موقع الأستاذ عبد الفتاح أمير عباس أبو زيد

موقع لغوي أدبي تربوي قبمي

فن التعبير الشفهي "المحادثة" باللّغة العربية ودوره في المناشط اللغوية التي يحتاج إليها الإنسان العربي في حياتهالأستاذ الدكتور عبد السلام المسدّيأستاذ اللغويات- جامعة تونساللغة العربية- كما ازدهرت وكما وصلتنا مع فجر نهضتنا ماضياً- قضية فكرية غزيرة الموارد. واللّغة العربية هي الآن وكما تتعاطى أمرَها مؤسسات المجتمع مسألة تربوية خلافية. أمّا اللّغة العربية من منظور استشراف مستقبلها واستقراء ما قد تؤول إليه فقضية حضارية كبرى ترتدّ إلى إشكال سياسي بالغ الخطورة والتعقيد، وبها يرتبط الجوهر الثقافي الذي يتأسس عليه معمار الهوية في بعديه التاريخ الماضي والمصيري القادم.
إن كثيراً من حقائق العلم وحقائق التاريخ إذا اجتمعت وتوالجت أفضت إلى خلاصات مركزة، بل إنها – في بعض المجالات- تتجلى في بساطة متناهية تكاد تتحدانا ببداهتها لفرط ما تناسيناها. فاللّغة العربية لو أنصفها التاريخ وأهلها لكان من المفروض ألا تنتقل من المستوى الأدائي وهو المنطوق المسموع إلى المستوى الخطي وهو المكتوب المقروء إلا وهي مستوفية لحروفها. فتدوين اللّغة العربية خطيًّا- سواء بشكل يدوي أو بشكل تقني- وهي عارية من حركاتها بدعة لا تعرفها اللّغات الإنسانية قاطبة، والذي انجر عن هذا الوضع الشاذ من قول بعضهم:"الناس يقرؤون لغاتهم ليفهموا ما قرؤوا، والعرب يفهمون المكتوب كي يتوصلوا إلى قراءته" إنما يجسم منتهى الغرابة لأن هذه القولة قد قيلت في أول أمرها على البراءة ثم أصبحت قولة ظالمة لأن فيها غمزاً على اللّغة العربية في أنها هي الحاملة لداء الشذوذ.
وبنفس الاستقراء الافتراضي سنقول إن اللّغة العربية- لو أنصفها التاريخ وأهلها- لكان من المفروض أن تكون هي أداة التداول في كل ما يتصل بمجالات الفكر والثقافة والمعارف، وبكل حقل التيسير والتوجيه، وكذلك بكل دوائر الإبداع والفنون، أي كان من المظنون أن تكون هي اللّسان التداولي في كل خطاب حي يتعلق بما يسمى في الأعراف الإنسانية بعالم الرموز والمجردات، وعندئذ يكون من الطبيعي أن يتخاطب الناس بلهجاتهم العامية فيما اتصل بالحياة المعيشية وبالصلات الاجتماعية المتحققة على مدار الزمن الطبيعي، وهو ما يصطلح عليه بعوالم الماديات وما جاورها.
من وراء هذه المداخل الافتراضية نروم الإحاطة بالدوائر التي تمثل أسيجة متناضدة تحاصر مسألة التداول الأدائي للغة العربية الفصحى في زماننا هذا. بل إننا نصادر على أن فن المشافهة كما تقتضيه فصاحة اللّغة العربية وكما يغيب في معظم أحوال التداول اللّغوي في الواقع العربي إن هو إلا إشكال جوهري يقع على سنم هرم من الإشكالات الحيوية التي علينا أن نفحصها مليًّا لنتبين حقيقة هذا الفن الغائب. أما مدارات هذا الهرم الإشكالي فهي أربعة محاور: وجه ثقافي ووجه تربوي ووجه لغوي ووجه سياسي، ولئن جاءت متباينة حيناً فهي في الأحيان الكثيرة متوالجة متداخلة.
