خير ما يرزقه العبد عقل يعيش به
إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين
والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب
فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا
شكل الكلام
قال الشاعر: «كل شكل يتشهى شكله/ لاتكن عن أحد تنفي الظنن». (طوق الحمامة ـ بن حزم)
البلاغة
حتى تكون الكلمة بسيطة مبسطة تتغلغل إلى عقل القارئ بسهولة لابد أن تكون بليغة. فالبلاغة لهجة صوالة، وهي سرعة الحز وإصابة المفصل
قيل لأعرابي: من أبلغ الناس؟ قال: أسهلهم لفظا وأحسنهم بديهة
البلاغة هي أن تجيب فلا تبطئ، وتصيب فلا تخطئ، وهي قلة الكلام وإيجاز الصواب
قال بعضهم: إذا كفاك الإيجاز فالإكثار غي
قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (إن من البيان لسحرا
يقال: جمال الرجل فصاحة لسانه
قال أبو العتاهية: لا خير في حشو الكلا/ م إذا اهتديت إلى عيونه
البلاغة ليست في حشو الكلام، وإنما هي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها
(خير الكلام قليل/ على الكثير دليل/ والعي معنى قصير/ يحويه لفظ طويل)
أغراض
ذهب البعض إلى القول إن الشعر نصيحة
(وما الشعر إلا أن يكون نصيحة/ تنشط كسلانا وتنهض ثاويا)
قال دعبل الخزاعي المتوفى سنة 246هـ
(يموت رديء الشعر من قبل أهله/ وجيده يحيا وإن مات قائله)
الشعر جذل من كلام العرب يسكن به الغيظ وتطفأ به النائرة ويتبلغ به القوم في ناديهم ويعطى به السائل، والشعر علم العرب وديوانها
اللغة العربية جميلة والأجمل أن نفهم ونتفاهم نحن البشر بعضنا البعض جيدا
فراسة
هي قصة معروفة يقال إن رجلا غير عربي يجيد اللغة العربية الفصحى بطلاقة، حتى أن العرب عندما يكلمهم يسألونه من أي قبائل العرب أنت؟ فيضحك
يقول: أنا لست عربي وأجيد العربية أكثر من العرب
ذات مرة وكعادته وجد مجلس قوم من العرب فجلس عندهم وتكلم معهم. سألوه من أي قبائل العرب أنت؟ فضحك وقال: أنا لست عربيا وأجيد العربية خيرا منكم. تقدم أحد الحاضرين وقال له: اذهب إلى فلان بن فلان وهو رجل من الأعراب وكلمه، فإن لم يعرف أنك من العجم فقد نجحت وغلبتنا كما زعمت
وكان ذلك الأعرابي ذا فراسة شديدة. ذهب الرجل إلى بيت الأعرابي وطرق الباب، فإذا ابنة الأعرابي تقف خلف الباب تقول.. من بالباب؟ فرد الفارسي
أنا رجل من العرب وأريد أباك. فقالت: (أبي ذهب إلى الفيافي، فإذا فاء الفي أفى). وهي تعني أن أباها ذهب إلى الصحراء فإذا حل الظلام أتى
فقال لها: إلى أين ذهب؟
فردت عليه: (أبي فاء إلى الفيافي، فإذا فاء الفي أفى
أخذ الرجل يراجع الطفلة ويسأل، وهي تجيب من وراء الباب حتى سألتها أمها.. يا ابنتي من بالباب؟
فردت الطفلة قائلة: (أعجمي على الباب يا أمي). فكيف لو قابل أباها؟
تعددت الأساليب في أمر واحد
قال البهاء زهير: يقول أناس.. لو وصفت لنا الهوى/ فوالله ما أدري الهوى كيف يوصف؟
فقال أحمد شوقي مشطراً البيت عندما اجتمع مع بعض الأدباء في مجلس: يقول أناس.. لو وصفت لنا الهوى/ لعل الذي لا يعرف الحب يعرف
فقلت لقد ذقت الهوى ثم ذقته/ فوالله ما أدري الهوى كيف يوصف؟
قال أبو نواس: يا ويح أهلي أبلى بين أعينهم/ على الفراش ولا يدرون ما دائي
قال أحمد شوقي مشطراً هذا البيت: يا ويح أهلي أبلى بين أعينهم/ ويدرج الموت في جسمي وأعضائي
وينظرون لجنب لا هدوء له/ على الفراش ولا يدرون ما دائي
قال الشاعر: لك البلاغة ميدان نشأت به/ وكلنا بقصور عنك نعترف
مهد لي العذر في نظم بعثت به/ من عنده الدر لا يهدى الصدف
قال اليوناني: البلاغة وضوح الدلالة وانتهاز الفرصة وحسن الإشارة
وحي الدلالة
قيل إن معاوية سأل عمرو بن العاص: من أبلغ الناس؟ فقال أقلهم لفظا وأسهلهم معنى وأحسنهم بديهة
قيل: ثلاثة تدل على عقول أصحابها: الرسول على عقل المرسل، والهدية على عقل المُهدي، والكتاب على عقل الكاتب
روي أن ليلى الأخيلية مدحت الحجاج، فقال: يا غلام اذهب إلى فلان وقل له ان يقطع لسانها. قال: فطلب حجاما،
فقالت ثكلتك أمك، إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة
فلو لا تبصرها بالكلام ومذاهب العرب والتوسعة في اللفظ لتم عليها جهل هذا الرجل
تباعد المخارج
