مصرنا الحبيبة

الماضي والحاضر والمستقبل

من عفا ساد ومن حلم عظم ومن تجاوز استمال القلوب

إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا

قيل: من الأسباب الممتازة أن يهب الله للإنسان صديقا مخلصا لطيف القول حسن المأخذ متمكن البيان مرهف اللسان جليل الحلم واسع العلم طيب الاخلاق سري الأعراق مكتوم السر كثير البر صحيح الأمانة مأمون الخيانة كريم النفس مضمون العون كامل الصون مشهور الوفاء ظاهر العناء مبذول النصيحة صادق اللهجة خفيف المهجة عفيف الطباع رحب الذراع واسع الصدر متخلقا بالصبر

أين هذا؟ فان ظفرت به يداك فشدهما عليه شد الضنين وامسك بهما إمساك البخيل فمعه يكتمل الانس وتنجلي الاحزان ويقصر الزمان وتطيب الاحوال

قيل: وإني لمشتاق إلى ظل صاحب/ يرق ويصفو إن كدرت عليه

ويقال إن المأمون عندما سمع هذا البيت قال: خذوا مني الخلافة واعطوني هذا الأخ

قال ابن الاعرابي: لعمرك مال الفتى بذخيرة/ ولكن اخوان الثقات الذخائر

قال مثاني البستي: إذا ما اصطفيت امرءا فليكن/ شريف النجار زكي الحسب/ فنذل الرجال كنذل النبا/ ت لا للثمار ولا للحطب

هذا وقد من الله سبحانه وتعالى على قوم وذكرهم بنعمته عليهم بأن جمع قلوبهم على الصفاء وردها بعد الفرقة إلى الألفة والإخاء فقال تعالى: " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا" آل عمران الآية 103

قال الشاعر: وما المرء إلا بإخوانه/ كما يقبض الكف بالمعصم/ ولا خير في الكف مقطوعة/ ولا خير في الساعد الاجذم

(الاجذم بمعنى المقطوع ويقال جذفت يده أي قطعت)

حق المودة

قيل لابن السماك: أي الاخوان أحق ببقاء المودة؟ قال: الوافر دينه الوافي عقله الذي لا يمل على القرب ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودة فعله أكثر من مودة قوله

قال الشاعر في ذلك: إن أخاك الصديق من يسعى معك/ ومن يضر نفسه لينفعك/ ومن إذا ريب الزمان صدعك/ شتت فيك شمله ليجمعك

وقال غيره: وليس أخي من ودني بلسانه/ ولكن أخي من ودني وهو غائب/ ومن ماله مالي إذا كنت معدما/ ومالي له إن أعوزته النوائب

دواء المكروه

قالوا: إذا رأيت من أخيك أمرا تكرهه أو خلة لا تحبها فلا تقطع حبله ولا تصرم وده ولكن داو كلمته واستر عورته وابقه وابرأ من عمله. قال تعالى:" فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون" سورة الشعراء آية 216 لم يأمره بقطعهم وإنما أمره بالبراءة من عملهم السيئ

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: الأرواح أجناد مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف

قال بعضهم: هو يتكلم بالسمع قبل لقائكم/ وسمع الفتى يهوى لعمري كطرفه/ وخبرت عنكم كل جود ورفعة/ فلما التقينا كنتم فوق وصفه

نصائح بليغة

قالوا: إن من الوفاء أن تكون لصديق صديقك صديقا، ولعدو صديقك عدوا، وقالوا إنه من أعجب الأشياء ود من يهودي والحذر من الكريم إذا أهنته واللئيم إذا اكرمته والعاقل إذا أحرجته والأحمق إذا مازحته والفاجر إذا عاشرته

وقالوا: اصحب من الاخوان من أولاك جمائل كثيرة فكافأته بجميلة واحدة فنسي جمائله وبقي شاكرا لجميلك. قال بعض الحكماء في ذلك: إذا وقع بصرك على شخص فكرهته فاحذره جهدك

قيل: خليلي للبغضاء حال مبينة/ وللحب آثار ترى ومعارف/ فما تنكر العينان فالقلب منكر/ وما تعرف العينان فالقلب عارف

ويقال: لكل شيء محل، ومحل العقل مجالسة الناس، ومثل الجليس الحسن كالعطار إن لم يصبك من عطره أصابك من رائحته

