الموجه والمسيس, كما أننا أيضا ضحايا الإعلام الكاذب ومصانع الكذب وضحايا ما يطلق عليهم بالنخب الغريبة والمستغربه
وقد ساعد غيابنا كعرب ومسلمين عن الساحة الإعلامية في تكريس الرؤية المؤسسية الغربية علي اغتيال العقول وتمرير الزيف وبخاصة أن الطرف الذي يملك الحقيقة كاملة لم يهب للدفاع عن نفسه ولم يحاول شرح ما لديه من حقائق حول الإسلام وحضارته وعطائه الإنساني علي مدار التاريخ, ذلك أن الإسلام في ميدان الحياة العامة حريص علي احترام شخصية المخالف له, ومن ثم لم يفرض عليه حكمه, أو يقهره علي الخضوع لعقائده, ولم يقم بمصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم أو المساس بأموالهم وأعراضهم ودمائهم, بل ترك أهل الأديان وما يدينون, ولقد تقررت هذه الحقيقة لا من خلال النصوص الدينية فقط, وإنما بشهادة كبار المفكرين والباحثين المنصفين من كتاب ومفكري الغرب أنفسهم, وقد كانت ممارسات المسلمين في شتي عصورهم, تطبيقا حيا وعمليا يجسد حالة الالتزام في أرقي درجاتها رعاية وعناية, وأعلي تجلياتها كرما وتسامحا. كما أن الإسلام أيضا حريص في تعاليمه علي تكريم الإنسان في شخص غير المسلم, لدرجة أنه يمنحه شخصية اعتبارية فيرفعه إلي مقام الدولة ويعقد معه معاهدة يكون له بمقتضاها ذمة الله وذمة رسوله وذلك أرفع ما يتمتع به إنسان من الحماية والرعاية في مجتمع المسلمين
إن الإسلام أعلي المناهج تسامحا وأكثر الأنظمة حرصا علي وحدة الأمة وتماسكها حيث بلغ من سماحته ورعايته لغير المسلين- ولو كانوا مشركين وليسوا من أهل الكتاب- أنه لا يكتفي منا بأن نؤويهم ونكفل لهم الأمن في جوارنا فحسب, ولا يكتفي منا بأن نرشدهم إلي الحق ونهديهم طريق الخير وكفي; بل يأمرنا بأن نكفل لهم كذلك الحماية والرعاية في انتقالهم حتي يصلوا إلي المكان الذي يأمنون فيه كل غائلة,( وإن أ حد من المشركين استجارك فأجره حتي يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون), ولم تعرف الدنيا أو تعي ذاكرة التاريخ نموذجا لسمو المبدأ ورقي الفكرة, منذ وعت ذاكرته أدب التسامح وقواعد الأخلاق أسمي وأنبل من تلك الوصايا الذهبية التي يوصينا بها القرآن في معاملة الوثنيين الذين يدينون بديانة هي أبعد الديانات عن الإسلام, فضلا عن الديانات الأخري التي تربطنا بها أواصر الوحي السماوي في مجتمع المسلمين
فإذا كنا نحن لم ندافع عن قضايانا ولم نتحمس لدفع شبهة الشراسة والعدوان عن أنفسنا فكيف يطلب من الآخرين أن يدافعوا هم عن قضايا أصحابها غائبون؟
وفي الظرف الحالي الذي تمر به أمتنا بكل طوائفها, لابد من تضافر جهود العلماء والمفكرين والباحثين لتكون كمفتاح الضوء الذي يأذن بجريان التيار الكهربائي في روح الأمة, فيجري منها جريان العصارة الحية في الشجرة الخضراء يدفعها بقوة نحو أمل وعمل, لتصحيح المسار, وتغليب مصلحة البلاد والعباد علي المصالح الشخصية, بدلا من النزاع والشقاق والفرقة والتشرذم ولنتذكر جميعا هذا التحذير الشديد ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين). صدق الله العظيم
فهل يمكن أن نتصالح مع الذات والآخر لتعيش الذات والآخر كل في رحاب الكل مواطنون لا رعايا ودون طائفية أو تمييز.. ؟
إنه أمل يعيش حلما في دجانا. وعلي الشفاه السمر أغنية تدب لها خطانا

 

belovedegypt

مصرنا الحبيبة @AmanySh_M

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 333 مشاهدة

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

599,565

عن الموقع

الموقع ملتقى ثقافي يهتم بالثقافة والمعرفة في كافة مجالات التنمية المجتمعية ويهتم بأن تظل مصرنا الحبيبة بلدآ يحتذى به في القوة والصمود وأن تشرق عليها دائمآ شمس الثقافة والمعرفة والتقدم والرقي

وليعلو صوتها قوياّ ليسمعه القاصي والداني قائلة

إنما أنا مصر باقية

مصرالحضارة والعراقة

مصرالكنانة  

 مصر كنانة الله في أرضه