موقع الأستاذ عبد الفتاح أمير عباس أبو زيد

موقع لغوي أدبي تربوي قبمي

4- الإخلاص:

من لَوازِم الأمانة الإخلاص في العمل وعدم التهاوُن به؛ لأنَّه لا يمكن القِيام بالعمل على أكمل وجهٍ وأحسنه إلاَّ إذا تحقَّق فيه الإخلاص من العامل نفسه؛ فالإخلاص هو الباعث الذي يحفِّز العامل على إتقان العمل، ويدفعه إلى إجادَتِه، ويُعِينه على تحمُّل المتاعب فيه، وبذْل كثيرٍ من الجهد في إنجازه، وتوافر هذا الخلق الكريم في العامل من العوامل الرئيسة التي تَحُول دون وقوع الخلل والانحِراف عن الطريق الصحيح في أداء العمل، فهو بمثابة صمام الأمان ضدَّ الفساد بكلِّ صوره وأشكاله.

 

ومن معاني الإخلاص وصوره المتعدِّدة وجودُ الرقابة الذاتيَّة في العامل، ومبعث هذه الرقابة إحساسُ العامل واستِشعاره بأنَّ الله - تعالى - يرى سلوكه وكلَّ تصرُّفاته في أداء عمله، وأنَّه سائله عنها ومُجازِيه عليها يوم القيامة؛ يقول - تعالى -: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13 - 14]، ويقول: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7 - 8]، ويقول كذلك: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا ﴾ [الأحزاب: 52].

 

إنَّ صلاح النيَّة وإخلاصَها لله - تعالى - يرتفع بمنزلة العمل الدنيوي البحت فيجعله عملاً صالحًا مُتَقبَّلاً له الأجر العظيم عند الله - عزَّ وجلَّ - يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من مسلمٍ يغرسُ غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكُل منه طيرٌ أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة))[51].

 

فعلى العامل في مجال عمله أنْ يجعل كلَّ ما يكتبه وما يحسبه وما يكدُّ فيه عقله ويتعب فيه يده - عملاً صالحًا يقصد به مصلحة البلاد والعباد، ورضا رب العباد؛ ليكون من عباد الله المخلصين الذين أثنى الله - تعالى - عليهم في محكم كتابه الكريم، وينبغي عليه ألاَّ يجعل إخلاصَه في عمله وجده فيه على قدر ما يَتقاضاه من مرتَّب شهري، أو حوافز ماديَّة ومعنويَّة.

 

5- الالتزام بأنظمة العمل:

ومن الأخلاق الإسلاميَّة الفاضلة التي يجب على العامل الحرصُ عليها والتحلِّي بها الالتزامُ بأنظمة العمل ولوائحه وقوانينه المحدَّدة، فذلك مقوم من مقومات العمل، وعاملٌ رئيسٌ من عوامل النجاح فيه؛ ولذا كلَّما تَمَّ الالتِزام بهذه الأنظمة والقوانين انعَكَس أثرُ ذلك على الإنتاج في العمل وزيادته واستمراريَّته لصالح الفرد والجماعة.

 

ويدخُل ضمن الالتِزام بأنظِمة العمل أمورٌ كثيرة، منها:

أ- الالتِزام بأَوقات العمل والمحافظة عليها، فذلك من أهمِّ واجبات العمل التي تنصُّ عليها الأنظِمة والقوانين؛ فيجب احترام مواعيد العمل الرسميَّة والتقيُّد بها في الحضور والانصِراف، وعدم التغيُّب عن العمل إلا لضرورة أو لظرف قاهر، وعدم الانشغال في أثناء وقت العمل بأمورٍ ومصالِحَ شخصيَّةٍ لا علاقة لها بالعمل.

 

إنَّ عدم الالتِزام بأوقات العمل والمحافظة عليها يُعَدُّ إخلالاً بأنظمة العمل ولوائحه، ونقضًا لمقتضيات عقد العمل الذي تَمَّ الاتِّفاق عليه بين أطراف العمل، والله - تعالى - يدعو عباده المؤمنين إلى الوفاء بعقودهم وشروطهم، حيث يقول - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1].

 

ب- طاعة المسؤولين، فطاعة العامل التامَّة لرئيسِه المباشِر في أيِّ مجالٍ من مجالات العمل فيما يخدم العمل ويطوِّره ويَزِيد الإنتاج ويحسنه خلقٌ كريم ينبغي التحلِّي به؛ يقول - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59]، إلا أنَّه يُشتَرط في هذه الطاعة أنْ تكون بالمعروف، بحيث لا يَتجاوَب العامل أو الموظَّف مع رئيسه إلا بما يُرضِي الله - سبحانه وتعالى - ولا يُسخِطه؛ لأنَّه كما قال الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الله - عزَّ وجلَّ))[52].