قال الثعالبي وهو محمد بن عمر بن الحسن التميمي البكري، من كتبه (مفاتيح الغيب): البليغ من يحول الكلام على حسب الأمالي، ويخيط الألفاظ على قدر المعاني. ومن المستحسن في الألفاظ تباعد مخارج الحروف، والمعيب من ذلك قول الشاعر: (لو كنت كنت كتمت الحب كنت كما/ كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن). وقال بعضهم: ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه/ ولا ضعف الضعف بل مثله ألف
وقال آخر: (وقبر حرب بمكان قفر/ وليس قرب قبر حرب قبر
قيل إن هذا البيت لا يمكن انشاده أكثر من عشر مرات متوالية إلا ويغلط المنشد، لأن القرب في المخارج يحدث ثقلا في النطق
قيل إن معن بن زائدة، وهو من أشهر أجواد العرب، وأحد الشجعان الفصحاء، أدرك العصرين الأموي والعباسي، دخل على المنصور فقال له: يا معن تعطي مروان بن أبي حفصة،
وهو شاعر كتابي الأصل عن شعراء بغداد، مئة ألف على قوله: (معن بن زائدة الذي زادت به/ شرفا على شرف بنو شيبان). فقال: كلا يا أمير المؤمنين إنما أعطيته على قوله: (ما زلت يوم الهاشمية معلنا/ بالسيف دون خليفة الرحمن/ فمنعت حوزته وكنت وقاءه/ من وقع كل مهند وسنان
قال: أحسنت والله يا معن، وأمر له بالجوائز والهدايا
مطارحة شعرية
قيل إن بن أبي محجن، وهو أبو محجن الثقفي بن الأدرع الأسلمي، كان من كبار الرماة، وابن أبي محجن ولده دخل على معاوية فقام خطيبا فأحسن، فحسده معاوية وأراد أن يوقعه، فقال له: أنت الذي أوصاك أبوك بقوله: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة/ تروي عظامي بعد موتي عروقها/ ولا تدفني في الفلاة فإنني/ أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
قال بل أنا الذي يقول أبي: لا تسأل الناس ما مالي وكثرته/ وسائل الناس ما جودي وما خلقي/ اعطي الحسام غداة الروع حصته/ وعامل الرمح أرويه من العلق/ واطعن الطعنة النجلاء عن عرض/ واكتم السر فيه ضربة العنق/ ويعلم الناس أني من سراتهم/ إذا سما بصر الرعديد بالغرق
فقال له معاوية: أحسنت والله يا بن أبي محجن، وأمر له بجائزة
بداهة وفصاحة
قال لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أحد يهود خيبر: ما لكم لم تلبثوا بعد نبيكم إلا خمس عشرة سنة حتى تقاتلتم؟ فقال علي كرم الله وجهه: ولم أنتم لم تجف أقدامكم من البلل. قلتم: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة
وقيل دخل عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب على معاوية، وقد كف بصره، فأجلسه معه على السرير ثم قال له: أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم، فقال له عقيل: وأنتم معشر بني أمية تصابون في بصائركم
وفي قصة أخرى، وجد الحجاج مكتوبا على منبره: قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار، فلم يمسحه بل كتب تحته: قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور
يقول الشاعر: وزن الكلام إذا نطقت فإنما/ يبدي عقول ذوي العقول المنطق
قال معاوية يوما: أيها الناس إن الله حبا قريشا بثلاث، فقال لنبيه الكريم: ( وأنذر عشيرتك الأقربين) ونحن عشيرته الأقربون. وقال تعالى: (وإنه لذكر لك ولقومك) ونحن قومه. وقال تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم) ونحن قريش. فأجابه رجل من الأنصار فقال: على رسلك يا معاوية فإن الله تعالى يقول (وكذب به قومك وهو الحق) وأنتم قومه. وقال تعالى (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون). وأنتم قومه. وقال تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)، وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة يا معاوية ولو زدتنا لزدناك
خطب معاوية يوماً فقال: إن الله تعالى يقول: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم)، فعلام تلومونني إذا قصرت في عطاياكم؟ فقال له الأحنف وهو من أنصار الإمام علي: وإنا والله لا نلومك على ما في خزائن الله، ولكن على ما أنزله الله لنا من خزائنه فجعلته في خزائنك وحلت بيننا وبينه
قبل الختام
قال ملك لوزيره: ما خير ما يرزقه العبد؟ قال: عقل يعيش به. قال الملك فإن عدمه؟ قال: أدب يتحلى به. قال فإن عدمه؟ قال: مال يستره. قال فإن عدمه؟ قال فصاعقة تحرقه وتريح منه العباد والبلاد