بوابة الأمال

( الإعاقة ليست فقد القدرة على شئ وإنما هى فقد العزيمة والفكر )

 

تمهيد عام:

لا تخلو الآداب والفنون الإنسانية، منذ تاريخ نشأتها، من تناول حقوق الإنسان بصفة عامة، فأغلب جماع هذه الآداب والفنون يقوم على الموضوعات التي تدور حول هذه الحقوق، بدءاً من الحرية الشخصية والحرية السياسية، ومرورا بحرية الفكر والحق في التعبير وغير ذلك، بل إننا لابد أن نلاحظ أن فحوى الآداب والفنون ذاتها هو الحق في حرية التعبير. وإذا كانت ندواتنا السينمائية تعتني بأفلام السينما المصرية التي تدور حول أحوال السجناء بصفة العامة [ استنادا إلى مفهوم "المسجون" بمعناه الواسع، الذي يعد داخلا في دائرة هذا الوصف منذ أن يكون خاضعا لسلطة التحقيق القضائي أو جمع الاستدلالات الشرطة، وهكذا ] باعتبار أن حقوق السجناء هو الوجه الذي كثيرا ما يتواري من وجوه حقوق الإنسان المتنوعة، ذلك أن السجين خلف أسوار السجن [ السجن بمعناه العام أيضا بدءا من غرفة الحجز داخل قسم الشرطة أو حتى داخل مقر " العمدة " ] يكون كائنا متواريا عن عيون العامة وأفكارهم أيضا [ غالبا ] ولذلك فإن محاولتنا تلمس مواقع هذه الحقوق على شاشة السينما المصرية، هى الجزء الأساسي من نشاط الثقافة السينمائية الذي يقوم به مركز حقوق الإنسان لمساعدة السجناء، ولكننا [ من جهة أخرى ] لا بد أن يسترعي انتباهنا أي فيلم سينمائي مصري يتناول قضايا حقوق الإنسان، أيا كانت هذه القضايا، تناولأ مباشراً، وهذا هو الداعي الحقيقي لاختيار فيلم           " الصرخة "  ليكون موضوع ندوتنا السابعة في هذا المجال، فهو فيلم يتخذ من قضايا أصحاب الاحتياجات الخاصة موضوعاً له، وهم على وجه التحديد المصابون بداء " الخرس " أو " الصم البكم".

ا- مقدمة

موقف السينما المصرية من ذوى الاحتياجات الخاصة

ذو الاحتياج الخاص هو الشخص الذي لا يمتمكن من مباشرة ناحية أو أكثر من نواحي النشاط البشري ذات الطابع الشخصي، المرتبطة بالحواس الإنسانية بصفة خاصة، أو بالحالة الذهنية، أو الأجهزة الحسية، وذلك بسبب وجود إعاقة تمنعه من ذلك، سواء كانت هذه الإعاقة مصاحبة لميلاد الشخص أو لاحقة في حياته بعد ميلاده، مثل الإعاقات الخاصة بالحواس الهامة[ البصر – السمع ] والحركة الجسمانية [ شلل الأطفال – الشلل النصفي – الشلل التام ] وعدم القدرة على التكلم [ الخرس – شلل اللسان – قطع اللسان ] والإعاقات الذهنية بدرجاتها المختلفة وغيرها، وفي كل هذه الحالات، غالباً ما يكون صاحب الاحتياج الخاص في حاجة إلى معونة الآخرين لمباشرة نشاطه الإنساني الحيوي بصفة عامة، إلا أن هناك حالات أكثر إلحاحاً من غيرها تظهر في حياة ذوى الاحتياجات الخاصة، ولعل في مقدمتها فقدان البصر التام والإعاقة الذهنية [ خاصة الشديدة ].

ولأن ذا الاحتياج الخاص لا يخرج عن كونه حالة إنسانية وعضواً إجتماعياً بصفة عامة [ في نفس الوقت ] سواء على مستوي الأسرة بمعناها الضيق [ الأبوان والإخوة ] أو على مستوي المجتمع بصفة عامة، فهو لا بد أن يكون موضوعاً من موضوعات الآداب والفنون بصفة عامة، ومن ثم فإن له تواجداً ملموسا على الشاشة السينمائية. وإذا كان هذا التواجد غير مطروق بكثرة في أفلام السينما المصرية [ العربية ] عموماً، إلا أنه – وفي المقابل – تواجد ملحوظ بشدة في أفلام السينما الأوربية والسينما الأمريكية. ونستطيع أن نقرر – بدون أية مبالغة أو تجاوز – أن اهتمام الفن السينمائي بذوى الاحتياجات الخاصة يتناسب تناسباً طردياً مع اهتمام المجتمع ذاته بهم. وهذا الاهتمام، في حد ذاته، هو علاقة من العلاقات الدالة على مدي تقدم هذا المجتمع. لذلك فإن تقدم الدول الغربية، بما يحمله من اهتمام ملحوظ بذوى الاحتياجات الخاصة، يسايره [ وبنفس الدرجة تقريباً ] اهتماما الفن السينمائي، في هذه الدول، بتقديم أعمال فنية تعالج هذا الموضوع أو تدور حوله، بما يتضمنه ذلك من أسانيد علمية [ غالباً ] تتصل بكل فيلم [ وما يتضمنه ] على حدة.

لذلك فإن اهتمام السينما المصرية بذوى الاحتياجات الخاصة هو اهتمام قاصر، من الناحية النسبية، سواء كان هذا القصور يتمثل في عدد الأفلام، أو في بدء التوجه نحو هذا الاهتمام، من خلال موضوعات الأفلام ذاتها، كما يتمثل هذا القصور في ندرة الأفلام السينمائية المصرية التي تتناول الشخصية الإنسانية من ذوى الاحتياجات الخاصة تناولأ مباشراً، باعتبارها الشخصية الرئيسية أو على الأقل الشخصية المحورية. وإذا كانت السينما المصرية كثيرأً ما تقدم شخصيات ذات عاهات خاصة، فإنه من المهم أن نعرف أنه ليست كل العاهات تمثل فكرة " الاحتياج الخاص "، لذلك فإن شخصية " الأعرج " في عدد من الأفلام قد تدور حولها أعمال سينمائية تعالج حالته [ أو بالأخرى " عاهته " ] ولكنها تخرج عن نطاق " ذوى الاحتياجات الخاصة [ راجع فليمي اليتيمتان " إخراج : حسن الإمام ، 1948 ، ]" باب الحديد "  [ إخراج : يوسف شاهين، 1958 ].