 

ج- التعاون في الأداء، فالتعاون بين عموم المسلمين على البر والتقوى خلقٌ رفيع دعا إليه الإسلام ورَغَّب فيه؛ حيث يقول - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[53].

 

ومن صُوَرِ التعاون الذي حَثَّ عليه الإسلام: تعاونُ العاملين فيما بينهم في أداء العمل فيما يُحَقِّق النفع والخير للعامِلين، ويُفعِّل أنظمةَ العمل وقوانينه، ويحقِّق الفائدة والتطوير لهذا العمل.

 

6- الالتزام بأداء الواجبات الشرعية:

ومن الأخلاق الفاضلة والصِّفات الحميدة في العامل التزامُه بأداء الواجبات الشرعيَّة، وقيامُه بالعبادات المفروضة التي أوجب الله على عباده المؤمنين القيامَ بها، وعلى رأسها أداءُ الصلوات المفروضة جماعةً، وصيام شهر رمضان؛ ويقول - تعالى -: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [إبراهيم: 31]، ويقول أيضًا: ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ﴾ [الحج: 78]، ويقول كذلك: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

 

ويستلزم أداء هذه الواجبات الشرعيَّة اجتِناب جميع المحرَّمات والمعاصي المُوجِبة لغضب الله - سبحانه - وسخطه وعقابه.

 

والالتزام بهذا المبدأ الخلقي يَعُود بالكثير من الآثار الإيجابيَّة النافعة على العامل في أداء عمله، من حيث تحقيق رضا الله - سبحانه - ونيل تسديده وتوفيقه[54]، وتحقيق البركة في العمل والرزق، وتحقيق الطمأنينة والسكون، والاستِقرار النفسي والصفاء الذهني لدى العامل، وترسيخ كثيرٍ من القِيَم الخلقيَّة المطلوبة في أداء العمل؛ كالأمانة والإخلاص وإتقان العمل، وإيجاد روح المحبَّة والتآلف بين العاملين في مقرِّ العمل.

 

7- حسن التعامُل مع المراجعين:

ينبغي على العامل أن يُحسِن التعامُل مع المُراجِعين له لإنجاز معاملاتهم التي بين يديه، وذلك باتِّباع ما يلي:

أ- احترامهم واللُّطف معهم والرِّفق بهم، فهذه من الخِصال الحميدة التي حَثَّ عليها الإسلام ضمن طائفةٍ من الأحاديث النبويَّة الصحيحة، منها قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((الراحمون يرحمهم الله - تعالى - ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء))[55]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن لا يرحَم الناس لا يرحمه الله))[56]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما تَواضَع أحدٌ لله إلا رفَعَه))[57]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله يُحبُّ الرِّفق في الأمر كله))[58]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا: ((إنَّ الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانَه))[59]، وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كذلك: ((اللهم مَن ولي من أمر أمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقق عليه، ومَن ولي من أمر أمَّتي شيئًا فرفق بهم فارفق به))[60].

 

إنَّ القسوة والجفاء والغلظة طبعٌ سيِّئ يُنكِره الإسلام وينهى عنه؛ لأنَّه جَفافٌ في النفس لا يرتبط بمنطق ولا عدالة، وأمَّا الرفق والرحمة فهما من دلائل الإيمان والتقوى؛ ولذا يقول - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ [الأعراف: 156 - 157]، ويقول أيضًا مُمتَدِحًا عبادَه المؤمنين تمسُّكهم بهذا الخلق الكريم: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]، و﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].

 

كما أنَّ الرحمة صفةٌ من صفات الفعل لله - تعالى - وقد جعَل منها جزءًا يَتراحَم الخلق بها فيما بينهم[61]، يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((جعَل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسَك عنده تسعةً وتسعين جزءًا وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يَتراحَم الخلق حتى تَرفَع الفرس حافرها عن ولدها خشيةَ أن تُصِيبه))[62].

 

ب- البَشاشَة وطَلاقة الوجه عند لِقائِهم وطيب الكلام معهم، فهذا الخلق الكريم مصدرٌ عظيم للنجاح في العمل، وسببٌ في تكوين مجتمع راقٍ متحابٍّ مُتكافِل؛ ولذا عُنِي به المربُّون المُصلِحون، ودعا إليه القرآن الكريم في قوله - تعالى -: ﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الإسراء: 53]، وفي قوله أيضًا: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، وفي قوله كذلك: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88].

