جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
حسناً كنت أقول أن الأيام في كفور الصوالح تتشابه كحبات خرز في مسبحة ..
لذا في الأيام التالية – رغبة في كسر حاجز الملل - كنت أذهب في ساعات مبكرة للصيد عند أطراف القرية حيث تنشط الطيور البرية وحيث أنني أحضرت معي بندقية الصيد من القاهرة ..
وفي مرة من المرات كدت أفقا عين فلاحة من الفلاحات برصاصة طائشة ..ولا تسألني كيف أخطات الطائر الذي في السماء وكدت أصيب تلك الفلاحة على الأرض هذة أشياء تحدث ..صدقني ..
كان صدى الطلقة يتردد في نفس الوقت الذي كانت الفتاة تصرخ وتولول وتلطم خديها معتقدة أن الطلقة أصابتها في مقتل.. صبراً يا حمقاء لقد كدت تقتليني رعباً ..لكنها هيستريا النساء في أوجها ..
- أهدئي يا ..... الطلقة لم تصبك ..
تحسست جسدها بحركة هستيرية سريعة ثم فوجئت بها تتغير مائة وثمانون درجة ..الهرة الخائفة تحولت لنمرة شرسة ..كانت تتوعدني بالويل والثبور وعظائم الأمور وأنني لو مسستها فلن أجد مكان في القرية يحول بيني وبين انتقام أهلها ..كان يمكنني إسكاتها بمجرد الإعلان عن هويتي لكنني لسبب ما كنت مستمتعاً بشراستها .. قلت لها بتهذيب :
- دعيني أصحح خطئي ..
- كيف ..؟
- سأتزوجك ..
بالطبع صدمتها عبارتي الساخرة و تورد خداها خجلاً وهي تلوح بكفها في وجهي متهمة إياي بقلة الحياء .. وأن أهلها سيحولوني إلى (كفتة) لو علموا ما حصل مني .. قلت لها في بساطة متجاهلاً ثورتها :
- مالذي أتى بك ههنا ..المكان هنا نائي وخطر بالنسبة لفتاة مثلك ..
- لا شأن لك بي أيها الغريب ..
قالتها في غل وعيناها تقدحان الشرر ..ثم أدركت أنها قد أطالت معي الحديث أكثر من اللازم ً فاستدرات مبتعدة لا تلوى على شئ .. هرة ساذجة كانت ..
- انتظري حتى أوصلك ..؟
- لا شأن لك بي أيها الغريب ..
ووقفت وحدي أردد أسم فاطمة بنت الحاج جابر الصوالحي ..
كأنما ألوك الاسم مستطعماً مذاقه ..المسكينة لم تكن تنتبه إلى أنها أخبرتني باسمها كاملاً ..المسكينة لم تنتبه إلى أنني رامي بارع وأنني لا أخطئ هدفي أبدا ..لقد أصبت هدفي و بمهارة ..
و حملت بندقية الصيد على كتفي وعدت إلى مكتبي بالنقطة مكتفياً بصيد اليوم !!
***
ألم أقل لكم بعد ..؟لقد عاد الشويش عبد الرحيم من الأجازة محملاً بالبط والفطير بالسمن ..وكان عود أحمد وبحق وكالعادة اتوقف بعد اللقمة الثالثة أو الرابعة ولا استطيع تحمل كل هذا الدسم ..هذة مشكلتي مع الفطير بالسمن .. لا أستطيع أن أشبع منه أبداً من فرط الدسم ..الشويش عبد الرحيم نحيل وله شارب ينافس شارب ديريني ..الشارب هنا مهم جداً وبه تقاس رجولتك .. لذا فشاربي المتواضع يجعلني أبدو كمراهق بالنسبة إليهما ..كان عبد الرحيم يسكن في بلدة مجاورة لكفور الصوالح وهو يتناوب الراحات مع ديريني الذي يسكن معه في نفس بلدته لعل اسمها طانطور أو حنطور ..لا أذكر حقيقة .. المهم أن زوجته تجيد صنع الفطير (المشلتت) والبط ..لكن أين البط أيها الوحوش ..؟
- على الغداء يا فندم ..
قالها عبد الرحيم مبتسماً بفم ملئ بالفطير والبيض ..إذن موعدنا مع البط سيكون في وجبة الغداء .. لا فرصة لديك لتناول طعام بيتي ههنا إلا مع نزول أحد الرجلين للراحة ..
وهذا يعني وجبة بيتية كل أسبوع تقريباً .. هذا أفضل من انتظار ولائم العمدة ..
كما أنني لا استطيع طلب أجازة بهذة السرعة ولا أريد حقيقة كما لكم ان تتصورا.. رغماً عن اشتياقي لطعام السيدة الوالدة ونظرات والدي البوليسية المرعبة ..
لابد أن أنفض عن رأسي تلك المشاعر السخيفة فتتهاوى تحت حذائي الميري ...
ووقفت اتأمل قوة النقطة المهيبة .. فخر الجندية .. كانا يفتكان بالفطير بالسمن والجبن بجوار باب مكتبي بكل رضا عن النفس .. ديريني وعبد الرحيم..سأغزوا بكما العالم ..
