‎‏.
ساعة واحدة
الكاتبة حنين فيروزالإعجاب بالصفحة‏26 نوفمبر‏، الساعة ‏11:42 ص‏

قصة قصيرة_________ مرّةٌ في العمر..

نستقبل وإياكم أوّل مكالمة في برنامجنا الليلي " مرّة في العمر"
_تفضل سيدي العزيز !
ارتبك كمال للحظة قبل أن تنهمر الكلمات المشجعة من المذيع المحنك،،اختنق صوته وخرج ضعيفا لا يكاد يُسمع
_ أبي لا يحبني..
قاطعه المذيع بلطف مطالبا إياه بالتعريف عن نفسه أولا..
سعل عدة مرات ثم قال :
_أنا...كمال ..عمري جاوز الأربعين..
قاطعه المذيع بصوتِ رزين :
_أنت معنا الليلة لتفتح لنا قلبك على مصراعيه،لذلك خذ نفسا عميقا وابدأ !
امثتل كمال لنصيحته وشرع في الحكي..
_ لا يهمّني أن أصير أضحوكة بعد هذا العمر،لكني قرّرت أن أتخلص من هذا العبء،أعرف أن آذانا كثيرة ستستمع إلى حديثي،وربما سيسخر مني البعض،لكني عجزت عن التحمل أكثر،طفل أنا في الاربعين يشكو عزوف والده عن حبه كما ينبغي..
تنهد بعمق وتابع :
_ وهل تصيب الشيخوخة إلا الجسم يا سيدي؟ ما زال ذلك الطفل المنكسر يسكن أضلعي ،الذي ما إن يسمع هدير محرك شاحنة والده تتوقف أمام البيت حتى يطير كلمح البصر ليعانق والده بحرارة،الذي يكتفي بإحناء رقبته له سريعا ثم يشير إلى كيس الأغراض ليحملها،وعيناه تتسمّران بفرحة طاغية على جلال الإبن الأصغر،وسرعان ما يملأ جيوبه بالحلوى،بينما يؤجّل حصّتي حتّى حين آخر،فأطأطئ رأسي،وأعود إلى قوقعتي أقصد إلى حجرتي،أحمل بين يديّ كتابا أقلب صفحاته بلا وعي،،وصيحات أبي وجلال وهما يلعبان تمزق قلبي.فأشكو لأمي إهمال أبي لي فتبتسم باستخفاف وتقول
_خلتكَ عاقلا ومتّزنا!
ومنذ ذاك الحين وأنا عاقل يقتات على الكتب ويدفن رأسه فيها،عاقل لا نصيب له في الدلال أو الحنان،ويكبر العاقل وتكبر الفجوة في قلبه،وتتوطد أواصر المحبة بين شقيقي ووالديّ معا، ويغذّيان فيه وحش الأنانية فيعتبر حبّهما حقّا خالصا له وحده..
هتف المذيع بأسف :
_هل واجهته يوما بما يعتمل في صدرك من عذاب وألم؟ 
يزفر كمال بقوّة ويجيب باستسلام:
_لا سيدي لم أفعل،فأنا العاقل الذي لا يجب أن يحيد عن طريق الصواب ،وإلا ستسخر مني أمي ،وسيتجاهل أبي شكواي،كذلك خشيت أن أفرّط في كرامتي،،فترفّعت عن تلك التفرقة وتجاهلتُ الأمر كلّيا..وبين ذاك الطفل الذي كنته والكهل الذي أصبحته مرّت سنون طويلة جادت عليّ بمسيرة دراسية وعملية موفقة،وزوجة طيبة وأميرتين جميلتين،وبالمقابل سلبت مني والدتي التي منحتني الكثير من عنايتها وبخلت عليّ بالقليل من الدلال والحبّ شأنها شأن والدي..
تمتم المذيع بعبارة مواساة،بينما تابع كمال حديثه..
_لكن القدر أرغم والدي على العيش معي بعدما تردّى وضعه الصحي وأصاب الخرف ذاكرته ،فغاب عن عقله كل شيء إلا فتاه المدلل جلال المشغول على طول الخط، الذي لديه الوقت لكلّ شيء إلا لوالده الهرِم..
