بقلمي / محمد البنا
بلا غـــد
بخجلٍ شديد يدنو شفتيه من أذنه هامسًا
_ الساعة داخلة على واحدة يا عم حسن ، أنا مضطر ألم الكراسي ، ربنا يصبّرك ويعوض عليك
ينهض خاوىّ النفس يجر قدميه ، وثلاثة أطفال يتعلقون بيديه وطرف جلبابه ، يدفع بابًا خشبيًا ، يدلف في خطىً ثقيلة صوب غرفته ، متجاوزًا الردهة المشتركة بينه وبين جيرانه في الثلاث غرف الأخرى ، يغيب داخلها ، تلاحقه ظلال أطفاله ، يتوارى جمعيهم خلف بابٍ خشبيٍ آخر ، يشير بإصبعه إلى أكبرهم أن يتوسد فراش السرير خلفًا لأمه ، ومانحًا براحًا إضافيًا لأخويه أسفل السرير .
بعطفٍ وحنوٍ طفولي يسأله : هو أنت مش هتنام يابا ؟
يجيبه دون أن يرفع إليه بصره ، متحاشيًا أن يرى دموعًا لا تزال تنحدر على خديّه
_ شوية كده يا أحمد يا ابني ، هأدخن نفسين وبعدين يحلّها ربنا من عنده
يتوارى الصغيران أسفل السرير ، والكبير يلتف بملاءةٍ مهترئة ، يتشمم ما تبقى من رائحة أمه ، ويقاوم نعاسًا لا سبيل إلى مغالبته .
يجلس عم حسن مقرفصًا داخل جلبابه ، عيناه تعددان مساحاتٍ خاليةٍ من طلائها في سقف غرفته ، تتهاوى نظراته التائهة منحدرةً مع دمعاته ، تستقر على إسطوانةٍ حديدية في زاويةٍ من الغرفة ، يغالب إبتسامة ساخرة فرضت ملامحها على شفتيه ، يتذكر أهل العطفة وهو يحيطون بموظف الدولة ، التي أرسلته معزيًا ، وحاملًا إليه إسطوانة ملئَ ، تعويضًا عن فقده لزوجته إثر صراعٍ دموي عند المستودع الحكومي ، ورفضه تسليم الإسطوانة إلا بعد تسلمه لأخرى فارغة ، يهمهم " والله فيهم الخير " ، يبتسم إبتسامة بلهاء مُحدثًا نفسه " وحدي دونًا عن أهل العطفة جمعيهم ، فزت اليوم بإسطوانة غاز " ، يتساءل " ترى من يفوز غدًا بأخرى لقاء زوجته أو ابنٍ من ابنائه ؟ " ، يتساءل " ماذا سيفعل غدًا أو بعد غدٍ عندما يأتي عم سعد مطالبًا باسترداد إسطوانته ؟ " .
ينهض ، يتجه صوب الزاوية ، يفتح صمام الإسطوانة ، ينزع الوصلة الجلدية ، يعود إلى زاويته ويجلس القرفصاء ، يعبث بأصابعه داخل الجيب العلوي لجلبابه ، يلتقط عقب سيجارته ، تنزلق يده اليسرى داخل الجيب السفلي ، يقبض على عود ثقاب ، يضع السيجارة في فمه ، يخالها تهمس مستنكرة " لن تستطيع إشعالي !! " ، يتمتم في هدوء وثقة " أعرف ذلك " ، ويشعل الثقاب .