وبالنظر إلى السينما المصرية، نستطيع أن نلاحظ أنها تقدم ذوى الاحتياجات الخاصة من الكبار والأطفال على حد سواء، فهناك عدد من الأفلام التي تعرض لمسألة " الطفل ذى الاحتياج الخاص "، وهو ما يعرف لدي العامة باسم " الطفل المعوق "، سواء كان مصدر الاحتياج الخاص عضوياً ظاهراً، كالكساح أو شلل الأطفال، أو نفسياً غير ظاهر أو عقلياً أو ذهنياً. ولشلل الأطفال موقعه في مثل هذه الأفلام، فالطفل الصغير – إبن ضابط الشرطة في فيلم " أنا الهارب "[ إخراج:  نيازي مصطفي، 1962 ] مصاب بشلل الأطفال، ويعاني أبوه معاناة نفسية شديدة بسبب عدم توافر المبلغ المالي اللازم لعلاجة بالخارج، وينتهز بعض المجرمين فرصة الوقوف على هذه المعلومة عن حياة الضابط الخاصة، ليؤكدوا إتهامهم المزور له بالحصول على رشوة لتهريب عدد من المسجونين أثناء ترحيلهم. وتغفل " نعيمة "، حارسة المرآب في فيلم " الجراج " [ إخراج : علاء كريم ، 1995 ] عن متابعة تطعيم أحد أطفالها ضد مرض شلل الأطفال، فيصاب به، ولكن الطفل يتعايش مع حالته في سلام، وإن كانت الأم لا تفتأ أن تشعر بالذنب تجاهه بصفة مستمرة، باعتبارها المسئولة عن إصابته هذه. وفي فيلم " التحويلة " [ إخراج : أمالي بهنسي، 1996 ] يعيش عامل التحويلة البسيط مهموماً بمسألة الحصول على جهاز خاص يساعد إبنته المصابة بشلل الأطفال على السير والحركة من مكان لآخر، والفيلم ينتهي باغتياله شهيداً داخل أحد المعتقلات السياسية الصحراوية بدون أن تحصل إبنته على هذا الجهاز. وفي فيلم " كفاني يا قلب " [ إخراج : حسن يوسف، 1977 ] تتخلى الأم الشابة عن طفلتها الوحيدة، فلا تلقى الرعاية الكافية في غياب الأم اللاهية، فتصاب بشلل الأطفال. وفي فيلم " خمسة باب " [ إخراج : نادر جلال، 1983 ] تحترف الأم الشابة الحسناء الدعارة [ عندما كانت مهنة منظمة في مصر ] لأن فقرها المدفع لا يسمح لها برعاية طفلها المذلوج، وفي فيلم " السبع بنات " [ إخراج : عاطف سالم ، 1961 ] يعيش الطفل المفوج في رعاية شقيقه الأكبر، وهو شاب رياضي مرموق، ولكن هذا الشاب يلقى مصرعه في حادث طائرة، فتكرس خطيبته حياتها لرعاية الطفل، ولا تقبل الزواج إلا ممن يقبل مشاركتها في رعايته. ولفقدان البصر أيضا ومكانه على الشاشة المصرية وهو يصيب الطفل، ففي فيلم " بطل للنهاية " [ إخراج : حسام الدين مصطفي، 1963 ] يشكل الطفل الضرير مصدراً لمسئولية إضافية تواجه أبويه، فالأم مسئولة عن رعايته ، والأب يتوب عن سلوكه الإجرامي في سبيل العودة إلى الاهتمام بأسرته ورعاية إبنه على وجه التحديد، حتى أنه يعرض نفسه لرحلة من " المخاطر البوليسية " من أجل الحصول على مكافأة يستعين بها في إجراء جراحة لعيني الطفل ترد له بصره، ولكن الطفل الصغير " طه حسين " في فيلم " قاهر الظلام " [ إخراج : عاطف سالم، 1979 ] يصاب بالعمي بسبب الجهل، ولا تفلح أية وسيلة في استعادة البصر إليه، فيتكيف مع الحياة منذ الطفولة على أن أن يعيش بدون إبصار، حالا مكانه البصيرة، وهناك أطفال معاقون ذهنيا تقدمهم شاشة السينما المصرية، ففي فيلم " الغرقانة" [إخراج : محمد خان، 1993 ] تنجب الشابة الحسناء " وردة " طفلا معوقاً غير كامل النمو من الشيخ " حجاب "، تسمية هى " يحيى "، أما أبوه فيسميه " المبروك " وتبرر أم " وردة " حالة الطفل هذه بأنه " من خلقة العجائز "، إشارة إلى أبيه المسن، الذي يحول الطفل إلى مصدر رزق له، فالأب مشعوذ دجال، يزعم أن إبنه " مبروك " وأن بركاته تحل بمن يقصده ويدفع له أو يقدم له نذراً أو هدية ذات قيمة، وفي فيلم " ليلة ساخنة " [ إخراج : عاطف الطيب ، 1996 ] يعيش سائق التاكسي " سيد " مع أمه المسنة وطفله الصغير صاحب الإعاقة الذهنية، الذي يسبب له كثيرا من المشاكل ولكنه دائم العطف عليه، مقيماً على رعايته، وهو يلحقه بمدرسة خاصة بالأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة، ودائما ما يحمله على ظهره أو فوق كتفيه ، ولا ينقطع عن المرح معه، وقد يولد الطفل سليماً، ولكن حادثاً يتسبب في إعاقته [ وهو أمر يسرى على جميع الأعمار بصفة عامة ] ففي فيلم رسالة إلى الله " [ إخراج : كمال عطية، 1961 ] تتعرض الطفلة الصغيرة عائشة لحادث سيارة يتسبب في إعاقتها ذهنياً وجسمانياً، فتتوقف عن الكلام، ويتشوه وجهها، وتعاني نوعاً خاصاً من الشلل، كما أن الجهل بالمرض قد يتسبب في مضاعفات للطفل المريض تؤدي به إلى الإعاقة، كما لاحظنا في فيلم "الجراج" وكما هو في فيلم " نحن بشر" [ إخراج : إبراهيم عمارة، 1955] حيث يؤدي الامتناع عن عرض الطفل المريض بالحمي على الطبيب المختص إلى استشراء الحمي، إلى درجة إصابة الطفل الصغير بالشلل كما تقدم السينما المصرية الكبار من ذوى الاحتياجات الخاصة، ويأتي في مقدمتهم المصابون بفقدان البصر، ففيلم " قاهر الظلام " يتابع  " طه حسين " وهو ينمو في ظل فقدان البصر حتى يصير أدبياً مرموقاً ويصبح وزيراً للمعارف ذات يوم. ويقدم كلا من فيلمي " أسير الظلام " و" الشموع السوداء [ وهما من إخراج : عز الدين ذو الفقار ، 1947 و 1962 على الترتيب ]رجلا يفقد البصر لعدة سنوات بسبب صدمة عاطفية قوية، وهناك أكثر من "ضرير " يظهرون على شاشة السينما المصرية، لعل من أشهرهم الشيخ " عيد " في فيلم ليه يا بنفسج " [ إخراج : رضوان الكاشف. 1993] والضابط الطيار السابق في فيلم " أمير الظلام " [ إخراج : رامي إمام ، 2002 ] وغيرهما كثيرون، ولكن لعل أشهرهم هو " الشيخ حسني " في فيلم " الكيت كات " [ إخراج : داود عبد السيد، 1991 ] وإذا كان هناك من يولد فاقد النطق مثل " الخرساء " [ إخراج : حسن الإمام ، 1961 ]  "عمر الفرماوى " في فيلم " الصرخة " [ إخراج : محمد النجار، 1991 ] ففي المقابل هناك من يفقد النطق لسبب نفسي عارض كما في فيلم " الأخرس " [ إخراج : أحمد السبعاوي، 1980] وفيلم " رد قلبي " [ إخراج : عز الدين ذو الفقار ، 1957] وبسبب قطع اللسان ذاته كما في فيلم "بهية" [إخراج: رمسيس نجيب، 1960] وقد يولد الإنسان معوقاً ذهنياً ويستمر كذلك كما في فيلم " توت توت" [إخراج: عاطف سالم، 1993 ] وفيلم " الساحر " [ إخراج : رضوان الكاشف ، 2002] وقد يصاب بها إصابة عارضة كما في فيلم " خللي بالك من عقلك " [ إخراج: محمد عبد العزيز، 1985] حيث تتخذ الإعاقة النفسية فظهر الإعاقة الذهنية في بعض جوانبها.

