"الحوار الوطني" .... ومستقبل التنمية في مصر
التنمية المستمرة .... جسر المستقبل
"الحوار الوطني"، دعوة كريمة أطلقها فخامة الرئيس في وقت حساس، تعكس حرص القيادة السياسية على التوجه بالبلاد نحو مستقبل واعد يليق بها، وفي إطار من الحكم الرشيد الذي يكون فيه الشعب هو الموجه لعملية التنمية ومراقباً لها. ولكي يحقق هذا الحوار الوطني ما ينشده الوطن وقيادته السياسية منه، فإن ذلك يتطلب شرطين أساسيين: الأول، هو التحديد الدقيق لأهداف ذلك الحوار والنتائج المرجوة التي ينبغي الوصول إليها من خلاله؛ والشرط الثاني، هو أن يتحلى جميع المشاركين فيه، من حكومة وأحزاب ومنظمات أهلية وأفراد، بالتجرد وإعلاء مصلحة الوطن فوق ما عداها.
وعلى الرغم من أهمية الغايات السياسية والمجتمعية لهذا الحوار، فإننا نركز في هذا المقال على أهمية قضايا مستقبل التنمية في مصر، وبما يضمن انتقال هذا الوطن الكريم، الغني بموارده البشرية والطبيعية، إلى المكانة التنموية اللائقة به. وهنا نؤكد على ضرورة أن نصل من خلال هذا الحوار إلى تحديد دقيق لأولويات ومتطلبات التنمية في مصر خلال هذا القرن. وللوصول إلى ذلك، ليس علينا أن نخترع العجلة من جديد، وإنما يمكننا أن نستفيد من تجارب تنموية واقعية نجحت في إخراج دولها من دوامة الفقر والجهل والمرض، إلى صدارة ترتيب قوائم التنمية في العالم. وفي هذا الصددـ تعتبر سنغافورا النموذج الأمثل الذي يمكننا الاسترشاد به.
لقد بدأت سنغافورا نهضتها التنموية بعد تحررها من الاحتلال البريطاني في أغسطس 1963، أي بعد ثورة مصر بحوالي عشر سنوات. فمنذ 60 سنة تقريباً، كانت سنغافورة عبارة عن شعب فقير أُمي (تتجاوز نسبة الأمية فيه 50%) وحكومة اجنبية استعمارية؛ وبلد مساحتها صغيرة جداً، لا تكاد ترى على خريطة العالم، لذا يطلقون عليها "الدولة النقطة"، تنتشر فيها المستنقعات، وليس بها موارد طبيعية، لا غاز ولا بترول ولا ذهب؛ كانت تنتشر فيها الأمراض الوبائية، كالملاريا وحمى الضنك والكوليرا والتهاب الكبد الفيروسي والسل، بالإضافة للأمراض المنقولة جنسياً. ونظرا لفقرها، طُرِدت من اتحاد ماليزيا عام 1965؛ حينها بكى زعيمها "لي كوان يو" أمام كاميرات التليفزيون بعد أن تخلى عنه المحتل الجائر، بريطانيا، والصديق الجار، ماليزيا، ليعلن بعدها التحدي وعزمه على النهوض بوطنه وإخراجه مما يعانيه من فقر وجهل ومرض.
كيف خرجت سنغافورا من دائرة الفقر، حينما كان نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوز 511 دولار عام 1969، الذي كان مقارباً لنظيره في مصر في حينه، إلى 58000 دولار في 2020؛ متضاعفاً 114 مرة خلال الخمسين عاماً الماضية، وليصبح ثاني أعلى دخل للفرد في العالم، قبل الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان، طبقاً لبيانات صندوق النقد الدولي. وفي عام 2012، صنف المنتدى الاقتصادي العالمي اقتصاد سنغافورة كأكثر الاقتصادات انفتاحًا في العالم؛ وقد صنفته الشفافية الدولية عام 2019، كثالث أقل اقتصاد من حيث الفساد. ونتيجة لذلك، ونظرا لمكانتها كمركز مالي دولي قوي، تراكمت في سنغافورا احتياطيات أجنبية ضخمة بلغت 362 مليار دولار في 2020. وليصبح بها اليوم 250 ألف مليونير في دولة لا يتجاوز سكانها 5.8 مليون نسمة في 2021؛ وهو ما يعني أن هناك مليونيرا بين كل 25 شخص في سنغافورا. ولتصبح رابع أكبر مركز مالي في العالم، وتدير المطار الأفضل في العالم، وتمتلك واحدة من أكبر مصافي النفط إلى جانب أحد أكثر موانئ العالم ازدحامًا؛ كما أن لديها واحدا من أفضل الجيوش في العالم من حيث جودة وكفاءة التسليح.