ومثل جليس السوء مثل الكبريت إن لم يحرق ثوبك بناره أذاك بدخانه

قيل: إذا ما كنت متخذا خليلا/ فلا تأمن خليلك أن يخونا

فإنك لم يخنك أخ أمين/ ولكن قلما تلقى أمينا

قال الشاعر: وما أخوك الذي يدنو به نسب/ لكن أخوك الذي تصفو ضمائره

الجبل أوضح من السهل

قال جبران خليل جبران في الصداقة: صديقكم هو حاجتكم وقت قضيت. إنه حقلكم الذي تزرعونه بالمحبة وتحصدونه بالحمد. حين يصارحكم صديقكم لا تخافون ال.. لا .. في آرائكم ولا تبخلون عليه بال.. نعم.. . ومتى يكون صامتا لا تتوقف قلوبكم عن الإصغاء إلى قلبه لأن كل فكر في الصداقة، وكل رغبة وكل رجاء أنا يولد ويتقاسم دون حاجة إلى الكلام

أكثر ما تحبونه فيه قد يكون أوضح في غيابه، كالجبل للصاعد فهو يبدو من السهل أكثر وضوحا له

ولا تجعلوا للصداقة غاية إلا تعميق الروح، لأن المحبة التي لا تطلب إلا كشف سرها ليست محبة بل شبكة مطروحة لا تصطاد إلا ما لا نفع فيه. وليكن خير ما فيكم لصديقكم

وقال بشار بن برد: إذا كنت في كل الأمور معاتبا/ صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه/ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها/ كفى المرء نبلا أن تعد معائبه/ وللموت خير من حياة على أذى/ يضيمك فيها صاحب وتراقبه/ أخوك الذي لا يتقص الدهر عهده/ ولا عند صرف الدهر يزور جانبه/ فخذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه/ ولا تك في كل الأمور تجانبه

وقال شاعر آخر: إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم/ ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي/ عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه/ فكل قرين بالمقارن يقتدي

قال الاوزاعي: الصاحب للصاحب كالرقعة في الثوب، إن لم تكن مثله شانته. وقال آخر: المال غاد ورائح والسلطان ظل زائل والأخوان كنوز وافرة

المحال

وأما ما جاء في الاخوان القليلي الموافاة العديمي المكافأة الذين ليس عندهم لصديق مصافاة. قال وهب بن منية: صحبت الناس خمسين سنة فما وجدت رجلا غفر لي زلة، ولا أقال لي عثرة ولا ستر لي عورة. قال علي بن أبي طالب: إذا كان الغدر طبعا، فالثقة بكل أحد عجز. وقيل لبعضهم: ما الصديق؟ قال: اسم وضع على غير مسمى وحيوان غير موجود

قال الشاعر: سمعنا بالصديق ولا نراه/ على التحقيق يوجد في الأنام/ وأحسبه محالا نمقوه/ على وجه المجاز من الكلام

(نمقوه بمعنى زينوه وأزان الشيء)

قال أبو الدرداء: كان الناس ورقا لا شوك فيه، فصاروا أشواكا لا ورق فيه. وقال جعفر الصادق لبعض اخوانه: اقلل من معرفة الناس وانكر من عرفت منهم، وإن كان لك مائة صديق فاطرح تسعة وتسعين، وكن من واحد على حذر. وقيل لبعض الولاة كم لك من صديق؟ فقال: أما في حال الولاية فكثير وأنشد: الناس إخوان من دامت له نعم/ والويل للمرء إن زلت به القدم

أصحاب الوزارة

لما نكب علي بن عيسى الوزير لم ير ببابه أحد من أصحابه الذين كانوا يألفونه في ولايته، فلما ردت إليه الوزارة وقف أصحابه ببابه مرة ثانية فقال: ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها/ فكلما انقلبت يوما به انقلبوا/ يعظمون أخ الدنيا فإن وثبت/ يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

وقال البحتري: إياك تغتر أو تخدعك بارقة/ من ذي خداع يرى بُشراً والطافا/ فلو قلبت جميع الأرض قاطبة/ وسرت في الأرض أوساطاً وأطرافا/ لم تلق فيها صديقاً صادقاً أبداً/ ولا أخاً يبذل الإنصاف إن صافى

وقال بعضهم: خليلي جربت الزمان وأهله/ فما نالني منهم سوى الهم والعنا/ وعاشرت أبناء الزمان فلم أجد/ خليلا يوفي بالعهود ولا أنا

ولما غضب السلطان على الوزير ابن مقلة وهو محمد بن علي بن الحسين بن مقلة من الشعراء الأدباء، يضرب بحسن خطه المثل، والمتوفى في بغداد سنة 940م وأمر بقطع يده لما بلغه أنه زور عنه كتابا إلى أعدائه وعزله، لم يأت إليه أحد ممن كان يصحبه ولا توجع له. ثم إن السلطان ظهر له في بقية يومه أنه بريء مما نسب إليه فخلع عليه ورد إليه وظائفه فأنشد: تحالف الناس والزمان/ فحيث كان الزمان كانوا

