يقلمي / محمد البنا
Mohamed Elbannaخلف المرآة
موكبٌ ضخم تتوسطه سيارةٌ سوداء فارهة ، يقطع الطريق الصحراوى فى سرعةٍ مذهلة .
إمرأة فى الأربعينات تجلس محشورةً بين ثلاثة رجال فى المقعد الخلفى لإحدى سيارات نقل الركاب ، تتوقف السارة فجأةً ، يصرخ فيهم سائقها صابًا لعناته " كله ينزل ...العربية عطلت ..مفيهاش بنزين " ، المرأة تواصل المسير على قدميها دون تأفف ، فما حدث أضحى شيئًا مألوفًا ، خطواتها تتحسس موضعها في الأزقة الآهلة بين مارٍ وجالس أمام بيته أو محله ، باردة الملامح كميتةٍ تتهادى بين موتى .
الموكب يبطئ من سرعته إلى أن يتوقف تمامًا أمام أحد البيوت النموذجية فى القرية النموذجية ، يترجل رجلٌ ذو حلةٍ سوداء فاخرة ، يتقدم بخطىٍ متزنة وواثقة صوب باب البيت النموذجى ، بينما ينتشر مرافقوه فى سرعةٍ ومهارة ، وقد إرتدوا جلابيب رمادية اللون فوق زيهم الرسمي ، وتسمروا أمام الأبواب المغلقة للبيوت النموذجية الأخرى ، يضغط الرجل على جرس الباب ، فيفتح لحظيًا ، ليبرز من خلفه فلاح وزوجته وولديهما .
تدفع المرأة بابًا حديديًا وتدخل ، تغلقه خلفها ، تعبر الصالة على عجل ، تلقى بتحية المساء على سيدتين تباشران غسل الملابس بالتناوب فى إناءٍ مشترك ، بينما الغرف الخمس التى تطل على الصالة أبوابها مغلقة ، تدفع بابًا خشبيًا وتتوارى خلفه ، تلقى بجسدها المنهك على الأريكة المتهالكة الوحيدة فى غرفتها ، تضع اللفافة الورقية بجوارها ، يرفع زوجها أبو عادل الغطاء من على رأسه ، عيناه موزعتان بين تحية وبين اللفافة
- إيه اللى ف الورقة دى يا أم عادل
تتنهد متحسرة
-- هيكون إيه يعنى!!...رغيفين وحتة جبنة يا أخويا
يشيح بوجهه متأففًا
- جبنة ..جبنة!!....أنا نفسى ف روزبيف يا تحية
تصك المرأة صدرها بكفها وتصيح
-- روزبيف ؟ ...روزبيف إيه يا أبو عادل ؟؟
يندفع على صياحها رجلان وثلاث نساء
--- فيه إيه ياختى ؟؟...كفى الله الشر
-- الراجل إتجنن !!...قال إيه ياختى ...نفسه ياكل روزبيف !!
--- روزبيف ؟ ...وده يطلع إيه ده ؟
يرد أحد الرجلين فى ثقة وهدوء
---- ده فاكهة بس أوانها لسّه ما جاش
تلمح إحداهن اللفافة وقد برز منها أحد الرغيفين ، فتسارع بالنداء على ولديها ، فيسارع عادل بإخفاء الرغيفين تحت جلبابه الممزق .
الرجل ذو الحلة السوداء يجلس بين الفلاح و زوجته على أريكةٍ فاخرة ، يحتسون الشاى الأسود ، ويتبادلون الضحك فى ألفةٍ وود ، يتصاعد رنين جرس الباب ، ينهض أحد الولدين ليفتح الباب ، فيدخل رجلان فى ثيابٍ ريفيةٍ براقة ، يسلمون على الرجل ، ويجلسون بينما الزوجة تصب لهما الشاى فى الكوبين الفارغين .
يتكالب الولدين على عادل محاولين إنتزاع الرغفين منه ، فتدفعهما تحية بعنف ، تجذبها أمهما من شعرها ، وتصرخ مستدعيةً زوجها ، الذى يندفع عبر الباب الخشبي وبيده سكين ، فيتصدى له أحد الرجلين ، تنقطع الكهرباء بينما الصياح والسباب وصرخات الألم تتصاعد .
يرتشف الرجل رشفةً أخيرة من كوب الشاى ، ثم ينهض مبتسمًا وموجهًا حديثه إليهما
= الحمد لله ...إنتم كنتوا آخر فقراء البلد ...دلوقتى مفيش فقر ، قتلناه بمجهودنا وتكاتفنا وقوة عزيمتنا .
تعود الكهرباء مرةً أخرى ، تحية تولول بجوار جثة إبنها ، ويده الملوثة بدمائه ، قابضةً بقوة على بقايا رغيف