أمنيىة
لا يدري ما الذي دفعه إلى مسح حافة فنجال قهوته الصباحي بطرف بنانه ، إلا إنه فعلها ليتفاجأ به جالسًا أمامه في استرخاء ، ينفث تنهيدةً طويلة ، كاد لهيبها يلامس جلد وجهه ، ويبعث من عينيه رسالة شكرٍ وإمتنان ، رجلٌ ناضح في منتصف العمر ، ذو نظرةٍ ثاقبة ، عيناه كعينيّ نمس ، ذواتا برودٍ مميت ، يركز نظرتهما في بؤبؤي عينيه ، قبل أن يفيق من دهشته وهلعه بادره
- أنت من أطلقت سراحي ، ولك عندي أمنيةً أحققها لك قبل أن تقوم من مقامك هذا مكافأة لك .
استجمع رباطة جأشه ، سأله
- من أنت ؟
أجابه في هدوء دون أن يطرف له رمش
- أنا جني أنتمي لأسرةٍ ثرية في مدينتنا ، والتي هى مدينتكم أيضًا ، لكننا نعيش في زمنٍ يسبق زمانكم هذا بثلاثمائة عامٍ أو يزيد
- لم سُجنت ؟
استطرد سابحًا بنظرته في فضاءٍ لا متناه
- تجرأت وتقدمت لخطبة ابنة ملك مدينتنا ، فما كان منه إلا أن أحالني إلى محكمة القيم ، أدانتني بتجاوز حدود أعرافنا ، وكان حكمها بحبسي في حافة فنجان طيني حال صنعه ، ولحين أن ينكسر ويتشظى أو تمتد يدٌ وتمسح حافته ، وها أنت منذ لحظات قد فعلتها .
- وتريد أن تكافئني الآن لإطلاقي سراحك ؟
- نعم ، لك عندي ما تطلب
سرح قليلًا باحثًا في أعماقه الحزينة عما تتمناها نفسه المحرومة من البهجة ، اردف
- كان لي حبيبة ، إلا أن الظروف حالت دون أن نكلل حبنا بالنهاية المرجوة ، فهل في مقدورك أن تأتيني بها ؟
بالكاد سمع رده وهو يختفي من أمام ناظريه
- قبل أن تقوم من مقامك هذا
أشعل سيجارته ، وارتشف رشفةً من قهوته الصباحية ، ثم ما لبث أن رأه منتصبًا أمامه ، سأله مستنكرًا
- ألم تقل لي أن هذه الأمنية في استطاعتك ؟!
- بلى
- إذن أين هى ؟
مد يده وأفرد لفافةً على الطاولة الصغيرة ، تضم بين تلافيفها ترابًا وبقايا عظام متيبسة ، واختفى .