إن وضع اللغة العربية في هذه المرحلة التاريخية وضعٌ حرجٌ جداً، فهناك حملة واسعة تصاحبُ حملة الكونية الثقافية تتقصّد النيلَ من كل الثقافات الإنسانية ذات الجذور الحضارية المتأصلة وفي مقدمتها الثقافة العربية، وتتوسل هذه الحملات العدائية دائماً بالعامل اللّغوي، وكثيراً ما تتعلل بأن العربية الفصحى لغة مفارقة للواقع لحي المعيش، فتحاول أن تبث الوهم بأن لغة الواقع هي التي يجب أن تصبح اللّغة الرسميّة، وهذا معناه تحويلها إلى لغة تربويّة ثم إلى لغة إبداعية حتى ويكتب بها الفكر، ومن هنا تتسلل المعاول الناسفة، أما المرمى البعيد المنشود فهو أن تلقى العربية نفسَ المصير الذي صادفته اللّغة اللاتينية بأن تنحل إلى لهجات تتطور إلى لغات قائمة الذات.
مثل هذه الدعوى لا تجد لها رواجاً في أقطارنا العربية بشكل رسمي، ولكن السلوك الموضوعي كثيراً ما يمهد لها السبيل ولا سيما إذا انتبهنا إلى طغيان العاميات على أجهزة الإعلام المرئي والمسموع، فنصيب العربية الفصحى ما انفك يتقلص، ونزعة الاستسهال بحكم قانون المجهود الأدنى ما فتئت تزرع الوهم بأن العربية لا تتلاءم مع برامج الحياة اليومية.
إن الترصد المنظّم للغة العربية ليَتّخذ شكل الحرب الصامتة الناسفة: تتكشف حينا وتتقنّع أحياناً أخرى، وتقنّعُها أخطر من تكشّفها لأنه يستنجد بسلاح المسكوت عنه، وهو أوقع في النفوس وأقدر على تملك الأغرار. ولهذا الترصد أسبابه الموضوعية: فهناك اليوم قلق حقيقي يساور كبار المهندسين الذين يخططون الاستراتيجية الكونية، وقد يصل ذلك القلق ببعضهم إلى درجة الخوف، وببعضهم الآخر إلى درجة الفزع، أما موضوع الأمر فهو احتمال تزايد الوزن الحضاري للغة العربية في المستقبل المنظور فضلاً عن المستقبل البعيد. إن هؤلاء المخططين الاستراتيجيين يقرؤون للحقيقة الموضوعية حسابها، فاللسان العربي هو اللّغة القوميّة لحوالي 300 مليون، وهو يمثل إلى جانب ذلك مرجعية اعتبارية لأكثر من 850 مليونَ مسلم غير عربيّ كلهم يتوقون إلى اكتساب اللّغة العربية، فإن لم يتقنوها لأنها ليست لغتهم القومية فإنهم في أضعف الإيمان يناصرونها ويحتمون بأنموذجها.
ثم إن اللسان العربي حاملُ تراث، وناقل معرفة، وشاهدٌ حيّ على الجذور التي استلهم منها الغرب نهضته الحديثة في كل العلوم النظرية والطبية والفلسفية، وهو بهذا الاعتبار يخيفهم أكثر مما يخفيهم اللسان الصيني أو الهندي. ولا يغفل هؤلاء المهندسون الثقافيون الساهرون على برمجة الذهن الجماعي في عصر الأممية والكونية عن الرسالة الحضارية والروحية التي حملت بها اللغة العربية، وهم العارفون بأن التماهي بين الهوية واللغة لم يبلغ تمامه الأقصى في الثقافات الإنسانية كما بلغه عند العرب بكل اطراد تاريخي وبكل تواتر فكري واجتماعي ونفسي.