كيف خرجت سنغافورا من دائرة الجهل، حيث انخفضت نسبة الأمية فيها من 50% في الستينات إلى أقل من 2% في 2020. كيف استطاعت سنغافورا أن يصبح عندها واحد من أفضل النظم التعليمية في العالم كله. ففي عام 1995 – حصل طلاب الفصل الرابع والثامن في سنغافورا لأول مرة على المركز الأول في الاختبارات الدولية (TIMSS-الاتجاهات في الدراسة العالمية للرياضيات والعلوم) التي تجري كل 4 سنين على مستوى العالم؛ ثم احتكروا ذلك الترتيب العالمي لأربع دورات متتالية منذ عام 2003، 2007، 2011، و.2015. وفي 2016، تصدر طلاب سنغافورا طلاب العالم في نتائج (البرنامج الدولي لتقييم الطلبة) التابع لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية مواد العلوم والقراءة والرياضيات متقدمين على الطلاب الألمان والكنديين واليابانيين والصينيين والفنلنديين. وعلى المستوى الجامعي، تأتي جامعة سنغافورا الوطنية NUS في المرتبة الحادية عشر في ترتيب أفضل جامعات العالم. وهنا نتذكر الكلمة الشهيرة لـ "لي كوان يو"، الأب المؤسس لسنغافورا المعاصرة، حين قال في بداية حكمه ... "بأن استراتيجيته هي تطوير المورد الطبيعي الوحيد المتاح في بلاده ... وهو البشر". من هذه اللحظة، أصبح التعليم هو الهدف الرئيسي للبلاد؛ والبند رقم 1 في الميزانية؛ حيث وصل الإنفاق على التعليم في السبعينات إلى 40% من الميزانية.
كيف خرجت سنغافورا من دائرة المرض، والتي كانت تعاني من انتشار الوبائيات ونقص الأطقم الطبية، لتمتلك اليوم واحداً من أفضل النظم الصحية كفاءة ونجاحاً في العالم، وفقاً لتصنيف شركة الاستشارة العالمية تاورز واتسون (حاليًا ويليس تاورز واتسون). كما احتلت سنغافورة المرتبة السادسة في تصنيف منظمة الصحة العالمية لأنظمة الصحة العالمية. وقد صنفت بلومبيرغ نظام الرعاية الصحية في سنغافورة بأنه أكثر الأنظمة كفاءة في العالم لعام 2014. كما قد صنفت وحدة الاستخبارات الاقتصادية سنغافورا في المرتبة الأولى بين 166 دولة من حيث نتائج الرعاية الصحية. كما أن مؤشر بلومبيرغ للصحة العالمية، الذي يشمل 163 دولة، قد صَنَفَ سنغافورة كرابع أكثر البلدان صحةً في العالم، والأول في آسيا. وقد صنف مؤشر الأمن الغذائي العالمي سنغافورة في المرتبة الأولى عالمياً عام 2019. ونتيجة لكفاءة وفعالية النظام الصحي، فقد حقق السنغافوريون عام 2019 أعلى متوسط عمر متوقع في العالم بلغ 84.8 عاماً.
..............................
وللاستفادة من تجربة سنغافورا، ينبغي الإجابة على هذا السؤال الهام: كيف استغلت سنغافورا مواردها وأدارت استثماراتها وعملية التنمية بها لتحقق كل هذه الإنجازات التنموية الكبرى؟ ... وللإجابة على هذا السؤال الهام وما يرتبط به من أسئلة فرعية؛ نقترح أن تقوم الجهة المسؤولة عن تنظيم وإدارة هذا الحوار بتشكيل لجنة عمل من المتخصصين من مختلف أطياف الوطن، من حكومة وأحزاب ومنظمات أهلية وأفراد، تكون مهمتها تحليل تجربة التنمية في سنغافورا وتقديم إجابات منطقية ومحددة لثلاثة أسئلة رئيسية:
<!--لماذا نهضت سنغافورا ولم تنهض مصر بنفس المعدل؟ سؤال مهم، لا ينبغي إغفاله أو الهروب منه، فإجابته تحدد ما يجب علينا القيام به، وما يجب علينا تجنبه.
<!--كيف نهضت سنغافورا؟ وما هي الأولويات والسياسات التنموية التي تبنتها في تحقيق نهضتها التنموية تلك؟ وكيف استغلت مواردها وأدارت استثماراتها؟
<!--كيف يمكن لمصر تطبيق السياسات التنموية التي تبنتها سنغافورا في عالمنا المعاصر؟
من خلال إجابات هذه الأسئلة وما يرتبط بها من أسئلة فرعية، يلزم تقوم تلك اللجنة بتقديم تحديد دقيق ومنطقي وواقعي لأولويات التنمية وسياساتها المناسبة لمصر ومتطلباتها حتى نهاية هذا القرن، ليناقشها المشاركون في هذا الحوار ولتكون، بعد اعتمادها، بمثابة "وثيقة مستقبل التنمية في مصر في القرن الحادي والعشرين"، ولتكون دستور عمل للحكومات المتعاقبة. هذه الوثيقة ستكون واحدة من أهم نتائج هذا الحوار؛ كما أنها ستكون الهدية الأكبر من الزعيم للوطن.
وفي ضوء الحقيقة القاطعة بأن مصر اليوم في وضع تنموي أفضل بكثير مما كانت عليه سنغافورا في بداياتها، وفي ضوء حرص القيادة السياسة وسعيها الدؤوب على دفع عملية التنمية في مصر، وفي ضوء ما تمتلكه مصر اليوم من موارد بشرية وطبيعية هائلة، فإنني أعتقد جازماً أن مصر تستطيع أن تتقدم إلى وضع تنموي مبهر بمعدلات أسرع بكثير مما تحقق في سنغافورا ... وأن عشر سنوات من اليوم تحمل أملاً كبيراً لهذا الوطن الكريم، وتعتبر كافية لأن يأخذ مكانته التنموية اللائقة بين دول العالم.
تحيا مصر ......
أ.د. عنتر عبد العال أبو قرين
أستاذ التخطيط العمراني والتنمية الإقليمية، جامعة المنيا، مصر
استشاري التخطيط العمراني والتنمية الإقليمية بالبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية
ساحة النقاش