صاح المذيع بشيء من التعاطف :
_كما تعلم سيدي،برنامجنا يهدف إلى الغوص في عمق آلامنا للسعي إلى التخفيف منها ولكن في نهاية هذا البوح الشفيف عليك أن تتمنى أمنية ما ولو لمرّة واحدة في العمر..
تصببّت حبيباتٌ من العرق على وجه كمال وقام من مقعده يتجوّل في الحديقة وقال بانفعال :
_أتمنّى أن يضمّني أبي إلى صدره بحرارة،أريده أن ينفي تلك الحقيقة، ويؤكد لي بأنه يحبني بنفس القدر،وسأصدقه حتى لو كان تأكيده ينبع من مكان آخر غير قلبه،بعض الأكاذيب بلسم للجراح العميقة،وأنا سأصدّق الأكذوبة حتى أتمكّن من المضيّ قدما،بدل الاستمرار في اجترار آلام الماضي..هذا كلّ شيء..!
افتعل ضحكة سريعة واسترسل :
_لقد رميت همّي في بئر آذانكم جميعا،لعلّي أفلح في رتق جرح قلبي البئيس..تحياتي للجميع وشكرا على سعة صدركم .
أقفل كمالٌ الخط ورمى هاتفه فوق الطاولة،تنهّد بعمق قبل أن يلتقط حاجياته واتجه إلى البيت،دلف إلى الحجرة الواسعة،وجذب كرسيا بهدوء وجلس يراقب والده النائم،ويستمع إلى شخيره المنبعث من فمه الذي بدا أشبه بحفرة صغيرة ،توقّف الشخير لحظة،ثم سعل والده وناداه :
_كوب ماء يا جلال !
اكفهرّ وجه كمال،لكنه لبّى طلب والده بصمت،وغطاه بشكل جيد،قبّل رأسه وعاد يستلقي فوق السرير المجاور،كانت ليلة جميلة مقمرة في تلك القرية السّياحيّ المعزولة التي أضفى عليها السّكون بهاء وجمالا خاصّا..
لشهور طويلة لا يفتأ والده يلحّ عليه للمجيء إليها،خاصة حين تزعجه آلام مفاصله،أو حين يزوره أحد أصدقائه ويوصيه بضرورة دفن جسمه في الرمال الصحراوية الساخنة..
استلقى كمال على جنبه وراح يراقب والده الذي غطّ في نوم عميق وعلا شخيره الرتيب ليبعثر سكون الليل،تنهد بعمق وفكر بحزن،كم يبدو والده قريبا منه ولا يفصل بينهما سوى خطوة واحدة،لكن الحقيقة غير ذلك،،مسافات شاسعة يخالها أبعد من شمال الأرض عن جنوبها،بعدٌ تسبّب فيه والداه معا ..أبعداه عنهما وعن شقيقه الوحيد دون قصد..
لم يكن يكبر شقيقه جلال سوى بثلاث سنوات،لكنّها في نظر والديه كانت مدة زمنية كبيرة تحتّم عليه الهدوء والاتزان،بخلاف شقيقه يمكنه أن يكون شقيا ومدللا وحتى وقحا،فدلالهما له أفسده وجعله يشعر أنه محور البيت وله أن يأمر فيطاع..
حتى في الأعياد لا رأي إلا له،فهما يحرصان على إرضائه أوّلا،يستعرض أمامهما بثيابه الجديدة فيغدو مثل طاووس مغرور وابتسامة متحذلقة تعلو وجهه ..بينما يحمل كمال ملابسه بآلية وينزوي في حجرته..
أوجاع كثيرة ولحظات قاسية عاناها بصمت..لذلك اعتاد أن يقبع في الظل،ولا يطلب شيئا أو يبدي اعتراضا،يعزوه أمل أنه سيكبر يوما ما وتصبح لديه أسرة جميلة ويعاهد نفسه أن يحبّ أولاده بنفس القدر،ولا ينفي أحدهما من دائرة حبه واهتمامه..