 

كما دَعَتْ إليه السنَّة النبويَّة في قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أنْ تلقى أخاك بوجهٍ طلق))[63]، وفي قوله: ((اتَّقوا النار ولو بشقِّ تمرة، فمَن لم يجد فبكلمةٍ طيِّبة))[64]، وفي قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا: ((الكلمة الطيِّبة صدقة))[65].

 

ج- الإحسان إليهم، وذلك بتقديم المشورة والنُّصح لهم في كلِّ أمرٍ يَخُصُّ مُعامَلاتهم، واختِيار أفضل الخِيارات المُتاحَة لهم، وسرعة إنجاز أمورهم ومعاملاتهم، والمبادرة إلى تقديم كلِّ خدمة مُمكِنة لهم؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَبِ الدنيا نفَّس الله عنه كُربة من كُرَبِ يوم القيامة))[66].

 

د- احتِمال الأذى، والعفو والصَّفح عمَّن أخطأ منهم، فالعامل يمرُّ عليه - غالبًا - فئاتٌ شتَّى من المراجعين، منهم المتعلِّم والجاهل، ومنهم الكبير الناضج والصغير الطائش، ومنهم الكريم واللئيم، فعليه أنْ يُوَطِّن نفسه على احتِمال الأذى منهم في أدائه عملَه، والحلم عليهم، والعفو والصَّفح عمَّن قد يصدر منه شيءٌ من الطيش والسَّفَه أو السلوك الخاطئ؛ وذلك امتثالاً لأمر الله - عزَّ وجلَّ - بهذا، واحتِسابًا للأجر العظيم عنده - سبحانه - يوم القيامة.

 

يقول - تعالى - في الحثِّ على هذا الخلق الكريم: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، ويقول: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85]، ويقول أيضًا: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]، ويقول كذلك: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]، ويُخبِر - سبحانه - عن محبَّته لأصحاب هذا الخلق ويَعُدهم من المُحسِنين؛ حيث يقول في معرض المدح لهم: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].

 

ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مبيِّنًا الأجرَ العظيم الذي ينتظر أهل العفو والصفح يوم القيامة: ((مَن كظَم غيظًا وهو يستطيع أنْ ينفذه دَعاه الله على رؤوس الخلائق يومَ القيامة حتى يخيِّره في أيِّ الحُورِ شاء))[67]، وعن عبادة بن الصامت - رضِي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ألا أُنبِّئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات؟))، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: ((تحلم على مَن جهل عليك، وتعفو عمَّن ظلمك، وتُعطِي مَن حرمك، وتصل مَن قطعك))[68].

 

وعن عقبة بن عامرٍ - رضِي الله عنه - أنَّه قال: لقيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخذتُ بيده وقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال، فقال: ((يا عقبة، صِلْ مَن قطعك، وأَعْطِ مَن حرمك، وأَعرِض عمَّن ظلمك))، وفي رواية: ((واعفُ عمَّن ظلمك))[69].

 

المبحث الثالث: الأخلاق في رب العمل:

وكما جاء الإسلام بالكثير من القِيَم الخلقيَّة التي ينبَغِي على العامل أن يلتَزِم بها، جاء أيضًا في المقابل بقِيَم خلقيَّة أخرى ينبغي على ربِّ العمل الالتزام بها، والحرص عليها في علاقته بالعامل وكفالة حقوقه المشروعة، سواء أكان ربُّ العمل هذا فردًا، أم مؤسسة خاصَّة، أم قطاعًا حكوميًّا، أم غير ذلك، ولعلَّ من أبرز هذه القِيَم ما يلي:

1- دفع أجرة العامل:

الأجر والأجرة في اللغة: الجزاء على العمل[70].

 

وهي في الاصطلاح: "العِوَض الذي يدفعه المستأجِر للمؤجر في مُقابِل المنفعة التي يأخذها منه"[71].

 

والأجرة هي أحد أركان عقد العمل، والعِوَض الذي يستحقُّه العامل مقابل ما يبذله من جهدٍ ووقتٍ لأداء العمل.

 

ومن أهمِّ الحقوق التي ينتَظِرها العامل من ربِّ العمل بعد أدائه ما كلف به هو إعطاؤه حقَّه من الأجرة دون بخسٍ ولا منَّة.

