موقع الدكتور ناصر علي محمد أحمد برقي

أحمس نفرتاري أميرة الجهاد

كانت الشمس تسطع علي الكون‏,‏ فتنشر أشعتها الذهبية في كل مكان‏..‏ تغزو الحقول فتورق الأشجار‏,‏ وتتفتح الثمار‏..‏ تلمع علي سطح الماء‏,‏ فتكسبه لمعانا‏,‏ وكأنه نثر عليه آلاف القطع الذهبية ذات البريق الأخاذ‏.‏

كانت الأميرة ـ أحمس نفرتاري ـ تعشق تلك المشاهد‏...‏ فتستيقظ مبكرا لتستمتع بها‏,‏ وتري الكون في أبهي صورة‏,‏ تتطلع من شرفات القصر في طيبة ـ التي تقع علي ضفاف نهر النيل‏,‏ إلي مراكب الصيادين‏,‏ التي تسير في أمان‏,‏ ناشرة قلوعها البيضاء‏,‏ وتري الخدم يروحون ويجيئون‏,‏ يستعدون منذ الصباح الباكر لانجاز ما لديهم من أعمال‏..‏
وكان الأمير ـ أحمس ـ يستيقظ في الصباح الباكر أيضا‏,‏ وبرغم إعجابه بمشاهد البكور‏,‏ وغلالة الحسن التي تلف الدنيا في هذا الوقت‏,‏ إلا انه استيقظ اليوم مبكرا لأنه في شوق لرؤية حبيبته ـ نفرتاري ـ فقد مكث فترة غير قصيرة في معسكر التدريب بعيدا عنها‏,‏ يتدرب علي فنون القتال‏,‏ من رمي السهام‏,‏ والحراب‏,‏ والقتال بالسيف‏..‏ وغيرها‏,‏ بل انه أحب أيضا أن يتقن صناعة الأسلحة فصاحب الحرفيين‏,‏ والصناع‏,‏ وتعلم منهم الكثير حتي بات من المقربين من عامة الشعب‏,‏وبرغم مكانته الرفيعة كأمير‏,‏ وولي للعهد‏,‏ إلا انه كان قريبا من شعبه ربما لصغر سنه‏,‏ أو لخصاله الحميدة التي من الصعب ان تجتمع في إنسان واحد‏,‏ فهو يجمع بين الرقة والقوة‏,‏ واللين والحزم‏,‏ والقسوة والعطف‏,‏ يتعالي علي الأغنياء والأقوياء ‏,‏ ويتواضع للفقراء والمساكين‏,‏ وأصحاب العلم‏..‏ وبرغم حداثة سنه‏,‏ الا انه كان اكثر شهرة من أخيه ـ كامس ـ الذي عرف بقوته وصلابته‏,‏ وشجاعته‏...‏ نزل الامير ـ أحمس ـ الي حدائق القصر مجتازا شرفة الاميرة‏..‏ واثقا من رؤيتها اياه‏..‏ ثم تمهل في سيره‏,‏ واختار شجرة سرو بديعة المنظر‏,‏ وجلس اسفلها ينتظر قدوم اخته‏,‏ وحبيبته ـ أحمس نفرتاري ـ كان يري من خلال جلسته أيكات البردي‏,‏ التي تعشقها الاميرة‏,‏ فظل يتأملها لحين قدومها‏,‏ حيث لم تتأخر كثيرا‏,‏
فبمجرد رؤيتها له‏,‏ وهو يمر من امام شرفتها‏..‏ تملصت من يد مربيتها العجوز ـ سادهي ـ‏,‏ وكانت المربية تكمل لها زينتها‏,‏ وتضع لها الشعر المستعار علي راسها‏,‏ فرفضتها ـ نفرتاري ـ‏,‏ وقالت لها‏:‏
ـ بل ضعي بعض الزهور في شعري‏,‏ واجعليه منسدلا علي ظهري‏,‏ فأحمس يحبه هكذا‏...‏
انتبهت ـ سادهي ـ لقول سيدتها‏,‏ ففعلت مثلما امرتها‏,‏ فهي لا تجرؤ علي مخالفتها‏,‏ وان تغير وجهها بعض الشيء‏,‏ لدي سماعها لتلك العبارة من سيدتها‏,‏ اذ عرفت انها ذاهبة لمقابلة ـ أحمس ـ‏..‏ فأطرقت حتي أتمت عملها‏,‏ وبمجرد انتهائها‏..‏ جرت ـ نفرتاري ـ من أمامها‏,‏ وما هي إلا بضع درجات اجتازتها حتي أصبحت في البستان‏,‏ واتجهت مباشرة إلي آبكات البردي‏ ,‏ حيث توقعت جلوس ـ أحمس ـ هناك في انتظارها‏,‏ وبالفعل وجدته هناك‏,‏ فتسللت من ورائه بخفه‏,‏ ووضعت كفيها علي عينيه‏,‏ فقال لها ـ أحمس ـ‏:‏