لكنني الأن كنت بحاجة لإجراء خطوة أولية بخصوص مستقبلي ههنا في كفور الصوالح ..
فاطمة بنت الحاج جابر ..لم أنس الأسم ولا مذاقه الخاص رغم لقيمات الفطير (المشلتت) بالسمن .. لا .. لا تذهب بعيداً من فضلك
أيها الرفيق ماركس فأنا لا أعرف دوراً للقلب الذي أملكه سوى أنه يضخ الدماء ..مجرد طلنبة تضخ الدماء .. فاطمة بالنسبة إلي كانت الفتاة التي أبحث عنها لتصير زوجتي ..وقد وجدتها أخيرا .. فهمت الأن لماذا أبعدت حينما أقحمت القلب في الموضوع ..!! المسألة مسألة زواج فقط يا صاحبي ..نواة لمجتمع اليوتوبيا الذي أحلم به ..
وكنت كذلك بحاجة إلى أن .. أحم ..ألبي نداء الطبيعة ..
لو جاز لي التعبير ولا سبيل لذلك في مجتمعنا سوى بالزواج .. ولما لم يكن من الزواج بد .. فلتكن رفيقتي إذن فتاة قروية من وراء الجاموسة كما يقولون .. نعم يا سادة هذة هي فتاة أحلامي .. لو صح التعبير فمحسوبكم لم يكن يوماً حالماً لكنني أحاول التقريب ..
أريد تلك الفتاة ..تلك الأرض البكر التي لم تحرث بعد .. هذه هي فتاة أحلامي يا سادة ولا تعقيب من فضلكم ...
لست على استعداد للزواج من سوزان أو سوسن .. فلا أريد
لزوجتي ان تكون قريبة مني في ثقافتها ..أريد أن يكون بيني وبينها مفاوز وقفار .. أريدها ان تنظر لي دائماً من أسفل لأعلى
نظرة انبهار ... هل فهمتم الأن لماذا أنا هنا ..؟
تأكدت أن اسم الفتاة حقيقي وهي بالفعل من أعيان القرية .. قلت لديريني بلهجة حاسمة :
- أريدك ان تذهب للحاج جابر هذا وتعلمه أنني أريد زيارته الليلة..
- خير يا فندم ..؟
حمرت لهً عيناي كي يرتدع فهب واقفاً وأدى التحية قبل أن يستدير منطلقاً إلى بيت الحاج جابر ..
أما أنا فكانت الفكرة المجنونة التي داهمتني واستولت على مقود عقلى تتبلور وتنضج وتأكل كل لافتات التحذير في دهاليز عقلي التي تقول لي : تمهل يا أحمق .. وصيحات ماركس الهادرة المتوعدة تقول لي :
- لم يبق لك سوى أيام في كفور الصوالح ولم تشاهد الفتاة سوى مرة واحدة .. لا تدمر مشروع اليوتوبيا بخطوة متهورة .
لكنني كنت قد اتخذت القرار الذي ستبدأ معه مأساتي في كفور الصوالح ... سأتزوج فاطمة بنت جابر الصوالحي ..
ولتزأر العاصفة .. وصاح ماركس صيحته الأخيرة :
- لقد انذرتك ......
***
وحينما جن الليل توجهت لمنزل جابر الصوالحي أو دواره كما يطلقون عليه ههنا وكان لا يختلف كثيراً عن سائر الدور ..فقط هو انظف قليلاً لأن حظيرة المواشي منفصلة عنه .. ولا يختلف كثيراً من حيث الأثاث ..كنت أجلس في حجرة الضيوف حيث الدكة العتيدة التي تعاقبت عليها أجيال وربما مات عليها العشرات من أجداد جابر الصوالحي .. (الكليم) الرمادي والطست والأبريق النحاسي .. ذكر البط الذي يرمقك في شك وفضول ..قبل أن يعلن عن رأيه فيك وبصراحة : (كوااااااك...) من ثم تكشر له أنت عن أنيابك فيفر مرفرفاً بجناحية وقد تأكد أنك مجنون تماماً ..لا أحد عاقل يفعل هذا مع ذكر بط أبداً ..!!
ثم يظهر أخيراً رب الدار..
هاهو ذا الحاج جابر يمد إلي كفاً ناعمة ليست كسائر الأكف التي
صقلتها الفؤوس ..هذا رجل كف عن الشقاء..ملامحه تنبئ بشيء من وسامة مضت وأتت عليها تجاعيد حفرها الزمن بمحاريثه التي لا ترحم.. وتذكرت وجه فاطمة ..الفتاة التي رأيتها بالأمس وجئت اليوم لأطلب يدها .. ترى كيف سيكون رد فعله إزاء طلبي المفاجئ .. ولمحت ركن فمه يختلج وهو يرحب بي ثم صفق بكفيه طالباً واجب الضيافة .. وعاد ينظر إلي نظرة زائغة ..الرجل منزعج جداً من زيارتي ولا يرحب بي البته لكنه مضطر لمراسم الاستقبال والضيافة كما يقتضي الدين والعرف .. وإلا ..