2- فيلم "الصرخة" 1991

أولاً: بيانات توثيقيه

 الإنتاج: الأهرام للسينما والفيديو [ إبراهيم شوقي ]

الإخراج: محمد النجار

القصة والسيناريو والحوار: كرم النجار

التصوير: طارق التلمساني

المونتاج: فتحي داود

الموسيقى: راجح داود

مهندس الديكور والمشرف على الملابس : رشدي حامد

تعليم الإشارات والمتابعة أثناء التنفيذ : محمد فرج

التمثيل: نور الشريف(عمر الفرماوى)- معالي زايد (تيسير المحمودي)- نهلة سلامة  (معزوزة)- وفاء الحكيم (علية)-  أمل الصاوي (وفاء )- سمير وحيد – عبد الرحيم حسن – عبد الحفيظ التطاوى -  محمود العراقى –عبير الصغير (فكرية) - عثمان الحمامصي – رشدى عسكر  أحمد أبو عبيه – عبد العزيز عيسى- أشرف طلبه- ضيف الفيلم : فاروق قمر الدولة.

ثانياً: ملخص قصة الفيلم

          يعيش الشاب الأبكم الأصم " عمر الفرماوى " في كنف أبيه عامل التحويلة " الفرماوى " [ الأب ]، بين جدران مسكن بسيط جداً، من تلك المساكن التي توفرها هيئة السكك الحديدية لنفر قليل من عمالها. ومنذ البداية نجد أن هذا الأب يعيش مهموماً بهمين يسيطران على تفكيره وهما مصير إبنه الأبكم الأصم بصفة عامة، وبصفة خاصة بعد رحيل هذا الأب عن الحياة، والهم الآخر هو دنو أجل الوظيفة الحكومية بالإحالة للمعاش بعد وقت قصير جداً مع أنه يحمل في داخله أملا مضاداً لكل من هميه الكبيرين، فهو يأمل في إجراء جراحة دقيقة لإبنه تعيد إليه السمع [ على الأقل ] كما يأمل في أن تصدق وعود رؤسائه بمد خدمته بعد سن التقاعد، ومع ذلك فإن كلا الأملين يتبخران في وقت متزامن [ تقريبا] فالخبير الأجنبي يعلن فوات أوان جدوى الجراحة المأمولة، وهيئة السكك الحديدية تخذله برفض طلبه مد الخدمة بعد سن الستين، وتحت وطأة ذلك كله، لا يحتمل الأب الصدمة فيموت تاركاً وحيده الأصم الأبكم يواجه ما كان الأب يخشي عليه منه، حيث يواجه في حياته المقبلة أزمات تتصاعد في شدتها بسبب عاهته، وحيث يجد نفسه مطروداً من المسكن البسيط  بحسب التعليمات الحكومية أو نظمها الإدارية.