ـ أرجوك‏..‏ ارفعي كفيك عن عيني‏..‏ فأنا أركز النظر في آيكات البردي‏,‏ انه النبات المفضل لدي حبيبتي ـ نفرتاري ـ وعندما انظر إليه أتذكرها‏..‏
فرفعت ـ نفرتاري ـ كفيها في غضب سائلة‏:‏
ـ وهل تنساها بقية الوقت؟
ضحك ـ أحمس ـ وتظاهر بالتفكير في الأمر‏,‏ مما جعلها تشتعل غيظا‏,‏وتهم بالانصراف‏...‏
اسرع ـ احمس ـ يمسك بيديها‏,‏ ويجلسها بجواره‏,‏ قائلا لها‏:‏
ـ لكم اوحشتني‏..‏ كنت اتذكرك مع كل حركاتي‏,‏ وسكناتي‏..‏ومحياك ما غاب قط عن ناظري‏..‏
شعرت ـ نفرتاري ـ بالرضا والحبور لوقع كلماته‏,‏ وسألته عن الأحداث التي مرت به طوال فترة غيابه‏,‏ وطالبته بأن يقص عليها حكاياته‏..‏وبدأ ـ أحمس ـ يقص عليها كل شيء‏,‏ ولكنهما لمحا من بعيد الخادمة الصغيرة ـ ورت ـ‏,‏ كان يبدو من هيئتها أنها تبحث عنهما‏,‏ أو عن احدهما‏,‏ في إرجاء البستان‏,‏ وحينما أبصرتهما‏..‏ قدمت إليهما‏,‏ وهي ترتجف وانحنت أمامهما قائلة‏:‏
مولاي الأمير ـ أحمس ـ‏,‏ مولاتي الأميرة ـ نفرتاري‏..‏ إن الملكة الأم ـ اعح حوتب ـ العظيمة بعثت في طلب الأميرة ـ نفرتاري ـ علي وجه السرعة‏,‏ وقد تعجب رسولها لخروج الأميرة المبكر‏,‏ وكان في سبيله للعودة‏,‏ وأخبار الملكة بان مولاتي غير موجودة في جناحها‏,‏ ولكن ـ سادهي ـ استمهلته‏,‏ وقالت لي‏:‏ اذهبي‏..‏ ستجدي مولاتنا في البستان‏..‏ وها أنا قد جئت لأخبرك بالأمر‏.‏ قامت ـ نفرتاري ـ من فورها‏,‏ وودعت ـ أحمس ـ‏,‏ وعلي وجهها إمارات القلق‏,‏ والترقب‏..‏
دخلت الأميرة ـ أحمس نفرتاري ـ قاعة العرش‏,‏ كانت الملكة ـ اعح حوتب ـ تجلس بمفردها‏,‏ وحولها بعض وصيفاتها‏,‏ تمسك كل واحدة منهن بمروحة من الريش‏,‏ تدفع بها الهواء تجاه الملكة‏,‏ فما أن رأتها حتي طلبت من الوصيفات الكف عما يفعلن‏,‏ والانصراف‏..‏ فاتجهن جميعهن صوب الباب‏,‏ بينما كانت ـ أحمس نفرتاري ـ تتقدم نحو الملكة في خطوات مرتجفة‏,‏ فقد كانت للملكة هيبة كبيرة‏,‏ إلي جانب أن ـ نفرتاري ـ تشعر بأن هناك ما يزعج الملكة‏,‏ ويكدر صفوها‏..‏ ولذا كانت الأميرة تحاول أن تتحاشى لقاءها في الآونة الأخيرة‏,‏ ولكن هاهي الملكة تجد في طلبها فليس هناك من سبيل للاختباء‏,‏ أو الفرار‏..‏ قرأت الملكة ما تفكر فيه ابنتها في عينيها‏,‏ وسألتها مباشرة‏:‏
أين كنت؟‏...‏
ارتجفت ـ نفرتاري ـ من طريقة الملكة في السؤال ولكنها أجابت‏:‏
كنت في البستان‏...‏
في هذا الوقت المبكر؟
إني أحب البكور‏.‏
ولكنك لم تخرجي للبستان منذ فترة‏,‏ وكنت ملازمة لجناحك‏,‏ حتي ظننت انك ستعتزلين حياتنا‏....‏