ولكن اللغة العربية تخيف أيضاً بشيء آخر هو ألصق بالحقيقة العلمية القاطعة وأعلق بمعطيات المعرفة اللسانية الحديثة، فلأوّل مرة في تاريخ البشرية- على ما نعلمه من التاريخ الموثوق به- يُكتب للسان طبيعي أن يُعمّر حوالي سبعة عشر قرناً محتفظاً بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية فيطوّعها جميعاً ليواكب التطور الحتمي في الدلالات دون أن يتزعزع النظام الثلاثي من داخله، بينما يشهد العلم في اللّسانيات التاريخية والمقارنة أن أربعة قرون كانت فيما مضى هي الحد الأقصى الذي يبدأ بعده التغيّر التدريجي لمكوّنات المنظومة اللغوية، وهذا حاصل قطعاً بصرف النظر عن انتماء اللغة إلى اللغات الحضارية التي صنَعت ثقافة إنسانية، أو بقائها في صنف الألسنة الطبيعية الفطرية كلغات شعوب كثيرة عاشت في المناطق الاستوائية وفي المناطق القطبيّة بين جل قارات المعمورة.
إن اللّغة العربية تلقي بتاريخها تحدّياً كبيراً أمام العلم الإنساني، وهذا التحدي يبتهج به العلماء الذين أخلصوا إلى العلم مهجتهم، ولكنه يَغيظ سَدَنة التوظيف الأممي ويستفز دعاة الثقافة الكونية، لا سيما منذ بدأت المعرفة اللغوية المتقدمة على المستوى العالمي تكتشف ما في التراث العربي من مخزون هائل يتصل بآليات الوصف اللغوي، ويقف على الحقائق النحوية العجيبة، ويستلهم مكوّنات المنظومة الصورية الراقية التي انتهى إليها النحو العربي من حيث هو إعراب، ومن حيث هو منطق قياسي، ومن حيث هو كذلك علم بأصول الظاهرة اللغوية الكلية.
ليس لعالم اللغة أن يستنقص من شأن أي لسان بشري ولكن ليس من حقه أن يسكت عن توظيف العلم لغير مرامي العلم، وقد تهون المرامي لو كانت اقتصادية، أو تمجيدية، أو تفاخرية، أما أن تكون سياسية موسومة بطابع الذرائعية والميكافيليّة فإن الصمت معها يغدو إثماً فكرياً في حق المعرفة.
وهل يليق بالباحث المتجرد النزيه الذي أخلص للمعرفة مهجته أن يسكت عن مناورات استخدام البحث العلمي والمكائد المنصوبة من وراء التمويلات المشبوهة الداعمة له. ومَن من العارفين لا يعلم في أيامنا هذه كيف يسهل الحصول على الدعم المالي السخي من لدن الجهات الغربية العديدة- ومن بينها مجلس الاتحاد الأوروبي، وصناديق الأحقيّة الشاملة فيه، والأموال المرصودة ضمن برامج التأهيل الاقتصادي- وذلك بمجرّد أن تَعرض مشروعاً للبحث العلمي، الفردي أو الجماعي، أو بمجرّد أن تعرض فكرةَ إقامة ندوة أو ملتقى، على أن يكون ما تعرضه متصلاً بدراسة لهجة من اللّهجات العربية، أو يكون متعلقاً بمدى تأثير استخدام اللهجة العامية في التوازن النفسي. وتتهاطل عليك التشجيعات لو اقترحتَ أن يكون موضوع البحث أثرَ أيّ لغة من اللغات في اللّغة العربية كاللغة التركية أو البربرية أو الفرنسية أو الإنجليزية. ولن تظفر بدانق واحد لو اعتزمتَ دراسة أثر اللّغة العربية في قاموس اللّغة الإسبانية أو قلت إني أعتزم البحث في الألفاظ المتداولة في اللّغات الأجنبية والتي هي ذات أصول عربية.


