إدارة الأزمات
منذ عقود تحولت إدارة الأزمات من مجرد فن أو قدرات فردية ومهارات شخصية لدي إنسان بعينه تمكنه من التعامل مع مواقف الأزمات علي اختلاف طبيعتها
إلي علم متكامل الأركان له أصوله ومناهجه المتعددة ونظرياته المختلفة, بالطبع بقدر ما للعلوم الاجتماعية والإنسانية من درجة يقين, ما زالت بالتأكيد أقل من درجة اليقين التي تتحكم في العلوم الطبيعية والرياضية وغيرها من العلوم التطبيقية أو الجامدة, التي تسمي أحيانا بالعلوم المعملية لبيان ما تتصف به من درجة يقين
تختلف الأزمات فيما بينها, سواء في الطبيعة ما بين أزمات ناتجة عن كوارث طبيعية ليس للبشر دخل فيها, وأزمات ناتجة عن كوارث للبشر دور كبير في نشأتها في المقام الأول, أو ربما حتي هم أصحاب الدور الأكبر, وقد يكونون أحيانا أصحاب الدور الوحيد, المتسبب فيها, أو من حيث مكانها: أي كونها أزمة داخلية أو خارجية, حيث عادة ما يسود اعتقاد مفاده مثلا أن الأزمات الخارجية أكثر سهولة في التعامل معها من الأزمات الداخلية, ولهذا يتم توجيه الاتهام عادة ومنذ قديم الزمن للزعماء والقادة السياسيين بأنهم يركزون جهودهم علي التعامل مع الأزمات الخارجية أملا في نجاحات سريعة تزيد من رصيدهم وشعبيتهم في الداخل والخارج علي حد سواء, علما بأن الأزمات الداخلية بدورها تنقسم إلي أزمات علي الصعيد الوطني للدولة ككل وأزمات أخري علي الصعيد المحلي داخل الدولة, سواء كانت علي مستوي مدينة أو قرية أو حتي حي داخل مدينة, وكذلك تتباين الأزمات في مدي الأزمة وعمقها, أو من حيث درجة المفاجأة في تفجر الأزمة أو مجيئها كنتيجة طبيعية لعملية تراكمية تطورت علي مدي فترة زمنية قد تقصر أو تطول, وكذلك من حيث الأطراف المتصلة بهذه الأزمة وعددها والعلاقة فيما بينها, وأخيرا وليس آخرا فالأزمات قد تكون ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو حتي فني أو رياضي أو قد تجمع بين أكثر من بعد من هذه الأبعاد
وقد طورت دول كثيرة, الجهات الحكومية المعنية والمؤسسات الخاصة علي حد سواء, برامج لتنمية قدرات الكوادر البشرية لديها في مجال إدارةالأزمات - سواء كوادر الحكومة أو القطاع العام أو القطاع الخاص, بل إن عددا من الدول قد أقامت مؤسسات لهذا الغرض, وتزامن ذلك مع قيام مؤسسات أكاديمية, سواء حكومية أو خاصة, بإقامة برامج لديها لمنح دبلومات بعد فترات دراسة قصيرة لدارسين في مجالات متنوعة متعلقة بـ إدارة الأزمات, ثم في مرحلة لاحقة أتاحت هذه الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية برامج علمية أكثر تخصصا لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في موضوعات تتصل بتخصص إدارة الأزمات. وأتيحت لي الفرصة إن أعاصر شخصيا وأن اطلع عن قرب علي تجربة فريدة في إدارة الأزمات, وأعني هنا مواجهة اليابان لما جري علي تسميته بالتحدي الثلاثي أو الأزمة الثلاثية ممثلة في زلزال توهوكو الضخم ثم موجات التسونامي التي أعقبته ثم حادث التسرب للمواد الإشعاعية من مجمع مفاعلات فوكوشيما دايئيتشي النووية, وذلك كله علي مدي ساعات ما بين بعد ظهر الحادي عشر من مارس2011 وصباح12 مارس.2011
بالتأكيد, فإن التعامل الياباني مع التحدي الثلاثي لم يكن مثاليا ولم يخل من أوجه نقص تعرضت لانتقادات, سواء داخل اليابان أو من جهات خارجية, سواء كانت من دول أجنبية أو منظمات دولية, إلا أنه بالرغم من كل ذلك, وبالرغم أيضا من أن هذه الأزمة كانت في مكوناتها الأساسية ترتكز علي أزمة مصدرها ما يمكن اعتباره كارثة طبيعية, فإنه كان مليئا بالدروس المستفادة التي لا تخلو من دلالة, حتي لأزمات أخري, بما في ذلك الأزمات التي يكون مصدرها أفعال البشر وليس كوارث الطبيعة. وقد تضمنت هذه الدروس في خطوطها العريضة تقسيم العمل بشكل تكاملي وليس تنافسيا بين عدة جهات عاملة في مجال معالجة الأزمة وتداعياتها, وفي الوقت نفس كان هناك احترام للتخصص لكل جهة في ميدان عملها دون تدخل جهة في عمل لا يخصها وليس لها خبرة به ويخص جهة أخري, ولم يقتصر تقسيم العمل والمشاركة علي الجهات الحكومية, بل شمل بالضرورة بعض أعضاء البرلمان ممثلين للسلطة التشريعية, وممثلي القطاع الخاص في ضوء أن مؤسسة خاصة كانت هي التي لها امتياز المفاعلات المنكوبة وتتولي مسئولية إدارتها, وذلك بالإضافة إلي ممثلي مؤسسات أكاديمية وعلمية وبحثية, بل اللجوء لاحقا إلي الاستعانة بخبرات دول أجنبية ومنظمات دولية متخصصة, وكذلك إيجاد آلية للتفاعل مع ممثلي منظمات المجتمع المدني, ونظام ثابت متبع للتواصل بشكل منتظم ودوري وأكثر من مرة خلال اليوم الواحد في الأيام الأولي بعد اندلاع الأزمة ثم مرة يوميا بعد ذلك لمدة عدة شهور متواصلة مع ممثلي الصحافة ووسائل الإعلام, كما أن هذا الجهد جمع بين ممثلي السلطات المركزية وممثلي السلطات المحلية, وكانت هناك عملية تنسيق مستمرة تتم فيما بين هذه الجهات تتولي مسئوليتها رئاسة مجلس الوزراء الياباني في ذلك الوقت