فهو يعتبر زيارة ضابط النقطة عمل مشين يهدد سمعته خصوصاً
حينما يأتيه بعربة النقطة ..
- خير يا حضرة الضابط .. ؟
فتحت فمي لأتكلم لكن خرتيتاً أدمياً اقتحم الحجرة حاملاً صفحة عليها كوبي شاي ..علمت فيما بعد أن هذا الخرتيت احد ابناء الحاج جابر يدعى مداح ..
- اتفضل شاي ...
قالها الخرتيت وهو يضع الصفحة أمامي فتناولت كوباً وأنا ألعنه في سري ..لقد بعثر الوغد ما قضيت الليل في نسجه من كلمات ..
لكن لا بأس ..لنرتجل .. رشفت رشفة من كوب الشاي ..
وانسلت من بين شفتي كلمة :
- جئت بخصوص ابنتك فاطمة ..
كان الحاج جابر يتناول كوب الشاي لكنه لسبب ما قرر التخلى
عنه في اللحظة الاخيرة ليسقط على الكليم وينتثر الشاي ورأيته يقف في حدة وهو يردد في جزع :
- فاطمة ...
نظرت له مستغرباً ردة فعله! .. على حين نهض الخرتيت محاولاً إصلاح ما أفسده أبوه لكن هيهات ..اكملت في بساطة متجاهلاً الخرتيت العاكف على تنظيف الكليم والذي صار لونه بنياً – أعني الكليم طبعاً - :
- نعم يا حاج جابر.. فاطمة.. جئت أطلب منك يدها ...
هنا برك الحاج جابر على مقعده واضعا كفه على جبهته متنفساً الصعداء ولعله أطلق سبة أو ماشابه لكن لا استطيع الجزم حقيقة ..
كما أن عندي من الأسباب ما يجعلني اتجاهل ردود أفعاله الأن ..
وتوقف ولده عن التنظيف وصاح في بلاهة :
- يد فاطمة أختي ..!!
ابتسمت له في مقت متحاشياً ركله ثم التفت إلى الحاج جابر منتظراً رده ..
أخيراً استجمع الحاج جابر شتات نفسه وبدأ يتكلم عن أشياء فاجئتني حقيقة .. لا أحد يتقدم لخطبة فتاة دون وجود لأهله في الموضوع ..وأسقط في يدي حقيقة .. لقد نسيت أمر الوالد والوالدة تماماً !!.. الأخيرة ستصاب بفالج حينما تعرف أن ولدها فضل قروية على كاميليا ..
كان لابد من إقصاء أبواي من الصورة حتى يتسنى لي اتمام تلك الزيجة ..
وهكذا صرحت للحاج جابر أنني مقطوع من شجرة كما يقولون ..
لكنك يا حاج جابر ستناسب رجلاً .. وليس الرجل من قال هذا أبي ولكن الرجل هو من سيقف إلى جانبك لو فكر ضباط ثورة يوليو في التعرض لأملاكك .. ولم يكن الحاج جابر ليقاوم ..
لو كنا في اليوتوبيا الحقة لكان طلب الزواج شيئاً مشيناً ..
"أيها الرفيق جابر أنا بحاجة لرفقة أبنتك فاطمة لنكون نواة لليوتوبيا ."
"تفضل يا ولدي وهل أجد لابنتي رفيق خير منك .."
"هذا هو العشم يا رفيق جابر لن أؤخرها عليك ..لا عليك يا بني .."
"لا يوجد رفاق كثر اليوم يمكنك أن تردها وقتما تشاء .." وهكذا تمضي الأمور دون تعقيدات مجتمعنا الرجعي !!..
لكن ما باليد حيلة ..
- الحقيقة أننا نتشرف بهذا النسب يا سيادة الضابط ..لكن علينا أن نأخذ رأي البنت أولاً ..
- بلاشك يا حاج جابر ..تفضل تفضل ...
وابتسمت في خبث .. كنت أحاول تخيل رد فعلها حينما تكتشف حقيقة عريس المستقبل .. لكن ما حدث بعد أدهشني ..
جاءت على استحياء ودون أن ترفع طرفها عن الأرض قالت الكلمة التي سحرتني :
- الذي يراه والدي يكون ..
وغداً ..ستقولين ما يراه زوجي يكون .. هذه هي فتاتي .. لقد نسيت أنها رأتني أو تناست لا أدري حقيقة ..ربما لم تعرفني في زي الشرطة وربما عرفتني لكنها مثل سائر الفتيات ..لا يرفضن عريساً تقريباً ..والحمد لله أننا في الوجه البحري حيث يسهل قبول عريس قاهري مثلي لو كنت في الصعيد الأن لما خرجت حياً تقريباً من دار الحاج جابر ..لم تكن المسافة فقط هي الفارق الوحيد بين الصعيد والوجه البحري كما كنت أتصور .. صدقت يا والدي العزيز ..
بالفعل أنا الأسعد حظاً منك ..والأيام التالية ستؤكد ذلك ..!!
***
ساحة النقاش