لم يكن هناك ما يروقني‏,‏ولكن الشمس اليوم بديعة‏,‏ والجو صحو‏,‏ فآثرت الخروج للاستمتاع بالطبيعة‏.‏
هل كنت بمفردك؟
ترددت ـ نفرتاري ـ قليلا‏,‏ ثم أجابت‏:‏
كنت مع ـ أحمس ـ‏...‏
استشاطت الملكة غضبا‏,‏ وارتفع صوتها‏,‏ وقالت‏:‏
ألم أمنعك من مقابلة ـ أحمس ـ؟‏!‏
قالت ـ نفرتاري ـ بتوسل‏:‏
أمي‏....‏
قاطعتها الملكة قائلة‏:‏
لا تقولي أمي مرة ثانية‏..‏
قالت ـ نفرتاري ـ بإصرار‏:‏
ولكنك أمي‏...‏
بل أنا الملكة ـ اعح حوتب ـ زوجة الملك الراحل ـ سقنن رع ـ الذي صعدت روحه في ميدان الحرب‏,‏ ومات ميتة ملك عظيم‏,‏ وأنا أم الملك ـ كامس ـ‏,‏ الذي سيكمل مشوار والده في تحرير الوطن‏.‏
أنا لا أعرف لماذا جلالتك غاضبة مني؟‏...‏
لأنك لا تستمعين إلي كلماتي‏.‏ ولا تنفذين أوامري‏...‏
اومرك أن ألا القي ـ أحمس ـ مرة ثانية؟
بل أوامري أن تتزوجي من الملك ـ كامس ـ‏...‏
شعرت نفرتاري بان الأرض تميد بها‏,‏ وسألت الملكة باستعطاف‏:‏
لماذا يا أمي لا ترغبين في سعادتي‏,‏ أنت تعرفين إني وأحمس متحابان‏,‏ فلماذا تريدين التفريق بيننا؟
لأنكما طفلان صغيران‏,‏ لا تدريان ما يجب عليكما عمله‏..‏
وما هو الواجب الذي علينا عمله؟
كامس أخوك الأكبر ملك شجاع‏,‏ وقوي‏,‏ ويجب أن نكون جميعا إلي جواره‏,‏ نعضده بزوجة ذات دماء ملكية‏,‏ يرضي عنها الشعب المنقسم علي نفسه‏,‏ تكون لكامس زوجة‏,‏ وأختا تقف إلي جواره‏,‏ ووراءه في حروبه القادمة ضد الهكسوس‏,‏ الرعاة‏,‏ المغتصبين‏..‏
يمكنك أن تختاري له أميرة أخري‏.‏
قلت لك ليس هناك أميرة ملكية سواك‏,‏ تصلح لهذا الدور‏,‏ يجب أن تضحي في سبيل الوطن يا نفرتاري‏,‏ لهذا خلقت‏...‏
يمكنني التضحية بحياتي عن طيب خاطر‏,‏ ولكن بحبي؟‏...‏ بأحمس؟‏...‏
قاطعتها الملكة قائلة‏:‏
أن قلبي ينفطر من اجل أحمس ولدي الحبيب‏,‏ لكنه صغير‏,‏ وسينسي مع مرور الوقت أما أنت فاعرف أنك قوية مثل أمك‏,‏ وستؤدين ما هو مطلوب منك‏,‏ لأنك ملكة‏,‏ وابنة ملك‏,‏ وحفيدة ملك‏,‏ ستظلين شامخة طوال حياتك‏,‏ وستؤدين دورك علي أكمل وجه‏..‏
ترقرقت الدموع في عيني ـ أحمس نفرتاري ـ‏,‏ وقالت‏:‏
أرجوك يا أمي‏..‏ لا تسلبيني حبي الوحيد‏ ,‏ فمنذ تفتحت عيناي علي الدنيا‏..‏ لم أر سوي ـ أحمس ـ‏,‏ ولم أحب سواه‏,‏ وسنكون معا عونا لكامس في حروبه‏.‏ أرجوك‏..‏ أرجوك يا أمي‏...‏
قالت الملكة بحزم‏:‏
ليس هناك مجال لتوسلات الأطفال هذه‏,‏ بعد عدة أيام‏,‏ سيتم تتويج كامس ملكا علي مصر‏,‏ وسيتم زواجكما في نفس اليوم‏,‏ حيث سيضطر للسفر بعد ذلك لملاقاة الهكسوس‏..‏ إلا ترغبين في الثأر لأبيك من قتلته؟‏...‏ إلا تساعدين الملك علي النيل من أعدائه‏,‏ وأعدائنا؟‏!..‏
هل تسمح لي مولاتي بالتحدث مع جدتي الملكة العظيمة محبوبة رع ـ تتي شيري ـ في هذا الشأن؟
