هي هكذا...
بقلم: المنجي حسين بنخليفة – تونس -
يخيف القلوب الضعيفة إذا رأوه يتنقل بين البنايات الملتحفة بسواد الليل، يتخيلونه كائنا غريبا تسلّل من كتب الخرافات، والأساطير القديمة، بقع الضوء المتأرجحة من الأعمدة المصطفة على جانب الطريق الطويل تحاول بحمرتها كسر قيد سواد الليل، تمدّ له ظلّه كلّما مرّ بجانبها، فيستأنس بظلّه المتراقص طولا، وقصرا، ، الصمت... آه من صمت يكاد يلامسه، يكاد يعرف ملامحه، يشعر بثقله في داخله، كلّما تقدّم هذا الليل نحو وديان ساعاته السحيقة، شعر بشيء كالخوف، شيء يكاد يلاصقه، عيون تراه من حيث لا يراها، وخطر لا يعرف في أيّ زاوية مظلمة يختفي، الشجاعة التي تسربل بها في عهد الشباب ، أسقطت ليالي الشتاء الباردة، والمظلمة أوراقها بتأني . صوت حذاءه الممزّق الذي عثر عليه في الحاوية منذ عامين يُحدث صوتا يوقظ القطط المشرّدة النائمة في الزوايا المظلمة، ففمّه المفتوح، ولسانه المتدلّي استحال تكميمه، فثقوب الخيوط اهترأت ، كلّما حاول ربطه بخيط ، آلت محاولته العبثية باتساع الثقوب.
أزيز عجلات عربته يسمعه من امتط بساط ساعات الليل يجني من عتمته لذة عابرة، أو من اعتصره الألم، فطال انتظاره لضوء النهار، كلّما امتلأتْ وحاول دفعها ترنحتْ، تمايلتْ عجلاتها، فهي لم تعد كأول عهدها بالعمل، لوحها تشقّق، و تآكلتْ أطرافه، كلّما عجزتْ عن حمل أكياس القمامة ربط إليها لوحا صغيرا علّه يشدّ أزرها، ويمنع الحمولة من التّساقط، والتّناثر. اللون كان أخضرا فانطمر تحت سواد الأوساخ المتراكمة، حتى البراغي صدئتْ، ولم يعد لها دورٌ مهمٌّ، فقد تحررتْ كلّ الألواح من قيدها، إذا انعرج بها في الحارات الضيّقة، أحدثتْ صريرا كصرير أسنان من اشتدّ به الغيظ ولم يفصح.
أكياس القمامة المرميّة أمام البيوت تنوعتْ أحجامها، وروائحها، قبل طلوع النهار يجمعها في عربته ليوصلها للحاويات الكبيرة خارج الحيّ، حفظتْ رجلاه كلّ الأزقة والشوارع، كلّ المحلاّت والبيوت، صار يعرف السكان من خلال أكياس قمامتهم، فالكيس الخفيف النظيف هو لمن خفّ جيبه، فليس لديه ما يرميه إلاّ قشرة خضروات استحال للعقل البشري الاستفادة منها، فكلّما أوغل في الأحياء المرفّهة، كانت أكياسهم عنوانا لغَضَارَة عيشهم. انتفختْ كالبطون المتخمة، تسرّبتْ منها روائح بقايا الأكل المتعفن كتلك البطون.
حين يلامسه اللغوبُ من دفع ثقل عربته، يرتمي على عتبة أحد المحلات المغلقة، يتذكّر قول شيخ المسجد: أن الإنسان قبل أن يولد يُكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أم سعيد، يقول في نفسه: أقدري في هذه الدنيا التي سأحياها مرّة واحدة أن يكون رزقي في جمع القمامة، وعملي سهر، وتعب، وحياتي كلّها شقاء في شقاء، فأنا من سلالة الأشقياء، جدي وأبي وأعمامي كلّهم لبسوا الفقر جلبابا، واتخذوه صاحبا، وأنيسا، فهم لم يعرفوا غيره، ولم تطأ أقدامهم إلاّ أرضه.