          نحن بدابة نستطيع أن نضع أيدينا بسهولة على مواطن التعريف بشخصية " عمر الفرماوى "، فهو شاب أقرب إلى التحلى بالخلق الديني المألوف، نراه يمارس الصلاة [ وإن كان الفيلم لا يبين كيف يكون ذلك والفيلم ذاته يركز على أنه أمى يجهل القراءة والكتابة ولم يلتحق بعد بمعاهد تعليم الصم والبكم ] يكره مظاهر الفحشاء [ في بداية الفيلم يكتشف أن إحدى بنات الحى تمارس الجنس في مكان عام ليلا مع أحد الرجال، ولا يقبل عذرها وهى تشير له بأن هذا الرجل سوف يتزوجها، فهو يبصق في وجهها على الرغم من ذلك ] كما أن " عمر " لا يعيش عاطلا حتى وهو في كنف أبيه أثناء حياته [ فهو يقوم، ليس بأداء عمل واحد، بل بعدة أعمال معا في نفس الوقت، فهو يعمل في تنظيف السيارات ودهانها، كما أنه يقوم بشراء أية مستلزمات خاصة بأرباب المهن من أهل الحى في مقابل ما يعطونه له أجراً عن ذلك ] وهو كثيراً ما يجنح إلى العنف في اقتضاء حقه، إذا كان العنف هو الطريق المتاح لذلك [ فعندما يثيره أحد الصبية العاملين بالورشة باختلاس طعامه، لا يتورع " عمر " عن العراك معه بعنف] واستنادأ إلى هذه الملامح الشخصية الخاصة بالشاب الأبكم الأصم ، نستطيع أن نتابع فيلما مصرياً يجنح إلى بساطة السرد التامة، وهو يقدم الشاب محبوباً عادة ] من أهل الحى، باراً بأبيه، يعتذر بأدب عن قبول نقود مكافأة نهاية الخدمة، فهو يعمل ويحصل على أجره مقابل العمل، يرتاء محافل الصم والبكم [ ناد خاص بهم ] ليس من السهل استغفاله، فهو ليس ساذجا فعندما يطلب منه أحد أصدقائه نقوداً أثناء النزهة في حديقة الحيوان، فإنه يرفض ذلك وهو يكشف عن أن هذا الصديق يحتفظ ببعض النقود مخفياً إياها في جوربه. وهو كشاب لا بد أن يميل إلى الجنس الآخر، فما أن يعرف أن "معزوزة " الفتاة الحسناء إبتة " قهوجي " الحي سوف تكون ضمن صحبة الشباب في نزهة حديقة الحيوان، فيوافق على الاشتراك في هذه النزهة، وداخل الحديقة نفسها يلفت نظره " ثنائيات الحب الشبابي" فيراوده خاطر الزواج، لذلك يعرض على " معزوزة " أن تتزوجه، ولكنها تسخر من عاهته، ولكن يبدو عليها غلبة طابع الشره للمال فتضع شرطا للزواج منه أن تضع يدها على كل ما يتصل له من مال تعده له على أصابع يدها [ مكافأة نهاية خدمة أبيه، أجره من الورشة، ما يأخذه قضاء احتياجات أهل الحي 00 إلخ ] وعندما تداهم الشرطة مسكنه الذي تملكه 0 الحكومة، بغرض إخلائه، وبشاهد أثاث بيته البسيط وهو يلقى خارجا يقاومهم الشاب، إلى حد الاعتداء على أحدهم وإحداث إصابات جسيمة به، ثم يهرب من مطاردة رجال الشرطة له، مما يضطره للانتقال من مكان لآخر، وهو يعتقد أنه تسبب في مصرع الشرطي، لذلك يقوده هربه إلى صديقة "فؤاد" الأصم الأبكم الذي يمتلك ورشة صغيرة لإصلاح الأجهزة الكهربائية ويديرها، وعن طريقة يعلم أن الشرطي المصاب لم يمت، ولكن الأهم من ذلك أن " فؤاد" يصحب " عمر" إلى مقر المعهد الأهلي للسمع والكلام، أملا في الحصول على قدر مناسب من العلم، خاصة أن جهل " عمر " بالقراءة والكتابة هو السبب في عدم الوقوف على حقيقة المأمورية التي يقوم بها رجال الشرطة الذين داهموا المسكن فجأة لطرده، في هذا المعهد يلتقي بالباحثة الشابة " تيسير المحمودي" التي تتحمس لالتحاقه بالمعهد لتتخذ منه حقلا حيا لتجاربها وأبحاثها العلمية التي تعدها في شكل رسالة للدكتوراه عن " الصم والبكم " وإذا كان " عمر " يقبل أن يتعاون مع " تيسير " في بحثها هذا عن طريق المعهد، فإنه من داخل المعهد تلفت انتباهه " وفاء" تلك الفتاة الصماء البكماء، وسريعا ما تجمع الألفه بينهما، وسريعا أيضا ما تدب الغيرة في قلب الفتاة الصغيرة وهى تلاحظ أن اهتمام الباحثة يسحب الشاب من أمامها في أكثر من مناسبة داخل جدران المعهد وأسواره والواقع أن اهتمام الباحثة بالشاب يبدأ اهتماما علميا ولكنه ينتهي بها اهتماما حسيا بحتا ينصب على ذكورة الشاب، الذي يعتقد أن هذا الاهتمام يعبر عن رغبتها في الاقتران به لحبها له، ولذلك فإن مرجعيته الأخلاقية التي لا تخلو من نوع من التدين، تحتم عليه عدم الاستجابة للدعوة الحسية التي تدعوه إليها الباحثة المطلقة الشابة بصراحة ووضوح وهى شبه عارية في غرفة نومها، لينتهي الأمر بطردها له من مسكنها في ثورة غضبها الأنثوية، ولعل ذلك هو الدافع السريع الذي يجعل " عمر " يسرع إلى " وفاء " ليطلب منها الزواج، إلا أن عزة نفس الفتاة تجعلها ترفض عرضه وهى متأكدة من وجود علاقة بين الشاب والباحثة تتجاوز فكرتي البحث العلمي [ من جهة الباحثة ] والتدريب على القراءة والكتابة عن طريق الإشارات [ من جهة الشاب ] وإزاء إخفاق الشاب في محاولة استعادة العلاقة بفتاته الصماء البكماء، يعود إلى " معزوزة " عارضا عليها الزواج، فتقبل بفكرته وهى تطمع في أن تضع يدها على ما يحوز من مال، يعد بالنسبة لفقرها المدقع ثروة غير قليلة، ومع مرور الوقت تفصح العروس  الشابة عن شهوتها الحقيقية للمال، التي تكاد أن تتفوق على حياتها الزوجية مع الشاب، فلما يكتشف ذلك، ويعرف أنها تجد وتكد في البحث عن المكان الذي يخفي فيه ماله، يخبرها عن مكانه في أحد أعمدة السرير الذي يجمع بينهما على فراش واحد، ولكنه يمنعها من الاغتراف منه، كما كانت تعتقد وتهوي، بل إنه يطردها من مسكن الزوجية شر طرده، ولأن الظرف النفسي لديها مهيا للانتقام منه، فإنها تشير على صديقتها " فكرية " بأن تتهم " عمر " باغتصابها، كرها عنها، خاصة أنها قاصر، مما أدي إلى حملها بجنين منه، فإذا تذكرنا أن " فكرية" هى إبنة الحي التي سبق أن شاهدها " عمر " وهى تواقع أحد الرجال جنسيا، وعرفنا أن "فكرية" تبحث عن مخرج لها من ورطتها بعد أن تخلي عنها العشيق وتخلف عن وعده لها بالزواج، نستطيع أن ندرك مدي تهيئة أرض المؤامرة لغرس شجرة الانتقام بيد الشابتين، الزوجة بعد أن أهينت وطردت وطار منها حلم الثروة [ مهما كانت بسيطة ] والفتاة الحامل التي سبق أن بصق " عمر " في وجهها، فتضمن الأولي أن تضع يدها على الثروة التي رأتها بعينيها في منزل الزوجية، وتضمن الثانية نسبا لوليدها القادم سريعا حتى لا يحسب سفاحا.