حسنا نفرتاري‏..‏ أتعتقدين أن جدتك سيكون لها رأي أخر‏,‏ وستقف إلي جوارك في موقفك هذا؟‏..‏ اذهبي إليها‏,‏ ولكن اعلمي أنها منذ وفاة ولدها‏, وزوجي ـ سقنن رع ـ وهي في حالة حزن دائم‏,‏ حتي أنها أحيانا لا تعي ما يحدث حولها‏.‏
سأحاول معها‏..‏ فأنا اعرف أنها تحبني‏...‏
قالت الملكة بنفاد صبر‏:‏ ليس هناك في هذا العالم‏,‏ من يحبك أكثر مني‏..‏ ولكنه الواجب الاقوي منا جميعا يا ابنتي‏...‏ اذهبي إليها‏,‏ ولكني اعرف مسبقا ما ستقوله لك‏.‏
‏‏
استقبلت الجدة ـ تتي شيري ـ حفيدتها ـ أحمس نفرتاري ـ استقبالا حارا‏,‏ وكللت عباراتها بكلمات المديح‏,‏ والود لها‏.‏ وقد كان الحزن باديا علي كل قسمة من قسماتها‏,‏ فحارت ـ نفرتاري ـ‏,‏ وتساءلت بينها وبين نفسها‏:‏ أيكون من المناسب‏,‏ طرح موضوعها للحديث‏..‏ أم تترك الجدة لأحزانها؟ وكأنما سمعتها الجدة فقالت لها بحزم‏:‏
لا تقلقي علي يا ابنتي‏,‏ إنني قوية وصلبة مثل شجرة سامقة‏,‏ تهزها الريح‏,‏ وتعبث بأوراقها‏,‏ ولكنها أبدا لا تقتلع جذورها‏..‏ قصي علي ما جئت من اجله‏..‏
فتشجعت ـ نفرتاري ـ‏,‏ وروت لها كل شيء‏..‏ ثم جلست متكئة علي مقعد وثير في انتظار ردها‏..‏
قالت ـ تتي شيري ـ‏:‏ أنت طفلتي المحبوبة‏,‏ ويصعب علي تقويض فرحتك‏..‏ ولكننا يا ابنتي نحن الحكام لا نملك الاختيار‏,‏ فيما يتعلق بمصائر شعوبنا‏,‏ مكانك إلي جوار أخيك ـ كامس ـ وليس هناك من تحل محلك في أداء دورك هذا في ذلك الوقت العصيب‏,‏ فنحن جميعا نعيش محنة الاحتلال‏.‏
ولكن يا جدتي‏..‏
قاطعتها الجدة قائلة‏:‏ استمعي إلي‏,‏ والي خبرة سنوات طويلة عشتها‏:‏ هؤلاء الرعاة دنسوا أرضنا‏,‏ وقتلوا ولدي ـ سقنن رع ـ بعد أن عز عليه الاستماع لنصائحي‏..‏
كيف ذلك يا جدتي؟
في يوم من الأيام جاءه رسول من ملك الهكسوس ـ ابيبي ـ يخبره أن الملك مستاء من أصوات أفراس النهر الموجودة في شرق طيبة حيث تزعجه أصواتها في صحوه ‏,‏ وفي منامه‏.‏ وهل يمكن أن تصل أصوات افراس النهر من طيبة إلي اواريس؟
بالطبع لا يا ابنتي‏..‏ ولكنه كان يريد إيصال رسالة إليه‏,‏ بأنه يعرف بأمر التدريبات المسلحة‏,‏ التي تجري في طيبة‏,‏ ويأمره بوقفها‏...‏
وهل استجاب أبي؟
بالطبع لا‏..‏ ولكنه لم يكن مستعدا للحرب بعد‏..‏
وبماذا نصحته؟
نصحته إلا يستجيب لاستفزازات ـ أبيبي ـ ورجاله‏,‏ ولا يقدم علي الحرب إلا وهو علي أتم استعداد لها‏,‏ ولكنه لم يستمع إلي كلماتي‏..‏ لكم افتقد ولدي‏,‏ ولكن عزائي‏,‏ انه مع ـرع ـ في رحلته الأبدية‏.‏
وهل تريدين الثأر يا جدتي؟
وأنت‏..‏ ألا تريدين الثأر من هؤلاء الخادعين الحفاة الذين ينهبون خيرات بلادنا؟
بل أريد الثأر‏,‏ واسعي إليه‏..‏
إذن طريقك إليه هو زواجك من ـ كامس ـ ستكونين أميرة للجهاد‏,‏ ضد هؤلاء الغزاة المحتلين‏.‏

