خفايا الحملة الجديدة على محمد حسنين هيكل

هذا آخر ما كان يطلبه الأستاذ محمد حسنين هيكل أو يتمنى حدوثه، بل لعله كان يخشى من (تسييس ما لا يسيس)، أو أن يتعامل آخرون من الدولة المصرية وما حولها مع المؤسسة التي تحمل اسمه كشأن سياسي يدخل من ضمن صراعات السياسة المصرية. ف (مؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية) لا شأن لها بقضايا السياسة الجارية أو تعقيداتها، والهدف الرئيسي منها توفير صيغة مؤسسية تضمن سلامة وصون الآلاف من الوثائق المصرية الأساسية على عهدي الرئيسين الراحلين (جمال عبدالناصر) و(أنور السادات)، وآلاف أخرى من الوثائق الأمريكية والبريطانية و”الإسرائيلية” عن الحقبة ذاتها حصل عليها بنفسه، وتولى خبراء ترتيبها وتصنيفها علميا، فضلا عن أوراقه الشخصية ومذكرات نادرة للرئيس عبدالناصر وآلاف الصفحات بخط يده وتسجيلات صوتية فضلاً عن (25) ألف كتاب. وهذا كله (ذاكرة أمة) وزاد ثقافي في العلوم الصحافية والسياسية، ومادة خصبة للباحثين والمؤرخين والصحافيين عن تلك الحقب السياسية المفعمة بالتحولات والانقلابات الكبرى. فالكلمة  هنا  للتاريخ وحقائقه لا لتصفية حسابات سياسية عابرة، وثائق مؤكدة لا (دردشات) صالونات وصحف وكلام مرسل.

من هذه الزاوية فإن المؤسسة  بما تقوم عليه  تتخطى شخص صاحبها إلى المستقبل وحق المصريين في الاطلاع عليها وبناء التصورات وفق معلومات، والأهم من ذلك كله أن تلك الذخيرة من الوثائق والمستندات تساعد على إحياء الذاكرة الوطنية، التي يراد لها أن تبهت وتضعف، وأن تنهار حواجز المناعة والمنعة في الوطن كله. غير أنه بدت في الأيام الأخيرة حملة جديدة على هيكل بمناسبة البدء في نشاط المؤسسة التي تحمل اسمه. وبدأت بعض الصحف القومية تطرح تساؤلات في غير محلها وتدخل معارك في غير ميادينها، وتخلط ما لا يختلط. وبدا أن هناك من يعترض على أن يبدأ نشاط المؤسسة التدريبي لشباب الصحافيين بثلاث محاضرات للصحافي الأمريكي الأشهر سيمور هيرش عن (صحافة الاستقصاء) أو (صحافة العمق). وبدا أن الهدف النيل من (هيكل) لا من (هيرش)، وبدت الحملة في الكواليس وعلى صفحات بعض الجرائد متجاوزة الموضوع إلى حسابات أخرى. فالدورة تدريبية من صحافي أمريكي مرموق، هو العمدة في تخصصه، وصحافة العمق بالذات تمثل أرفع ما تلجأ إليه الصحف لمنافسة سطوة الصورة في التلفزيونات. وخلفية هيرش المهنية تؤهله لإلقاء محاضرات رفيعة في هذا الفن الصحافي.