ابتسم حين تذكّر كيف تندسّان إلى جانبه أميرتيه الصّغيرتين كلّ ليلة،وبعد نهاية الحكاية تتشابك أيديهما وتمضيان إلى غرفتهما،هكذا علّمهما،أن تحبّا بعضهما إلى الأبد..
في غفلة منه استسلم للنوم،بعد سويعات قليلة تسللت خيوط الشمس تتسلق تضاريس وجهه المنهك،فتح عينيه ليجد عيني والده تراقبانه خلسة،رمى اللحاف وقام مسرعا يساعد والده على النهوض والعناية به بدء من غسل وجهه إلى أن يجلسه في كرسي مريح لتناول الإفطار..
ابتسم والده بلطف وعيناه تلمعان بشكل غريب،قهقه ضاحكا مما أثار دهشة كمال،لكنه استمرّ في الضحك وانحنى فوق الطاولة ،ثم قال:
_تبدو وسيما بدون النظارات الطبية !
تلعثم كمال للحظة لكن والده تابع ضحكه وقال :
_لقد نجحتَ في تقمّص دور أخيك،لكن في شكله فقط،حلقتَ شاربك،وخلعتَ نظارتك، وارتديت بدلها عدسات لاصقة أصابت عينيك بالاحمرار،لكنّك تركتَ روحك الحنونة ترتع كعادتها وتلوح لي في كل وقت !
صعق كمال وامتقع وجهه وشرد للحظات ..
هل يُعقل أن يكشف والده حيلته،لقد أُرغم على ذلك،فوالده ينسى كل شيء إلا جلال،لا يفتأ يذكره ويسأل عنه مرارا وتكرارا،وهو أعيته الحجج الكاذبة والتبريرات الواهية..فيعزّ عليه كآبة والده وشروده فيختبئ في حجرته وينتحل شخصيّة الشّقيق المشغول دوما ويتّصل بوالده ويتحدّث إليه مطوّلا،إشراقة وجه والده وهو يخبره عن المكالمة الثّمينة تجعله يشعر بالمزيد من الكدر..
لكنّ عجرفة زوجة جلال وتأفّفها من والده وهي تعيده في سيّارتها إلى ابنه كمال بعد أيّام قليلة من إقامته في منزلهما خدمته كثيرا ،فقد جعلت والده يعدل عن زيارتهما ثانية.. 
أفاق من شروده على صوت والده يقول بلطف :
_محظوظ والدك بابن بارّ مثلك،أعدك يابني،إن لم تخنّي ذاكرتي ويزلّ لساني،لن أزعجك ثانية بالسؤال عن جلال،هو من عليه السؤال عنّي..
حافظ كمال على رباطة جأشه وأحضر سترة والده وألبسه إيّاها،فباغته والده وأمسك برآسه وضمّه إلى صدره..
_كم أحبّك أيها الكمال العزيز !
قاوم كمال دموعه وقبّل رأس والده الذي أخرج النظارات من جيبه ووضعها في يد ابنه الذي ارتداها بصمت،وأسرع لإخراج الحقائب، ثم عاد ليمسك بذراع والده وأجلسه بجانبه في السيارة ،قام بتشغيل المذياع وانبعثت منه موسيقى شعبية،ما إن سمعها والدها حتى بدأ يصفق ويغني ..
ابتسم كمال لسعادته والده ثم قبّل يده..
هتف والده فجأة :
_أتعلم يا بني ما ينقصني الآن؟
_ماذا يا أبي؟
_ذلك الشقي جلال،هلاّ عرجنا إلى بيته في طريقنا،لقد اشتقت إليه حقا!
اكفهر وجه كمال وأطلق لسيّارته العنان !

بقلم حنين فيروز
11/04/2016

أعجبنيأعجبنيأحببتههاهاهاواااوأحزننيأغضبني
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 29 مشاهدة
نشرت فى 2 ديسمبر 2016 بواسطة azzah1234

عدد زيارات الموقع

159,835