كان موكب المحتفلين يجوب مدينة طيبة منذ الأمس‏,‏ احتفالا بتتويج الملك ـ كامس ـ خليفة لأبيه الملك ـ سقنن رع ـ كذلك لمراسم زواجه من أخته الأميرة ـ أحمس نفرتاري ـ التي تتم اليوم‏..‏ وقد قام الكاهن بإجراءات الزواج داخل القصر الملكي وحضرت الاحتفال الملكة ـ تتي شيري ـ وكانت هذه أول مرة تشهد فيها احتفالات بعد احتجابها‏,‏ اثر مصرع ولدها بفأس أسيوية في رأسه أثناء حروبه ضد الهكسوس‏..‏
جلست الأميرة ـ أحمس نفرتاري ـ في قاعة الاحتفالات الكبرى في القصر علي كرسي فخم مصنوع من الخشب المغطي برقائق من الذهب الخالص‏,‏ تحوطها الزهور‏,‏ والرياحين من كل جانب‏,‏ وهي ترتدي ثوب عرس بديع من الكتان الشفاف الأبيض الفضفاض‏,‏ ذا ثنيات طولية تزيد من اتساعه‏,‏ وحول وسطها الرشيق يتدلي حزام عريض‏,‏ مرصع باللآليء‏,‏ والزمرد‏,‏ والعقيق‏..‏ وقد صنعت ـ سادهي ـ من شعرها عدة جدائل‏,‏ ووضعت تاجا صغيرا بين الجديلتين الأماميتين‏..‏
كانت أصوات الصلاصل ‏,‏ والطبول ‏,‏ والقيثار‏,‏ تصدح في جوانب المكان‏,‏ والمغنيات ينشدن أغاني تبعث علي الفرح‏,‏ والسرور‏,‏ بينما تتمايل الراقصات في خفة‏,‏ واستعراض لوقع خطواتهن‏,‏ واتساقها مع إيقاعات الموسيقي الصادرة من مختلف الأدوات الموسيقية‏,‏ وقد راق للمغنية أن تناشد ـ حتحور ـ إلهة الحب أن تغدق من عطفها علي هؤلاء المحبين رجالا‏,‏ ونساء‏,‏ وان تجعل حياتهم المقبلة حياة سعيدة‏,‏ عامرة بالفرحة‏..‏ وفي وسط فرحتها الغامرة‏,‏ لاحظت الملكة ـ اعح حوتب ـ أن ابنتها لا ترتدي عقدا‏,‏ فأشارت إلي احدي الخادمات فأتت لها بصندوق مجوهراتها‏,‏ حيث أهدت لابنتها عقدا من الأحجار الكريمة مكونا من عدة ادوار‏,‏ كما حلتها ببعض الأساور الذهبية‏,‏ وحينما اطمأنت لزينة ابنتها وتمامها ابتعدت قليلا‏,‏ وهي ترقب الباب الذي سيدخل منه ـ كامس ـ ولدها الحبيب‏,‏ وماهي سوي لحظات حتي دخل ـ كامس ـ في رداء كتاني جميل‏,‏ موشي بالذهب‏,‏ وهو يمسك شارات الملك في يديه ـ الصولجان والعصا المعقوفة ـ‏,‏ ويرتدي التاج المزدوج علي رأسه ـ تاج الدلتا والصعيد ـربما لتذكير من يراه بأنه حاكم مصر الرسمي‏,‏ والأوحد‏,‏ وما هؤلاء الرعاة إلا مغتصبون يحكمون لفترة مؤقتة‏,‏ وان طالت‏.‏