وفي خلفيته: فضح تفاصيل مذبحة (ماي لاي) في فيتنام (1969)، وكشف النقاب  للمرة الأولى  عن الترسانة النووية “الإسرائيلية” التي كانت سراً غامضاً لعشرات السنين (1991) في كتابه (الخيار شمشون)، ومن كتبه المدوية: (ثمن السلطة  كيسنجر في بيت نيكسون الأبيض)، الذي حاز جائزة صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) لأحسن كتاب، وجائزة النقاد لأحسن كتاب على المستوى القومي، وأحدث كتبه (القيادة الأمريكية العمياء: الطريق من 11سبتمبر إلى سجن أبو غريب)، وهذه في حد ذاتها تكفي للاحتفاء به وتكريمه من الرأي العام العربي، وقد أدت خطته الصحافية الكبرى إلى إطاحة وزير الدفاع الأمريكي رونالد رامسفيلد عن موقعه الوزاري. وفي سجله: خبطات أخرى كتبها في (نيويورك تايمز)، ويكتب حالياً في مجلة (نيويوركر)، وآخر تحقيقاته الموثقة تناولت بالتفاصيل: (الخطة السرية لوكالة الاستخبارات الأمريكية للهجوم على إيران)، وقد مكنه إنتاجه الصحافي اللامع وخبطاته الكبرى من حصد اثنتي عشرة جائزة صحافية من بينها جائزة (بوليتزر) لتقارير الشؤون الدولية وجائزة (جورج بولك) وجائزة (ورث بينجهام). وهذه المقومات المهنية قبل أي اعتبار آخر من وراء اختيار الأستاذ هيكل ل(سيمور هيرش) لشرح تقنيات في صحافة الاستقصاء، ووضع خبراته أمام جيل جديد من الصحافيين المصريين الشبان.

ومن المثير أن بعض زملاء وأصدقاء في صحف قومية أبدوا استغرابا من أن تتضمن قواعد الاختيار للمشاركة في الندوة التدريبية تعهدا بعدم نشر وقائع الدورة، رغم أن هذا الشرط أراد  بالضبط  عدم تسييسها، وأراد  بالضبط  توكيد طابعها التدريبي وصيانة لها من أن تتحول إلى نوع من الحوار السياسي الصحافي مع المحاضر. لا صحافة  أصلا  بلا أفق سياسي، ولا صحافة في العمق ولا في غير العمق دون تخطيط عام يسبقها، لكن الهدف الرئيسي هو التقنيات ونقل الخبرة وفتح آفاق جديدة أمام جيل جديد، وهو جيل يجد الأستاذ هيكل نفسه ضعيفا أمامه وقلقاً عليه في أوضاع سلبية تكاد تحطم ما تبقى من تقاليد صحافية ومن أطلال مدارس فيها، ولعله أراد أن يسهم بقدر ما يستطيع في بناء أجواء أفضل تعيد للمهنة احترامها وللصحافة أصولها وتسمح  مستقبلا  بإعادة تأسيس المدارس الكبرى في الصحافة المصرية، التي تراجعت وانتكست وخابت إلى حد أن أصبحت الصحف السعودية في لندن عقدتها.

وبدا أن اسم هيكل كافٍ لإثارة جدل حول (سيمور هيرش) وديانته، وإذا ما كان هناك صحافيون أفضل في الغرب منه أم لا، قد تكون هناك أفكار كثيرة ل(هيرش) تستحق المراجعة، وقد لا يكون الأفضل على الإطلاق، ولكنه الأفضل  يقينا  في صحافة الاستقصاء والتحقيقات الكبرى. من حق (هيكل) أن يختار محاضريه كما يشاء، وقد قرر واختار (هيرش)، وجرى ذلك وفق الأعراف التي تتبع في إلقاء المحاضرات من شخصيات سياسية وصحافية وعلمية نافذة ومؤثرة في الولايات المتحدة. وقد اعتاد (هيرش) على أن يتقاضى في المحاضرة الواحدة داخل الولايات المتحدة (30) ألف دولار. غير أنه تقديراً لهيكل ومؤسسته قبل تخفيض مكافأة المحاضرة الواحدة إلى النصف: (15) ألف دولار، فضلا عن تكاليف السفر والإقامة. والمعنى هنا أن قواعد المحاضرات الدولية بدأت (مؤسسة هيكل) في اتباعها. ولعلي أتوقف  هنا  للكشف عن وثيقة مسجلة صوتيا أمام الكلام الكثير الذي قيل حول ديانة (هيرش) اليهودية، ولهيرش الأمريكي مواقف ضد العنصرية الصهيونية. وإذا كان الهدف التعريض بالأستاذ هيكل، فإنني أضع أمام القارئ نص مهاتفة بين الصحافية الفلسطينية (صابرين دياب) من جريدة الاتحاد في (حيفا) والبروفيسير (آرنون سوفير) أستاذ الجغرافيا وتاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة حيفا، سجلتها الصحافية:

 ماذا تقول عن إنتاج المفكر الكبير (محمد حسنين هيكل)؟.