ويتعرض " عمر " للسلسلة المعتادة من التحقيقات القانونية، بدءا من الشرطة ومرورا بالنيابة العامة، وانتهاء بساحة القضاء في مبني المحكمة، وفي كل منها تطرح الفتاة الحامل " فكرية " إدعاءها، وتؤازها فيه بشهادة الزوجة " معزوزة " وينكره بالكامل " عمر " إلا أن المفاجأة الحقيقية تطرح ذاتها داخل قاعة المحكمة في إحدى جلساتها، فعندما يلمح " عمر " حضور " تيسير " الباحثة العلمية، لمشاهدة الجلسة، يسارع بأن يطلب من رئيس المحكمة أن تكون هى مترجمة إشاراته لتأخذ المحكمة بشهادتها عن أخلاق " عمر " ومن ثم يوافق رئيس المحكمة على طلبه عندما تشهد خبيرة الإشارات " علية " بأنه يمكن أن تحل " تيسير " محلها في ترجمة إشاراته، خاصة أنها معلمته الرسمية، وعن طريق الإشارات يطلب " عمر " من "تيسير" أن تذكر للمحكمة حقيقة ما وقع بينهما سابقا، وأنها سبق أن راودته جنسيا بينما رفض هو هذه العلاقة إلا عن طريق الزواج، وأسقط بين يدى الباحثة، في الوقت الذي يفهم فيه جميع الحاضرين من الصم والبكم إشارات " عمر"، وكذلك خبيرة الإشارات " علية" ولكن سرعان ما تتماسك " تيسير" وتعلن لرئيس المحكمة أن " عمر يصر على إنكار ما تدعيه " فكرية" وتشهد به " معزوزة " فيعلنه رئيس المحكمة، عن طريق " تيسير" أنه لا بد أن يختار بين الزواج من "فكرية" وبين التعرض لعقوبة السجن بتهمة اغتصاب قاصر، ولكن ذلك كله يتوه وسط ثورة " عمر"، خاصة أن "تيسير" تنفرد به أمام هيئة المحكمة، بعد أن قام رئيس المحكمة بإخلاء القاعة من جميع الحضور بسبب ثورة الحاضرين من الصم والبكم الذين يعرفون أن " تيسير" تزور شهادة " عمر" وتحجم عن تقديم الترجمة الصحيحة لإشاراته، وإزاء ذلك كله، يقبل " عمر" الزواج من "فكرية"، ولكننا نكتشف أن مجموعة الصم والبكم تجتمع لتقرر اتخاذ موقف حاد تجاه النسوة الثلاث اللاتي تسببن في الإساءة إلى"عمر" وتعريضه لما يقع له على هذا النحو، في الوقت الذي تعود فيه العاطفة لتجمع بين " عمر " وفتاته " وفاء "، التي باتت متأكدة من براءته مما نسبته إليه أفكارها السابقة، ويتضح أخيرا أن مجموعة الصم والبكم بقيادة " عمر " وأصدقائه منهم، قد قررت إيقاع انتقام بشع بالنسوة الثلاثة " تيسير ومعزوزة وفكرية " فهم يخطفون كل واحدة منهم على حدة، ويتسللون بهن إلى معهد السمع والكلام، ويضعونهن في مقصورة اختبار السمع، ويطلقون عليهم ذبذبات الصوت المرتفعة إلى أن يفقدن حاسة السمع، بعد أن يتحدث عمر مع كل امرأة من النسوة الثلاثة مذكراً إياها بسبب تأمرها عليه وانتقامها منه على هذا النحو، وعندما يأكد "عمر" من أن النسوة الثلاث فقدن سمعهن يطلق صرخة قوية يعبر بها عن صيحة الفرح بالانتقام.


 

3- القضايا التى يثيرها الفيلم من وجهة نظر

حقوق الإنسان بصفة عامة

على الرغم من أن فيلم " الصرخة " يبدو مركزا تماما على حقوق أصحاب الحاجات الخاصة، الذين يعرفهم العامة عادة باسم " المعاقين" إلا أننا نلمح أن جانبا هاما منه يقع في دائرة " حقوق السجناء" بالمعني الواسع، فالمسجون بهذا المعني هو من يقع تحت طائلة السلطات التنفيذية والقضائية [ كل في اختصاصه ] من خلال التحقيق في أفعال منسوبة له، والحكم عليه بعقوبة قابلة للتنفيذ. ونحن نتقابل هنا مع " عمر الفرماوى " وهو يمر بهذه الحالة منذ وقوعه في دائرة اتهام " فكرية " له باغتصابها .

أ . خلال محاكمة " عمر الفرماوى " بتهمة اغتصاب " فكرية " يتعرض لعدد من الأفعال، التي تمثل إهداراً لحقوقه الإنسانية بصفة عامة، ولكننا نكشف من خلال أحداث الفيلم أن جميع هذه الأفعال [ تقريبا ] لا تصدر عن أية سلطة يمكن أن يخضع لها " عمر" أثناء التحقيق معه ثم محاكمته، فهو لا يتعرض لأي إهدار من قبل الشرطة أو النيابة العامة أو هيئة المحكمة، إنما ما يتعرض له من إهدارات تقع عليه هى من شخصيات خارج هذه "الهيئات السلطوية" التى اعتادت الأفلام السينمائية المصرية أن تجعل منها – خاصة السلطة التنفيذية ممثلة في الشرطة وإدارة السجون – المصدر الرئيس [ ويكاد أن يكون الوحيد ] لهذه الإهدارات، فنحن تتقابل في هذا الفيلم مع عدد من التصرفات التي تتكاتف لكي تسئ إلى شخص " عمر " للحكم عليه بعقوبة جنائية غير بسيطة، وهى تصرفات تصب في مجملها في دائرة " تزوير الشهادة، عليه، فزوجته " معزوزة " تشهد ضده بأنه قام باغتصاب " فكرية "، وإخصائية الإشارات تمتنع عن التقدم بشهادتها لتقديم الترجمة الصحيحة للاشارات التي يتحدث بها " عمر" إلى " تيسير" بعد أن تتعمد " تيسير " تزوير ترجمة هذه الإشارات، و" تيسير " تزور الترجمة وتصر على تزويرها حتى النهاية، ولكن الشئ اللافت للانتباه، أن الفيلم يدين النسوة الثلاث: " تيسير ومعزوزة وفكرية " ولا يدين معلمة الإشارات المقدمة في الأصل من المحكمة لهذه التهمة، وهى ترجمة إشارات "عمر" للمحكمة مترجمة أسئلة المحكمة لعمر، فإذا كان الفيلم يدين " الشيطان الأخرس" داخل الإنسان، كي يدين الإنسان الساكت عن قوله الحق، ويفلسف ذلك كل من خلال نسيجة الدرامي فإنه بذلك يبلغ رسالته بما تحمله من مضمون ذى سمة أخلاقية غالبة، ولكن الذي يعينا هنا هو أن هذه إلا دانة الأخلاقية لا تسرى على " علية " الباحثة والاخصائية ومترجمة الإشارات، مع أنها تعرف مضمون الحديث الصامت الذي يدور بين " عمر " و" تيسير" عبر قفص الاتهام، شأنها شأن بقية الحاضرين من الصم البكم، ولكنها مع ذلك لا تتقدم لتدلي بما تعرفه أمام هيئة المحكمة، بل إننا نلاحظ أن "تيسير" تقوم بمحاكمة من ظلموا "عمر" وهو في قفص الاتهام، وهى تعني نفسها أولا، ولكنها تعني " علية" ثانياً، وعلى حد قول الناقد السينمائي " حليم زكري ملكية :" الأولي تغير أقوالها لكى لا تفضح نفسها عندما يستشهد بها عمر بأنها طلبت منه ممارسة الجنس معها لكنه رفض بحكم تربيته الدينية وخوفه من الله، والثانية تعرف أن زميلتها تكذب أمام المحكمة ولكنها لم ترد أن تكذبها وتفضح سلوكها الشائعة" [ نشرة نادي السينما بالقاهرة، السنة 25 النصف 1 العدد 14 في 13-4-1992 ] إنما يشير الفيلم إشارة باهته إلى محاولة استغلال ضابط شرطة لنفوذه باحتجاز " عمر " بحجة الاعتداء على ابنته، فالواقع أن الفتاة كانت تهبه نقودا للمساعدة منها له، ولكنه لا يقبل هذه الهبة، فهو يعمل وليس متسولا، وأثناء محاولة إعادة هذه النقود يلمحه أبوها فيعتقد أنه يعتدي عليها، فيسارع بمحاولة ضرب "عمر" يصده بقوة وعنف، فينتهي الأمر باحتجازه بقسم الشرطة إلى أن يتدخل بعض من أهل الحي لاسترضاء الأب فيفرج عنه.