جلس ـ كامس ـ علي كرسي ملكي‏,‏ بجوار ـ أحمس نفرتاري ـ وبمجرد جلوسه‏,‏ جاء المهنئون يقدمون هداياهم من كل الأنواع‏,‏ وكانوا يمثلون كل فئات الشعب‏.‏ ورجال الدولة‏,‏ وقد تقدم من حكام الأقاليم‏:‏ ـ تيتي بن بيبي ـ‏ ‏و ـ باماي ـ‏  و ـ حسي رع ـ وكلهم من أمراء منطقة الدلتا‏,‏ التي سيطر عليها الهكسوس مؤخرا‏,‏ قدموا لتهنئة الملك‏,‏ وقدموا جميعا فروض الولاء‏,‏ والطاعة‏,‏ وعرضوا مساعدة الفرعون في حروبه القادمة‏,‏ وكان ـ تيتي ـ أكثرهم تباهيا بنفسه‏,‏ وأكثرهم تحدثا‏,‏ حيث أكد للملك أن روحه‏,‏ وجسده‏,‏ وأمواله فداء للملك‏,‏ فقال له ـ كامس ـ‏:‏
ابلغ تحياتنا لوالدك بيبي‏,‏ فنحن نعرف ولاء أسرتكم لنا‏,‏ ولولا أن والدك قد بلغه الكبر‏,‏ وأصبح عاجزا عن الحركة‏,‏ لظل في منصبه حاكما للإقليم‏,‏ ولكننا رأينا أنك جزء من نفسه‏,‏ وهو بالتأكيد سعيد‏,‏ لأنك أنت الذي شغلت منصبه‏.‏
بالتأكيد يا مولاي هو سعيد من اجلي‏..‏ وقد كان يريد الحضور لتهنئة جلالتك بنفسه‏,‏ لولا عجزه عن الحركة‏,‏ لذا أرسل معي الكثير من الزيوت‏,‏ والعطور‏,‏ والحنطة‏,‏ والعسل‏,‏ كذلك بعض القطع الذهبية هدية لمولاي‏,‏ كما انه لم ينس أن يعد بعض القرابين لتقديمها لمولانا العظيم‏,‏ محبوب آمون ـ سقنن رع ـ ليسعد معنا بهذه المناسبة‏.‏
هداياك مقبولة أيها الأمير‏...‏
وتقدم بعد ذلك ـ باماي ـ‏,‏ وهو أمير شاب في نفس عمر ـ تيتي ـ وقدم هداياه‏,‏ وشرع يصوغ عبارات المديح‏,‏ والشكر للفرعون باعتباره واحدا من الرعية‏,‏ التي يغمرها الفرعون بإحسانه‏,‏ وانه يتوقع أن يتم الخلاص من الهكسوس علي يده‏,‏ وكان أثناء حديثه يتطلع من طرف خفي لأحمس نفرتاري‏,‏ يرمقها بنظرات كلها إعجاب‏,‏ ووله‏,‏ ولولا خشيته من ـ كامس ـ لخصها بحديثه‏,‏ وسألها عن تلك النظرة الحزينة في عينيها‏,‏ بل لعبر لها عن حبه المشتعل منذ أول مرة رآها فيها‏,‏ وهي طفلة صغيرة تلعب في بستان القصر‏,‏ ولكنه قال محدثا نفسه‏:‏ أن كل ذلك قد فات أوانه‏,‏ وولي‏..‏
تقدم ـ حسي رع ـ بعدهما‏,‏ وقدم هداياه‏..,‏ وكان ـ حسي رع ـ رجلا مهيبا‏,‏ تشع الطيبة من عينيه‏,‏ فتحدث بصدق إلي الفرعون‏,‏ وأكد له انه رهن إشارته في حروبه المقبلة‏.‏