ستحصل على أموال سخية إذا قلت إني في حاجة إلى تحسين مستوى الموظفين –في أي مؤسّسة من القطاع العام أو الخاص- وذلك في مدى حذقهم للغة الأجنبية، وسترى أعوان البعثات الأمريكية والبريطانية في المغرب العربي يتسابقون إليك إن أعلنت عزمك على الارتقاء بمستوى اللّغة الإنجليزية. ولن يصغي إليك أحد ولن يأتيك درهم لو عرضت مشروعات تعاونية تهدف إلى تطوير مستوى العاملين والموظفين في مدى حذقهم للغة العربية بوصفها أداة التفكير وأداة التواصل وأداة التسيير الجماعي. والحال أن الأداء اللغوي القومي هو مفتاح المفاتيح في كل تأهيل استثماري وفي كل أحقية اقتصادية بل وفي كل امتلاك لمهارات اللغات الأجنبية.
في فرنسا الآن –ومنذ عام 1996- تنظيم تربوي فيه من الغرابة ما لا يترك شكّا في النوايا الحضارية المتوارية، وهذا تنظيم يخص تراتيب الباكالوريا التي هي شهادة الثانوية العامة. فمن بين المواد التي يتعين على كل مترشح أن يجتازها امتحانٌ في إحدى اللغات، وكانت اللغة العربية من بين اللّغات التي يمكن اختيارها كالإنجليزية والألمانية وغيرهما، وكثيراً ما كان أبناء الجالية العربية الذين تابعوا دراستهم على النظام الفرنسي يختارون اللغة العربية لاجتياز اختباراتها ضمن مواد الباكالوريا، وإذا بالتشريع الإداري الجديد قد أدخل اللهجات العربية ضمن اللغات التي يمكن اختيارها، بل أصبح أبناء الجالية العربية يجتازون بالتوازي اختباراً في اللغة الفصحى واختباراً في اللهجة بحسب ثلاث مجموعات إقليمية: المجموعة المغاربية والمجموعة المصرية والمجموعة الشامية. هكذا تسمّى النصوصُ الترتيبيّة دوائر الاختيار.
ولكن الإمعان في التسللّ الثقافي لم يقف عند هذا الحدّ: فاختبارات اللّغة العربية الفصحى هي اختبارات شفويّة، والاختبارات في اللّهجة هي اختبارات كتابية، وهذا منتهى المكر الحضاري لأنه إصرار على إعطاء اللهجات "دستورا" نظامياً وإحلالها في النفوس محل الكيان الثقافي الكامل والمستقل. وتدفقت منذئذ المغريات وتهاطلت أموال الدعم حتى يتجند أهل الخبرة في ترتيب الأدوات التربوية المساعدة، وفي تصنيف الكتب المدرسية المُعينة على اجتياز اختبارات اللّهجات العربية... وما زال مسلسل فصم أبناء الجالية العربية عن مراضعهم الثقافية والحضاريّة متواصلاً.
إن الخبراء العالميين هم أدرى الناس بأن الأداء اللغوي للفرد لا يمكن أن يرتقي ذهنيّاً بأي لغة أجنبيّة ما لم ينطلق من امتلاك تام للمهارة الأدائية بواسطة طريق اللغة القومية أي بواسطة اللغة التي يرتبط بها الاكتساب الأمومي وما يرافقه من شحن بالقيم الوجدانية والعاطفية والروحانية وحتى الأسطورية الميتولوجية أحياناً. وهذا مما يندرج ضمن الحقائق المعرفية على الإطلاق لا على وجه التقييد، وهو في مكاسب علم اللسانيات من صنف الحقائق اليقينيّة القاطعة لأنه في منزلة الكليّات التي تَصْدق على كل فرد آدمي، وفي كل عصر من العصور، ومع كل ثقافة من الثقافات، وانطلاقاً من أي لسان بين الألسنة البشرية الطبيعية.
إن الصراع مكوّن أساسيّ في تاريخ البشر، وإن الحروب عامل جوهري من عوامل الأحداث المحددة لتواريخ الأمم والشعوب، ومن الفلاسفة فريق ذهبوا إلى القول بأن تاريخ الأمم هو تاريخ حروبها. ولكن الذي كثيراً ما يخفى على الإنسان هو أن الحروب اللغوية بين المجموعات البشرية ليست أقل ضراوة من الحروب العسكرية المكشوفة، وأن الصراعات اللغوية بين معاقل الثقافات قد تحتدم فتشعل فتائل حرب تجارية واقتصادية وعسكرية لأن اللّغة من خلال الثقافة والثقافة من خلال اللّغة هو الأمر الوحيد الذي به يتحقق الانتصار أو الانهزام فيركن في الزمن ويدوم في التاريخ حتى يستمر فإذا ثبتت وحالفته ظروف البقاء كان في نتائجه أقوى من أي انتصار عسكري إن كان انتصاراً، وأفظع من أي انهزام ميداني إذ لو أراد الإنسان أن يعيد كتابة تاريخ البشرية من خلال صراعاتها اللغوية لتمكّن من إنجاز قفزة نوعية في معايير التفسير، ولاستطاع تحقيق ثورة عميقة في مقاييس التأويل، ولعله قادر أن يرسي مرجعيات جديدة في استشراف حركة التاريخ على المنظور المستقبلي: قريب المدى منه، ومتوسطه، وبعيده. وهل نحتاج إلى استدلال مستفيض نبرهن به على مقاصد الثقافة الكونية حيال اللّغة العربية وما يبيّت لها عند فرسان التخطيط الاستراتيجي للأممية الزاحفة وللعولمة الضاغطة والحال أن تنافس العظماء الدوليين على كسب مراكز النفوذ وصراع الكبار على الإمساك بزمامات الكونية إنما يرتديان الثوب اللغوي في كل جولة من جولاتهما.
amer123123

اللهم احفظ المسلمين من شر وسوء المنافقين والخونة والعملاء والكافرين يارب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 277 مشاهدة
نشرت فى 1 مايو 2016 بواسطة amer123123

ساحة النقاش

عبد الفتاح أمير عباس أبوذيد

amer123123
موقع لغوي تربوي وأدبي وقيمي الرؤية والرسالة والأهداف: رؤيتنا: الرؤية : الارتقاء بالمنظومة التعليمية والتربوية بما يؤسس لجيل مبدع منتمٍ لوطنه معتزاً بلغته فخوراً بدينه رسالتنا: السعي لتقديم خدمات تربوية وتعليمية ذات جودة عالية بتوظيف التقنية الحديثة ضمن بيئة جاذبة ومحفزة ودافعة للإبداع الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها · إعداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

14,679,320