ب -  وخارج دائرة التحقيق الجنائي يهتم الفيلم بالتركيز على حقوق ذوى الاحتياجات الخاصة من خلال الإعاقة السمعية الكلامية، وبالتحديد [ أو بالاكثر ] من خلال شخصية الشاب الأبكم الأصم " عمر الفرماوى ".

وبداية يؤكد الفيلم على موقفه من الأبكم الأصم، موضحا بدون أى لبس أو غموض أنه إنسان عادي، وبالتحديد أنه إنسان سوى، يمكن أن يعيش حياة طبيعية لا تقل عن حيوات الآخرين غير المصابين بمثل عاهته، فهو يفهم أمور الحياة جيدأ، بل إننا لا بد أن نصفه بأنه أكثر ذكاء، وهو يتمكن من فهم الآخرين والتفاهم معهم بدون الاستماع إليهم وبدون التخاطب منه، فهو يستعين بحاسة البصر، بالإضافة إلى وظائفها المعتادة بالنسبة للاشخاص العاديين، لتعويض عنصرين أساسيين من عناصر الاتصال الرئيسية الثلاثة [ البصر، السمع، النطق ] ولا تمنع الإعاقة من أن ينشأ الإنسان المعاق بحسب البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، فنحن نرى "عمر" شخصا يتمتع بقدر كبير من التربية بصفة عامة، وهو على قدر ملحوظ من التمسك بالأخلاق، إلى درجة أن هناك من يرى في ذلك نوعا من التدين الملحوظ، مثل " حليم زكرى مليكة " [ المرجع السابق نفسه ] الذي يذكر أن "عمر الفرماوى " يمتلك ثلاث إمكانيات هى القوة البدنية والذكاء وتربيته الدينية. والأبكم الأصم ليس عالة على المجتمع، بل هو عضو نافع فيه، منتج في حدود قدراته المكتسبه بالخبرة والمران معا، بالإضافة إلى التعليم في إحيان كثيرة، بل إن الفيلم يقدم لنا " عمر " وهو ينجز عدة أعمال في نفس الوقت، صحيح أنها أعمال تبدو بسيطة وغير معقدة، بل يمكن أن توضع في أدنى درجات جداول تصنيف الأعمال، ولكنها، في نفس الوقت، أعمال لازمة، لا بد أن يقوم بها أشخاص ينتمون إلى المجتمع الإنساني [ أعمال حرفية أو مهنية مثل " سمكرة " السيارات ودهانها، وأعمال خدمية مثل إحضار الطلبات وقضاء بعض الأمور لحساب الآخرين ] والأبكم الأصم يملك جميع المشاعر الإنسانية، سواء ذات الطابع الإيجابي [ النبل، الشهامة، الحب، المرح، 00إلخ ] أو ذات الطابع السلبي [ الغضب، الكراهية، الانتقام، الغيرة. راجع شخصية "وفاء" على وجه التحديد ] بل إن عاهته تجعله أكثر حساسية من الآخرين في غير قليل من الأمور، سواء إيجابا أو سلبا، فهو يقابل المعاملة الحسنة بأفضل منها، ففي مقابل تولى " تيسير" مسؤلية تعليمه، يعرض نفسه للإيذاء دفاعا عنها ضد رجل تسول له نفسه محاولة الاستظراف في ظلمة دار العرض السينمائي، وهو يتعفف عن قبول مكافأة نهاية الخدمة التي يقدمها له أبوه ضمانا لمستقبله، وهو يستطيع أن يحفظ أسرار الآخرين التي تسئ إليهم أو تشينهم، فلا يذكر أى شئ لأحد عن ضبطه الفتاة " فكرية " وهى تضاجع رجلا في الخلاء ليلا، كما أنه يتعفف عن مراودة " تيسير " له جنسيا إلا من خلال الزواج، وهكذا، ومن جهة أخرى فإن الفيلم يقدم لنا " عمر " في أكثر من حالة من حالات غضبه، وهى كثيرا ما تختلط بالعنف، فهو يغضب عندما يتعمد زملاؤه العاملون في ورشة السيارات اختلاس طعامه، ويتعامل معهم بعنف، وهو يغضب لمحاولة التعرض للباحثة " تيسير " والتحرش بها داخل دار العرض السينمائي، فيتشاجر ويصاب، وهو يغضب لاقتحام الشرطة لمسكنه، فيتشاجر مع رجال الشرطة ويصيب أحدهم إصابة بالغة في رأسه، وهو يغضب لسوء معاملة ضابط الشرطة له، الذي يعتقد أنه يعتدى على إبنته التلميذه، ويكاد أن يتشاجر معه، وهو يغضب لشراهة زوجته " معزوزة " للمال إلى حد ضربها وإهانتها وطردها من مسكن الزوجية عندما  تحاول الاستيلاء عليه، بينما هو يقوم بادخاره أملا في إجراء جراحة دقيقة تعيد له سمعه ونطقه، والأهم من ذلك هو غضبته الأخيرة المصحوبة بذلك الانتقام المريع من النسوة الثلاث،[ وهو أمر لنا وقف هامة معه لاحقا ] وكما أن " الأمية " بجهل القراءة والكتابة هى آفة الناس العاديين، فهى أيضا آفه أصحاب العاهات مثل غير المبصرين والصم والبكم وغيرهم، لذلك يكتشف "عمر" أن هذه الأمية هى السبب في عدم إدراكه سبب مداهمة الشرطة لمسكن أبيه الراحل وطرد الإبن منه بعد وفاة الأب، فيسارع من أجل محو هذه الأمية، من خلال المعهد الخاص بتعليم السمع والكلام، والعواطف الإنسانية وغرائزها جزء من حياة الأبكم الأصم شأنه شأن أى إنسان آخر، فها هو " عمر" يشعر بالحاجة إلى الاقتران بالجنس الآخر [ أو الاقتراب منه على الأقل ] وهو يشاهد ثنائيات الحب والغرام من حوله [ في حديقة الحيوان ] فيسارع بعرض الزواج على " معزوزة " وهو لا يمتنع عن معاشرة " تيسير " جنسيا إلا بسبب الوازع الأخلاقي ذى الأثر الديني الذي نشأ عليه يمنع المعاشرة الجنسية بغير الزواج، ويغزل الفيلم علاقة عاطفية رقيقة من نوع خاص يتميز بالصمت التام، فهي علاقة حب تنشأ بين كل من " عمر " ووفاء " بكل سهولها وجبالها، وبكل نعومتها ونتوءاتها بدون كلمة واحدة، فكل من طرفيها [ عمر / وفاء ] لا يتكلمان ولا يسمعان.