وبعد وقت غير قليل من السعادة والبهجة التي عمت المكان‏,‏ والبعد قدر الإمكان عن حديث الحرب‏,‏ والهكسوس‏,‏ أشارت الملكة ـ اعح حوتب ـ بيدها‏,‏ فاصطف الحرس علي الجانبين يحملون المشاعل‏,‏ ومشي العروسان وسطهما‏,‏ متجهين لجناحهما الخاص‏,‏ كي ينعما ببعض الراحة‏,‏وكانت ـ أحمس نفرتاري ـ في أثناء ذلك تبحث بعينيها عن ـ أحمس ـ الذي ذاب وسط الجموع‏,‏ فلم تره منذ بدأت المراسم‏,‏ وكانت تخطو خطواتها الأولي نحو حياتها الجديدة‏,‏ وتتمني من أعماقها منقذا يخرجها في اللحظة الأخيرة من هذه الحياة البائسة‏,‏ وظلت تتمني حدوث تلك المعجزة‏,‏ وظهور ذلك المنقذ‏,‏ ولكن من النادر أن تتحقق المعجزات‏....‏
لم يقض ـ كامس ـ سوي عدة أيام مع عروسه‏,‏ وأثناء تلك الأيام كان يتابع استعدادات جيشه‏,‏ فهو يجهز نفسه لشن حملة علي منطقة مصر الوسطي ليستعيد بعض المدن التي غزاها الهكسوس‏,‏ ويخلصها من أيديهم‏,‏ ولما اطمأن إلي استعداد رجاله‏,‏ قرر الخروج بالأسطول الملكي‏,‏ ووقف مودعا أمه الملكة ـ اعح حتب ـ قائلا‏:‏
أمي‏..‏ أنت فرعون مصر الحاكم الآن كما كنت دائما أثناء حروب والدي الملك ـ سقنن رع ـ العظيم‏..‏
بالطبع يا ولدي‏..‏
يمكنك أن تدعي أحمس يساعدك‏..‏
استمع أحمس إلي تلك الكلمات فتدخل غاضبا‏.‏
بل أكون في معيتك أيها الفرعون‏,‏ فلا تحرمني من نيلي ذلك الشرف‏..‏ نظرت الملكة الي ولدها الفرعون‏,‏ ثم ما لبثت أن قالت‏:‏
أحمس ولي عهدك يا كامس فلا تحرمه شرف المشاركة في تلك الحملة‏.‏ قال كامس‏:‏
لم اقصد حرمانه أيتها الملكة المعظمة‏,‏ بل أردت استبقاءه هنا ليكون عونا لك‏.‏
قالت الملكة‏:‏
افهم ذلك يا ولدي ولكن لا تنسي أن معي ابنتي الرقيقة ‏,‏ القوية في ذات الوقت‏.‏
نظر ـ كامس ـ باتجاه ـ أحمس نفرتا ري ـ وقال‏:‏
معك كل الحق يا أمي ‏,‏ فلم أر أصلب من تلك الفتاة‏,‏ ولا ارق منها حقا‏,‏ ستكون
نعم العون لك‏...‏
لم يتحمل ـ أحمس ـ ذلك الموقف فاستأذنهم‏,‏ وانصرف ليكون مع البحارة علي متن المركب الملكي‏,‏ ولكنه لم ينس قبل أن ينصرف أن يودعهم جميعا بنظرة طويلة مشبعة بدفء الحب‏,‏ والحنان شملت أمه ‏,‏ وأخته ـ نفرتا ري ـ‏..‏

الأهرام المسائي يوم 31مايو 2010م / الاثنين 17 جمادى الآخرة 1431 هـ   ، العدد 6973

 

المصدر: رواية " أحمس نفرتاري أميرة الجهاد " من روايات الهلال الكاتبة دكتورة " إيمان سند "
barki

مع خالص الود دكتور " ناصر علي محمد أحمد برقي "

  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 407 مشاهدة
نشرت فى 10 يونيو 2010 بواسطة barki

ابحث

تسجيل الدخول

الدكتور ناصر علي محمد أحمد برقي

barki
هذا الموقع ... موقع الدكتور ناصر علي محمد أحمد برقي »

عدد زيارات الموقع

85,690