بذورٌ لا تموت
بقلم: المنجي حسين بنخليفة – تونس -
مللتُ غرفتي الخانقة، مللتُ الدخول إليها لوحدي، مللتُ كلّ تفاصيلها، كلّ ركن فيها يذكّرني بانهزامي...بانكساري...مرآتي إذا ما جلستُ إليها تصرخ بي: أما مللتِ حياتك ودور القديسة الطاهرة؟ أماتَتْ فيك الأنوثة، وثورتها العارمة؟ أتمزّق شراعك الذي تبحرين به في عباب أمواج اللذة العابرة؟ أفرّ منها لصمت يمزّقني نصفين: نصف يحاول رسمي كأم تقدّم باقي العمر قربانا على معبد العائلة، فزوجي توقف دوره في هذه الحياة منذ عشرين عاما، فكنت كشمعة تقاو
م وحش الظلام، ظنّت من بعد طول احتراق انتصارا، ولكن أفاقتْ على هول ذوبان باقي الحياة لديها، ونصف يذكّرني أنّ في جسدي باقي أنوثة كامنة، تحاول كسر القيود، وفكّ حبال أفكاري الخانقة.
عشرون عاما مرتّ، كنتُ فيها كصخرة على شاطئ العابرين، هذا يراني مكانا يجذب الراغبين، وهذا يعجبه طول احتمالي لانكسار الموجة الغاضبة، قالوا بأني أم مثالية ضحّت بعمر الشباب من أجل تربية أبنائها، رفضت الزواج لكي لا يربيهم ذاك الغريب...كرهتُ كلامهم، كرهت مدحهم بالكلمات السخيفة... ما أغباني حين لعبت دوري بإتقان، كأني ممثلة يغريها تصفيق المعجبين، ولكني أبقى حين يفرّ الجميع وحيدة، تفرّ النساء لأزواجهن، والرجال حين تملّ السكون تفرُّ إلى شاطئ العاشقات.
عشرون عاما أمدّ الجسور يمرّ الجميع عليها، وأبقى وحيدة يأكلني ضيق هذا المكان. عشرون عاما وأنا أنسج ثوبا من خيالي لأرتديه، أقطف أزهار وهمي، أزرعها في مزهرية ظنوني، أُوهِمُ النفس بالفرح المخبأ في السنين القادمة. عشرون عاما أقطف من شجرة العمر أغذي أبنائي اليافعين، أُفْرِحُهم، وأحميهم إذا ما الليل مدّ إليهم أنامله، ترى الفرح بعيني إذا جعتُ والكل بات شبعانا، إذا سهرت والكل بات في ليالي الشتاء أحميه من البرد.
الليلة أنتهى دور البطولة، دور الأمومة اللابسة ثوب القداسة والصفاء، الليلة عرس آخر أبنائي، قبّل على خد زوجته حياة سيرسماها بكفيهما، وكفّي انتهت لوحاتها، واللون أصابه من بعد طول السكون الجفاف، ماذا تراني فاعلة والكلّ شقّ في الحياة طريقة، وطريقي أسلكه بلا هدف، ولا معنى يغريني للبقاء.
أنام لوحدي، والصمت يسكن في تفاصيل غرفة نومي، يذكّرني أنّ في هذه الغرفة كانت حياة، وأنّه كان معي رجل يشعل أتون الأنوثة فيّ إذا خمدتْ نيرانها، لكنّ بردا أصاب سريري، أصاب ملابسي النائمة فوق رفوف الخزانة، أصاب قوارير عطري الحالمة بليلة تمزّق ستائر مسرحي الحزين، أصاب قمم براكينِيَ الثائرة، صارت جبالا من الثلج في كلّ فصول السنة، وجاري الأرمل حين يراني يقول: كلانا البرد يقتله، فهل بعد هذا الشتاء ربيع؟ أرد عليه بأن هذا الشتاء مقيم.
من أين جاء هذا الدبيب الخفي، من تحت جبال ثلوجي كيف تسرّب إليّ دفء غريب، دفء على ما أظن عرفته قبل عشرين عاما. أبعد كل هذه السنين تصحو في داخلي أشياء نسيتها؟ أشياء تُصرخ الأنوثة فيّ، ترميني على شاطئ رمله ناعم، فأمشي عليه حافية القدمين، شعرت بأن ثلوج شتائي صارت تذوب، فتكشف مرجا طريا، ووردا فاح أريجه فانتشيت.
فوق سريري جلست، قرّرتُ تحطيم كلّ حصوني، ووهما في الماضي ظننتُ أنها مانعتني، قرّرتُ رفع شراعي ، والريح إذا وافقتني سأعبر لكلّ البحار البعيدة، وجاري سأعلمه عند الصباح بأنّ الربيع من بعد طول الشتاء جاء بلا موعد في القدوم.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 34 مشاهدة
نشرت فى 4 نوفمبر 2016 بواسطة azzah1234

عدد زيارات الموقع

160,397