ج -  وعلى الرغم من غلبة نبرة الترحيب النقدي بالفيلم كعمل فني يتصف بنوع من التميز، إلا أن الفيلم يفجعنا بنهايته التي لا تخلو من بشاعة، ليس بسبب أسلوب تقديم مشاهد الانتقام النهائية، ولكن بسبب جنوح الفيلم إلى فكرة الانتقام ذاتها، فيكاد أن يجمع كل الذين يرحبون بالفيلم على استنكار نهايته هذه، فإذا كان الناقد السينمائي " سمير فريد " يذكر أنه لم يكن هناك مبرر درامي لنهاية الفيلم التي أضعفته وحالت دون اكتمال نجاحه، بسبب اقحام قضية الفتاة الحامل" فكرية " وما يتلوها من أحداث، ولكنه [ أى الناقد ] يذكر أيضا أن " المشكلة الأهم أننا نرى جماعة الصم والبكم يتحولون إلى وحوش آدمية تنتقم من تيسير ومعزوزة وصديقتها بادخالهن بالقوة إلى جهاز قياس السمع وافقارهن السمع مع سبق الإصرار والترصد، لقد تصور النجار ان [ المؤلف والمخرج ] أنهما بهذه النهاية الميلودرامية الفجة يجذبان الجمهور إلى الفيلم، بينما العكس صحيح، لأن الجمهور يكتشف في النهاية أنهم لا يستحقون هذا الحب إن [ جريدة الجمهورية،  3/2/1992 ] كما يذكر الناقد السينمائي " أيمن يوسف " أن " النهاية قد جاءت عنيفة بقدر لا يتسق مع ما رأيناه من معالجة سوية ومستقرة على مدار أحداث الفيلم السابقة والانطباع الأولي الذي يحدث للمشاهد عند مشهد  النهاية هو الإحساسا بصدمة ، مفاجأة لم يكن يتوقعها ولا أبالغ إذا قلت أنه قلل كثيرا من تعاطف المشاهد مع قضية " عمر " وجماعته، وأضاع فرصة التفكير الجدى والتأملي من قبل المشاهد في هذه القضية بعد خروجه من دار العرض، فببساطة سيدرك المشاهد – سوى التفكير والمشاعر – أن العمل الانتقامي الذي أقدم عليه عمر وجماعته كان أقسى كثيرا من الضرر الذي أصابهم، أما إذا كان المقصود إضفاء دلالة سياسية واجتماعية على هذه الصرخة – وهذا جائز – فالأمر يختلف هذا، بل تصبح رسالة الفيلم ذات أهمية مزدوجة وأكثر شمولية، [ مجلة الفنون، فبراير 1992 ] ولكن " أيمن يوسف " لا يوضح ما هى تلك الدلالة السياسية والاجتماعية التى يعتقد أنه من الممكن أن يسعى إليها الفيلم من خلال هذه النهاية، فيبقي رأيه قائما في شقة الأول الاعتراضى. ويضف – محمد محمود مصطفي " نهاية الفيلم بمستنقع الانتقام " وهو يشير إلى أن الفيلم يصور هذا الانتقام بسهولة رغم بشاعته، وأن الانتقام قد يتصوره البعض هذا كحل لهذا الذي وقع عليه الظلم، وهو تصور ممكن لو كان التشفي سيبرئه، ولكن أقرانه يظهرونه كأنهم وحوش اقتلعت من قلوبهم الرحمة، فأصبحوا خصوما جلادين، فكانت جريمتهم افظع، لأن الفيلم أهتم بهم أكثر ومال إلى جناحهم، [ صوت الكويت، 9/4/1992 ] ولذلك يذكر الناقد في عنوان مقالته النقدية أن الفيلم " يكرس نزعة الانتقام " ويصف الناقد السينمائي الدكتور " رفيق الصبان " نهاية الفيلم بأنها " سادية مزعجة " ويذكر أنها جعلتنا لا نشعر بأى تعاطف مهما كانت درجته مع هؤلاء الناس الذين فقدوا كل أحاسيسهم الإنسانية [ نشرة نادى بالقاهرة، السنة 24 النصف 2 العد 26 في 11/11/1991] ويعترض الناقد السينمائي " رؤوف توفيق " على نهاية الفيلم بقوله : " هذا الجهد الواضح في اختيار الموضوع الجديد، والتدريب، والدقة في التنفيذ، وكان يجب أن يستقر عند هذه النهاية التي اختتم بها الفيلم : انتقام الصامتين وكان من الأفضل البحث عن نهاية أشمل وأعم تخرج من إطار الحالة الشخصية إلى الحالة العامة " [ صباح الخير، 10/1/1992 ] وتذكر الناقدة السينمائية " ماجدة خير الله " أن النهاية هى أسوأ ما في الصرخة  وأن هذا الانتقام البشع يفقد المشاهد أى نوع من التعاطف مع مجموعة الصم والبكم، بل يخلق مشاعر مضادة لهذه المجموعة الشريرة، ثم أن نوع الانتقام لا يتفق مع المعني المطلوب توصيله، لأن التهم الملفقة الموجهة للبطل نور الشريف جاءت عن طريق الإدعاء بالكلمة والقول من جانب الزوجة وصديقتها ثم امتناع " تيسير عن تفسير الإشارات التى يوجهها نور الشريف للمحكمة ليدفع عن نفسه التهم الموجهة إليه، أي أن الجرم هنا لم يأت عن طريق السمع ولكن عن طريق الكلام، في اللسان " [ الوفد، 26/12/1991 ] أي أن  "ماجدة خير الله " تضيف إلى الاعتراض العام على فكرة الانتقام في حد ذاتها، اعتراضا خاصا بنوع الانتقام ذاته، فهو انتقام يفتقد إلى فكرة أن الجزاء من جنس العمل " كأحد عناصر الانتقام المشهورة، والتي كانت الناقدة السينمائية" إيزيس نظمي " تشير إلى أن كل من مؤلف الفيلم ومخرجة قد لجأ إلى فكرة الانتقام الفردي بعد أن فشل هؤلاء [ العاجزون الصم البكم ] في الحصول على حقوقهم بالقانون والطرق المشروعية إلا أن الناقدة تعود لتصف الانتقام الفردي بكأننا نعيش في غابة غاب عنها القانون [ آخر ساعة ،  9/ 10/1991 ] وتقارن الناقدة ماجدة حليم بين أساليب نهاية الأفلام الأجنبية التى تتخذ من " المعاقين " موضوعا لها، وأنهم في هذه الأفلام ينتصرون في النهاية على معاناتهم مع المجتمع بأسلوب الفروسية  الأخلاقية، وبذلك يعطون الأمل للآخرين والقدوة وفي فيلم الصرخة لم نجد هذه القدوة والأمل، وفي اللحظات التي كان يجب أن يسيطر الصمت التام على الشاشة لتوصيل الشعور الخاص لبطل الفيلم، وكان هناك ضجيج لا أعرف مصدره أضاع المعني" [ الأهرام، 13/1/1992 ] أى أن ماجدة حليم " تعترض  اعتراضا غير مباشر على نهاية الفيلم.