 سوفير: كنت لا أسميه مخططا عسكريا حاقدا على دولة “إسرائيل”، أو مخططا استراتيجيا كما تريدين أن تسمعي، والجميع يعلم أنه من حرض قيادة مصر في مرحلة تاريخية معينة ضد دولة “إسرائيل”، ووضع بنفسه سيناريوهات الحرب ووقف وراء القرارات السياسية التي هددت أمن “إسرائيل” في حينها.

 هل من توضيح يا بروفيسير؟

 سوفير: لن ترغبي في ذلك، فأنت عربية متشددة تنتمين إلى صحيفة لا تصفني إلا بالعنصري (يقصد جريدة الاتحاد).

 سمني ما شئت ودعك من صحيفتي وإن كنت أستغرب كلامك، لكن هل تتهم أستاذنا العربي الكبير هيكل بالتشدد وعدم الموضوعية؟

 سوفير: ماذا تريدنني أن أتوقع من رجل آراؤه معادية ل “إسرائيل” ويحرض رئيس دولته عليها ويكتب له شعاراته المتطرفة التي يتغنى بها العرب حتى اليوم.

 لن أناقشك كثيرا يا سيد سوفير، هل تريد أن تقول لي باختصار إن الصحافي إذا ما أثر في صانعي القرار في دولته يصبح ذلك أمرا معيبا؟

 سوفير: (ضحك بصوت مرتفع) لم اقل بأن ذلك عيب عليه ولكن هذا الرجل كان يتجاوز كل الخطوط الحمراء فهو الصحافي العربي الوحيد في القرن العشرين الذي استطاع أن يسهم في صنع القرار بينما الحاصل اليوم وجود المئات من الصحافيين الذين يحرضون الشعوب ولا يستطيعون تحريض زعمائهم.

 أنت تعادي جمال عبدالناصر وأنا أستطيع تفهم تخوفك منه حتى بعد مماته خاصة وانك لم تذكر حتى اسمه لأن التاريخ الذي تدرسه في الجامعة يؤكد قوة هذا الرجل الذي طرد الإمبرياليين من بلاده وانتقل بشعبه وأمته من مرحلة الهيمنة الأجنبية إلى بسط السيادة الوطنية بالإضافة إلى الانطلاق بشعبه نحو ظروف أفضل حالا مما كانت عليه لم ترق للكثيرين.

 سوفير: ليس من حقك أن تتهميني بالتخوف لكني افهم مصائبكم جيدا

 سيد سوفير دعنا لا ندخل في نقاش لن نخرج منه بسلام قل لي من فضلك، معروف عن دولة “إسرائيل” أنها لا ترحم من يهدد أمنها هل فكر “الإسرائيليون” آنذاك تصفية هيكل حسب تقديرك؟

 سوفير: كل دولة تحترم نفسها وسيادتها لا ترحم مهددي أمنها وليس فقط دولة “إسرائيل”

 إذا؟

 سوفير: ما يهمك إذا كان سيصفى أم لا ثم إنني لست جهازا أمنيا ناقشيني بما هو أهم لو سمحت.

هذا المقطع المطول من نص مسجل يعني أن المؤسسة “الإسرائيلية” حاولت في بعض الأوقات اغتيال محمد حسنين هيكل، غير أن تلك قصة أخرى، فما يعنينا  هنا  أن اسمه آخر اسم يمكن أن يرتبط بفكرة التطبيع أو الاتصال مع الدولة “الإسرائيلية”، وكان هدفاً على قائمة اغتيالاتها واختياره لهيرش شهادة باتساع الأفق السياسي والمهني، فلا خلط بين “إسرائيل” وعنصريتها وبين مفكرين وصحافيين يهود ضد المشروع الصهيوني وفي مقدمتهم ناعوم تشاموسكي المفكر الأمريكي المعروف والصديق الحميم للراحل الكبير الدكتور إدوارد سعيد، الذي كان صديقاً حميماً لهيكل أيضاً.