عاداني الدهر نصف يوم/ فانكشف الناس لي وبانوا/ يا أيها المعرضون عنا/ عودوا فقد عاد لي الزمان

قال الشاعر: تعجبت من غدرات الصديق/ وأعجب من ذاك أن أتعجب

قال الامام الشافعي: إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا/ فدعه ولا تكثر عليه التأسفا/ فما كل من تهواه يهواك قلبه/ ولا كل من صافيته لك قد صفا/ ففي المرء ابدال وفي الترك راحة/ وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا/ إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة/ فلا خير في ود يجيء تكلفا/ وينكر عيشا قد تقادم عهده/ ويظهر سرا كان بالأمس قد خفا/ سلام على الدنيا إذا لم يكن بها/ صديق صدوق صادق الوعد منصفا

قال الشاعر سالم بن علي العويس: تقاسم الناس فوق الأرض إفهاما/ فلا تحاول لمن عاشرت إرغاما

وقال البحتري: وإذا ما تنكرت لي بلاد/ أو صديق فإنني بالخيار

وقيل: من لا تجانسه احذر مجالسه/ ما أذهب الشمع إلا صحبة الفتل

وقال شاعر آخر: وحدة الإنسان خير/ من جليس السوء عنده

من عفا ساد

قيل: كيف تجعل من العدو صديقا؟

كان لعبد الله بن الزبير أرض وكان له فيها عبيد يعملون بها، وإلى جانبها أرض لمعاوية وفيها أيضا عبيد يعملون بها، فدخل عبيد معاوية في أرض عبدالله بن الزبير فكتب عبدالله كتابا إلى معاوية يقول فيه: أما بعد يا معاوية إن عبيدك قد دخلوا في أرضي فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأن والسلام. فلما قرأ معاوية الكتاب وعرف ما فيه دفعه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه قال له معاوية يا بني ما ترى؟ قال أرى أن تبعث إليه جيشا يكون أوله عنده وآخره عندك، يأتوك برأسه، قال: بل غير ذلك خير منه، ثم أخذ ورقة وكتب فيها جواب يقول فيه

أما بعد فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءني ما ساءه والدنيا بأسرها هينة عندي في جنب رضاه، نزلت على أرضي فأضفها إلى أرضك بما فيها من العبيد والأموال والسلام. فلما قرأ عبدالله بن الزبير كتاب معاوية كتب إليه قائلا

لقد وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ولا أعدمه الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام. فلما وقف معاوية على كتاب عبدالله بن الزبير وقرأه رمى به إلى يزيد فلما قرأه تهلل وجهه وأسفر فقال معاوية: يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم ومن تجاوز استمال القلوب. فإذا ابتليت بشيء من هذه الأدوار فداوه بمثل هذا الدواء

ويتوافق في ذلك ما قاله احمد شوقي: تسامح النفس من مروءتها بل المروءة في أسمى معانيها

وجاء هذا البيت في القصيدة التي يقول فيها: الدين لله من شاء الاله هدى/ لكل نفس هوى في الدين داعيها/ ما كان مختلف الأديان داعية/ إلى اختلاف البرايا أو تعاديها/ تسامح النفس معنى من مروءتها/ بل المروءة في أسمى معانيها

تحية قديمة

كانت تحية العرب في القدم: صبحتك الأنعمة وطيب الأطعمة، وتقول أيضا صبحتك الأفالح وكل طير صالح

تجنب الاهانات الثماني

قيل ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الجالس في مجلس ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه، والداخل بين اثنين في حديثهما ولم يدخلاه فيه، والمتعرض لما لا يعنيه، والمتآمر على رب البيت في بيته، والآتي إلى مائدة بلا دعوة، وطالب الخير من أعدائه، والمستخف بقدر السلطان، وقيل إن المودة هي طلاقة الوجه والتودد إلى الناس ومن المستحب أنه إذا حدت القوم أن لا تقبل على واحد منهم ولكن اجعل لكل واحد منهم نصيبا

 

المصدر: منصور عبدالرحمن "جريدة الإتحاد"
belovedegypt

مصرنا الحبيبة @AmanySh_M

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

598,282

عن الموقع

الموقع ملتقى ثقافي يهتم بالثقافة والمعرفة في كافة مجالات التنمية المجتمعية ويهتم بأن تظل مصرنا الحبيبة بلدآ يحتذى به في القوة والصمود وأن تشرق عليها دائمآ شمس الثقافة والمعرفة والتقدم والرقي

وليعلو صوتها قوياّ ليسمعه القاصي والداني قائلة

إنما أنا مصر باقية

مصرالحضارة والعراقة

مصرالكنانة  

 مصر كنانة الله في أرضه