هل ينشأ الانسان متكاملا في مهاراته النظرية والتطبيقية ويطرق ابواب الحياة من دون حاجة للآخرين وآرائهم وتجاربهم وما اكتسبوه من مهارات متعددة؟ وهل يستطيع أن يعرف نفسه وامكانياته ومواهبه من دون أن يكون هناك طرف خارجي يرصد مؤهلاته؟ وهل بإمكان الانسان الذي لا يرى عيبا في ذاته أن يعزل نفسه ونشاطه الفكري والعملي عن الآخرين؟. إنها سلسلة من الاسئلة المتلاحقة التي نريد من خلالها أن نصل الى القيمة الحقيقية التي تشكلها مرآة النقد في حياة الانسان، حيث لا تبرز المتضادات إلاّ من خلال المتضادات الأخرى، بكلمة أخرى، أن اللون الأبيض على سبيل المثال لن تكون له أدنى قيمة إلاّ في حالة وجود اللون المضاد، ولعل جدلية الحياة وقيمتها قائمة برمتها على هذا الاختلاف في طبيعة الأشياء. ومن هذه الرؤية الواقعية نستطيع أن نقول بأن الذات الانسانية لا قيمة لها على الاطلاق بغياب الذوات الأخرى، ولعل الأهم من ذلك هو أن الذوات الأخرى هي المرآة الحقيقية لتقييم الذات الفردية، بمعنى ان الانسان لا يمكن ان يصل الى مؤهلاته ومواصفاته وقدراته المتنوعة إلاّ بحضور الدور الآخر لذوات أخرى. وفي هذا الصدد يطرح أحد الكتّاب رأيه في هذا الموضوع فيقول: (لو لم تكن هناك مرآة نبصر فيها وجوهنا، هل كان بإمكاننا أن نعرف مواطن الجمال فيها أو مواطن الخلل؟ هل كنّا نستطيع أن نصلح من ترتيب شعرنا وهندامنا، أو نرى ما قد يظهر على سحنة الوجه من اصفرار أو بثور؟ كيف كنّا نستطيع أن نتجمّل)؟.
إذن بهذا التوصيف الواقعي نصل الى ان المرآة أو (الذات الأخرى) هي التي نستطيع من خلالها أن نصحح ما يعتورنا من خلل سواء في مضمار التنظير أم التطبيق، وبهذا سيكون دور المرآة الناقدة أساسيا وحاضرا في معظم تفاصيل حياتنا، وهي الدافع الأهم في تلافي الاخطاء بمختلف انواعها وتجاوزها الى ماهو أصح وفقا لما تقدمه لنا المرآة الناقدة من نصائح نستطيع أن نثق بها في حالة معرفتنا لنزاهة هذه المرآة وقوة مؤهلاتها وصدقها وحياديتها وابتعادها عن الاهداف الجانبية التي لا تدخل في لب العملية النقدية البناءة، وهنا يقول الكاتب ذاته: (أمّا إذا كانت صدئة، أو ملوّثة، أو مشوّهة، فإنّها لا تريك وجهك كما هو، لأنّ الصدأ يحجب ما في الوجه من حسن، وربّما يزيد في قبحه إن كان قبيحاً. والمرايا ـ كما هو معلوم ـ أشكال وأنواع، فإذا كانت المرآة مقعّرة أو محدّبة، مصغّرة أو مكبّرة، فإنّها لا تظهر شكل الذي يقف قبالتها إلاّ مشوهاً ممسوخاً وكأنّه تعرّض إلى حادث مؤسف قلب ملامحه. وفي المحصّلة فكيفما تكون المرآة تكون الصورة، ولهذا جاء الحديث الشريف يشبّه المؤمن بأ نّه مرآة أخيه المؤمن، وبالطبع فهو يريد المرآة السويّة المستوية لا المرآة المشوّهة المكبّرة أو المصغّرة، أي أنّ المؤمن مسؤول عن نقل الصورة كما هي بلا تحريف ولا زيادة ولا نقصان). بمعنى أن ثمة مسؤولية ملقاة على عاتق الانسان في مسألة إختيار المرآة الناقدة التي تتوافر على عناصر التصحيح والتقويم الحقيقية، فثمة مرآة قد يكون دورها سلبي كونها مشوهة أصلا ولا تصلح أن تكون معيارا لمؤهلات وملامح ومقومات الذوات الأخرى، وبهذا ستكون النتائج مشوهة أيضا، وهنا يجب على الانسان أن يتدخل في اختيار الناس الذين يستشيرهم في ما يتعلق بأفعاله واقواله، وأن يعرف مسبقا بأن هذه المرآة او تلك لا تنطوي على سمات الصدق والحيادية والاخلاص، لكن سيكمن خطر جديد في هذا الجانب، فالانسان عادة ما يرغب بالسهل ويميل الى الليونة ويحب مدح الذات ويفضله على تقريعها او نهرها من لدن الآخرين، لذلك يبرز هنا دور النقد الذاتي بقوة، لكن يبقى التقارب في الافكار والقناعات والتوجهات هو المؤثر الاول في اختيار مكمن المشورة والنصح والتقييم حيث تتوافر فيه (او ينبغي ذلك) سمة الصدق والتجرد من الاهداف المبيتة والمنافع غير المشروعة. لذلك يرى الكاتب نفسه بأن المؤمن كالمرآة.. لا يفضحك أمام الآخرين، ولا ينشر ما يراه من عيوبك بل يتكتم عليها.. إنّه يصارحك بها لكنّه يكتمها عن غيرك وكأنّها سرّ من الأسرار التي لا يجوز فضحها أو كشفها إلاّ لمن اطّلع عليها. وهذا هو السبب الرئيس الذي يجب ان يدفع الانسان الى البحث الدائم عن المرآة الصادقة تلك التي تخلو من الشوائب والتشوهات لكي تكون صورة الذات المعكوسة عنها صادقة وحقيقية ومخلصة في آن واحد.
ساحة النقاش