الاعتبارات المهنية هي الأساس، في اختيار هيرش وما يليه من اختيارات يعرف الأستاذ أقدار أصحابها وما يحوزونه من خبرة. ففي ابريل المقبل ورشة عمل ليوم واحد يحاضر فيها الصحافي البريطاني (أندرو وايت)، وهو أشهر من أن يعرف، فقد ترأس تحرير (الايكونوميست) وارتفع بتوزيعها إلى أعلى مستوى في تاريخها، وكان لسنوات طويلة قبل أن يعتزل في أوائل خمسينات العمر، (ماركة مسجلة) للنهوض بالصحف المتعثرة والتقدم بها إلى المرتبة الأولى، ويعتبر المرجع الأول في بريطانيا في إدارة الصحف، وقد ترأس مجلس إدارة مجموعة (التلجراف) ومجموعة (التايمز)، وقد تمكن في المرتين، وخلال أربع سنوات في كل مرة، من التحول بالمؤسسة المتعثرة من خسائر بعشرات الملايين الإسترلينية، وأحيانا مئاتها، إلى مكاسب بعشرات الملايين الإسترلينية، وأحيانا مئاتها. وسوف تكون محاضرته عن الإدارة الصحافية الناجحة، ولعلي أنصح أساتذة الفشل في مصر بالاطلاع على نصها.

ويشارك في التدريب  بالإضافة إلى (أندرو نايت)  صحافيون كبار من جريدة (الجارديان) وخبراء اتصال من (تومسون فونديشن)، التي أسسها روي تومسون، وملكت لبعض الوقت مؤسسة (التايمز) و(صاندي تايمز). وسوف يلي ذلك دورات وورش عمل أخرى في أكتوبر المقبل. وسوف تدعى مؤسسات صحافية عربية للمشاركة بصحافيين شباب فيها توكيدا للدور القومي للمؤسسة. ويعتزم الأستاذ هيكل في نهاية هذه (الدورات التدريبية) أن يرسل خمسة صحافيين مصريين وعرب، كجوائز للأكثر تفوقاً، إلى (أكسفورد) في منحة دراسية تتكلف (15) ألف جنيه إسترليني سنويا لكل طالب للحصول على درجة الماجستير ودورات في تقنيات الاتصال والعلوم السياسية. وذلك كله مما لا يمكن لصحافي مصري واحد لديه إدراك معقول أو في حده الأدنى لما تردت فيه الصحافة المصرية أن ينكر أهميته وضرورته.

لكن الهاجس المؤرق أن تلك مبادرة هيكل ومؤسسة هيكل ورعاية هيكل، وشبح هيكل، انها عقدة مستحكمة ولا سبيل لحلها. وقد بدا للأستاذ هيكل  وكنت طرفا في القصة وشاهدا عليها  أن يبدأ أول نشاط عام للمؤسسة في تدريب الصحافيين في مكتبة القاهرة، كمؤسسة عامة مصرية تابعة للدولة وذات صلة بالثقافة، غير أن المحاولة لم تنجح، وكانت الإجابة: (الأستاذ هيكل في القلب والعقل ولكن الظروف لا تسمح). ولكنه قرر أن يمضي في برنامجه، كما حدد أهدافه وخطط له، ونقل محاضرات (هيرش) إلى الجامعة الأمريكية التي قدرت القيمة العلمية والمهنية للدورة الخاصة التي يقوم عليها هيرش وفتحت لها مرحبة أبواب قاعتها الشرقية. والمثير في القصة كلها أن الأستاذ هيكل لم يرد التسييس وأرادته الدولة!.

  • Currently 141/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
47 تصويتات / 837 مشاهدة
نشرت فى 7 فبراير 2007 بواسطة areda

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

4,173,631