تذكّر قول أبيه: يا بني اِحْمَدِ الله، لا تتذمّر من حالتنا، فهناك من لا يجد لقمة الطعام، ولا بيت يأويه. نظر إلى عربته الملأى بالأكياس السوداء، وإلى لونها المطمور تحت السواد، وإلى رحابة السماء، ونجومها المطلّة من خلف سواد النقاب الظلام، ابتسم، قال في نفسه: ليس بعد هذا إلا ظلمة القبر.
همّ بالوقوف لإتمام رحلة المكابدة التي خلّفتْ في الجسم ضنًى، وفي النفس همّ، وفي الروح حيرة من هذا الشقاء السرمديّ، لمع في عتمة الليل ضوءان خافتان، اهتزّا، تحرّكا ذات اليمين، وذات الشمال، صار يقتربان منه، حتى تبيّن بالضوء الخافت الذي يجلس تحته أنّه عَيْنَا قطّ، لكنّه ليس كالقطط التي تتقافز دوما أمام وجهه من حاويات القمامة، عيناه تحت ضوء العامود بانت زرقتها، شعره طويل ، وناعم، تقاسمت الألوان الأبيض، والأسود، والأحمر فروته، تمسّح ذلك القطّ برأسه، وذيله عليه، مرّر يده على ظهره، فازداد التصاقا إليه، صار يقاسمه عتبة المحل، كلّما داعبه أصدر خرخرة، وازداد قربا منه.
صار القط صديقه، كلّما مرّ في هذا الشارع وجده في انتظاره على عتبة المحل، يجلس في حضنه، يطعمه بما جادت به أحد الأكياس من أكل طيّب، يمسح عليه بأنامله، يصدر خرير الرضا، صارت بينهما لغة وتفاهم، قال له:
ـ لا أعرف ما الذي رماك في عتمة هذا الشارع، وجعل رزقك مع هذه القطط المتشرّدة، أراك قطّا منعّما، وأمثالك يسكن البيوت المرفّهة، ينام في أحضان ناعمة، يأكل أكلا يحلم به كثير من أطفال بني البشر، أهي الأقدار حين تكتب حكمها تقسمنا نصفين: نصف بأناسه، وحيواناته ورث السعادة، ونصف مثلنا ، مرميّ على العتبات، ورزقه في أكياس القمام.
أتعرف يا صديقي أن لي عيب وحيد، أنني في الصغر حلمتُ، حلمتُ أن يكون لي مثل باقي الناس بيت، يأويني، ويحميني، أغرس عند بابه شجرة ياسمين، إذا نهضت في الصباح استنشق العطر المداعب للأنوف. حلمتُ أن تكون لي زوجة تخاف عليّ، تمسح جرحي إذا سمعت أنيني، وأطفال أرى في عيونهم حلما تحقق قبل الآوان، أمدّ بهم جسرا لعمر جديد.
أراك مثلي يا صديقي كُتب عليك قبل الولادة الشقاء، والتعاسة، وأن تكون قطا مشرّدا، تركض نحو رزقك فما تنال منه إلاّ الفُتات، غيرك ينام والرزق ينتظر صحوته كي يتراقص بين يديه، أحلقا يا صديقي هي هكذا؟ وستبقى هكذا؟ فالأرض ملأى بالخيرات، وبالأرزاق، هم يشبعون بجوعنا، ويغتنون بفقرنا، ويرتحون بشقائنا...
جهرهما ضوء سيّارة فارهة، لم يتبيّن صاحبتها إلاّ بصوتها الأنثوي الناعم حين همستْ بلطف: سوسو...سوسو... أنت هنا ! لقد بحثنا عنك في كلّ مكان. قفز من حضنه إليها، احتضنته، مسحت عليه، تبعته نظراته، علّه يودّعه بنظرة، أو مواء فيه اعتذار للفراق، لكنّه توارى في السيّارة بدون التفات، شعر بحرقة الوحدة تنازعه: هل نسيت؟؟ لقد كتب عليك أن تمرّ في الطرقات لوحدك، وتتلحف ببرد الليالي لوحدك، وتتجرّع كأس الخصاصة لوحدك...
2016-11-11