وإذا كان كل من مؤلف الفيلم ومخرجه يذكر أن أنها قد قاما بعمل استطلاع المخرج بين عينه من الصم والبكم قوامها ثمانون فردا، على مشهد النهاية، طالبين رأيهم في الابقاء على المشهد الذي يقدمه الفيلم أم يتم تغييره لمشهد يقدم " وفاء " [ الفتاة الصماء والبكماء ] وهى تطلب من " عمر " التسامح مع من أسأن إليه وتسير معه مشوار حياته، إلا أن سبعة وسبعين من الحاضرين طالبوا باستبقاء " النهاية الانتقامية " [ مجلة الفنون، فبراير 1992 – مصدر سابق ] إلا أن هذا ليس مبررا كافيا على الإطلاق للتشدق بمثل هذه النهاية الفيلمية، وفي ذلك يقول الناقد " أحمد عبد الله " ولكن إنسانا "عمر" بهذه الكيفية التى جعلتنا كمشاهدين نتعاطف معه، كان من غير المنطقي أن يكون انتقامه بشعا بهذه الطريقة التى انتهي بها الفيلم، فليس من المعقول أن كل إنسان يقع في الخطأ يكون القصاص منه بإحداث عاهة، وإلا تحولنا جميعا إلى أصحاب عاهات، فمن منا بلا خطيئة؟ ولم تكن تلك النهاية متسقة مع قدر التعاطف الذي كان يدعو إليه صناع الفيلم مع الصم والبكم " [ نشرة نادى السينما بالقاهرة السنة 25 النصف 1 العدد 14، مصدر سابق ]

 

4- القضايا الفنية

يثير فيلم "الصرخة " عدداً من  القضايا الفنية الهامة القابلة لمزيد من المناقشة، لعل من أهمها : أنه فيلم خارج المألوف، ويتناول هؤلاء الصامتين العاجزين عن الكلام قهرا، أنه من الممكن أن تعتبره فيلما عن " حالة " شخصية لإنسان أصم وأبكم، ومن الممكن أيضا أن نعتبره فيلما" عاما عن الذين لا نسمع أصواتهم بينما هم يعيشون بيننا، ويمارس عليهم بعض أصحاب السلطة، سطوتهم عليهم [ رؤوف توفيق ] وأنه " سينما إنسانية تخاطب عقول المشاهدين"  [ حنان أبو الضياء / الوفد، 4/1/1992 ] وأنه " أختراق سينمائي لعالم الصم والبكم " [ ماجدة خير الله ] وأنه فيلم يتميز بازدواجية الفكرة – فكرة تقديم لغتين في فيلم واحد، لغة الكلام العادي، أى لغة الحوار الديالوج أو البرولوج ] ثم لغة جديدة تشترك وتتحاور مع اللغة الأولي، هذه اللغة الجديدة هى لغة الصم والبكم " [ عادل كامل / وطني، 20/10/1991 ] وأنه فيلم يتطرق إلى عالم الصم والبكم بصفة عامة، ولا يكتفي بالتركيز على بطله فقط [ أحمد عبد الله ] وأنه أول فيلم مصري عن عالم الصم والبكم " [ سمير فريد ] ونحن نعتقد أن " سمير فريد " يعني بذلك عبارة " عالم الصم والبكم "، لأن هناك أفلاما سابقة [ نادرة ] تتخذ من هذه الحالة موضوعا خاصا لها كما في فيلمي "الخرساء " "والاخرس"، بالإضافة إلى عدد غير قليل من الأعمال  الفنية التي تتخذ من العاهات الإنسانية تكئات للفكاهة فيها، خاصة عن طريق السخرية من عاهة الشخصية، خاصة السمعية [ ضعف السمع أو الصمم ] أو الكلام [ التهتهة والخرس ]، وأنه فيلم جاد لكنه لا يخلو أيضا من الامتاع الفني [ طارق الشناوي / الأهالى 15/1/1992 ] وأن التحدى الذي يواجه كرم النجار [ المؤلف ] هو كيف يقدم المعلومات للناس والبطل عاجز عن النطق [ طارق الشناوي ] وأن التأكيد على أهمية القيم الأخلاقية في معناها العام من أهم اهتمامات المخرج محمد النجار ومحور أساسي تقوم عليه أفلامه [ أيمن يوسف ] وأن الفيلم يعالج موضوعا قلما طرقته السينما المصرية [ محمد محمود مصطفي، وكذلك محمد الشربيني، نشرة نادى السينما بالقاهرة ]

د. ناجي فوزي

 

 

ورقة عمل للمناقشة

فيلم "الصرخة "

وحقوق الإنسان من خلال السينما المصرية

ـــــــ

أولاً: مناطق التماس بين الفيلم وقضايا حقوق الإنسان

1-  أيهما أشد وقعا وأقسي وطأة على الإنسان، وقوعه تحت عسف أى من السلطات المعتادة [ تنفيذية أو قضائية ] أم وقوعه في شرك أقرانه من الأناس العاديين مثل الزوجة [ أقرب الأقرباء ] أو الصديقة أو غيرهما ؟ [ التلفيق وشهادة الزور ].

2-   هناك في " الصرخة " تقدم في أسلوب التفاهم مع الأبكم الأصم، يتجاوز ما يقدمه فيلم " الخرساء " في نفس المجال، ولعل ذلك مما يتناسب مع ك

المصدر: بقلم الدكتور "ناجى فوزى"
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 84 مشاهدة
نشرت فى 13 يناير 2013 بواسطة bawabtalamal

ساحة النقاش

نادية محمد محمد باشا

bawabtalamal
ودائما نقول لذوى الاحتياجات الخاصة من أنت فيجيب إنا لست نكــرة أو صفحـة مطوية في ذاكرة النســـيان .......... أنا طه حسين وروزفلت وبيتهوفن الفنان. أنا من تخطى صعاب الحياة ومشى قدماً لتنمية العمران ... »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

50,375