 

وقد أمَر الإسلام بإعطاء الأجير أجرَه فوْر انتهائه من أداء عمله؛ حيث يقول - عزَّ وجلَّ - بشأن المراضع: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ [الطلاق: 6]، ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعطوا الأجير أجرَه قبل أنْ يجفَّ عرقه))[72].

 

وتوعَّد - عزَّ وجلَّ - مَن مَنَع أجرة العامل أو أنكرها بالمخاصَمة يوم القيامة؛ حيث يقول - سبحانه - في الحديث القدسي: "ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أُعطِي بي ثم غدَر، ورجل باع حُرًّا فأكل ثمنَه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يُعطِه أجره"[73].

 

ومتى ما أدَّى العامل عمَلَه فقد أصبح أجرُه دينًا لدى ربِّ العمل، وأمانة في عنقه يجب عليه الوفاء بها كاملةً دون تأخيرٍ أو مُماطَلة، فهو مُؤتَمَنٌ عليها، سواءً كانت هذه الأجرة يوميَّة أم أسبوعيَّة أم شهريَّة، أم مبلغًا مقطوعًا، تم الاتِّفاق على دفعه بعد إنجاز العمل المطلوب؛ يقول - عز وجل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]، كما أنَّ إعطاء العامل أجرته بعد استِيفاء المنفعة منه يَدخُل ضمن الوفاء بعقد العمل المتَّفَق عليه بين الطرفين، وقد تقدَّم الأمر بالوَفاء بالعقود في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1].

 

2- العدل والإحسان:

العدل مبدأٌ من المبادئ الأساسيَّة في الإسلام، بل هو سِمَةُ الإسلام، وميزان الاجتماع الإنساني، وعليه يقوم بناء الجماعة، وكلُّ عمل لا يقوم على العدل لا بُدَّ أنْ يضطرب ويختلَّ مهما كانت قوَّة التنظيم فيه.

 

إنَّ إقامة العدل بين الناس هو الغاية من إرسال الله الرسلَ وإنزاله الكتب، يقول - تعالى -: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ [الحديد: 25].

 

وممَّا يدلُّ على أهميَّة العدل ووجوبه أنَّ الله - سبحانه - نزَّه نفسه عن الظلم فقال: ﴿ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق: 29]، بل إنَّه - سبحانه - حرَّمَه على نفسه وعلى عباده، فقال في الحديث القدسي: "يا عبادي، إنِّي حرَّمت الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تَظالَمُوا"[74].

 

وجاء الأمر بالعدل في آياتٍ كثيرة في كتاب الله؛ منها: قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النحل: 90]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ﴾ [النساء: 135]، وقوله: ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].

 

ووعَد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المُقسِط العادل بالجزاء الحسن يوم القيامة؛ حيث قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المُقسِطين عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن - عزَّ وجلَّ - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا))[75].

 

والعدل في الإسلام: وضعُ الشيء موضعَه، وأن يَنال كلُّ إنسان ثمار عمله ويتحمَّل تبعة فعله.

 

وللعدل والإحسان هنا من قِبَل رب العمل صور كثيرة؛ منها:

1- المساواة بين العمال في حسن التعامل وفي بذْل الحقوق، دون تمييزٍ بينهم في ذلك من غير مُبرِّر شرعي منطقي، فإنَّ العدل يقتَضِي المساواة بين المتماثِلَيْن، إلاَّ أنَّه ينبغي أنْ يقول للمحسن منهم: أحسنت، ويُكافِئه على هذا الإحسان، ويقول للمُسِيء: أسأت، ويُعاقِبه على هذه الإساءة إذا كانت مقصودة متعمَّدة، وألاَّ يساوي بين المُحسِن والمُسِيء في الحوافز والعلاوات والترقيات ونحوها، بل يُعطِي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.

 

2- المساواة بين العمَّال في التكليف بالأعمال، من حيث حجمها وطاقة الإنتاج فيها، مع مراعاة الفروق الفردية بينهم والتفاوت في الطاقات والإمكانات والقدرات المهاريَّة.

 

3- تولي النظر في مظالم العمَّال، وتفقُّد أحوالهم، وإنصاف المظلوم من الظالم منهم، وتخليص إدارة العمل من مرض المحسوبيَّة والفساد الإداري، ودفعها نحو النزاهة والاستقامة.

 

4- التناسب بين حجم العمل المطلوب وأجرته، لقوله - تعالى -: ﴿ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ [الأعراف: 85]؛ أي: "لا تنقصوهم أموالهم"[76]، ولتحذيره - سبحانه - من سوء عاقبة بخس الناس أشياءهم، حيث يقول: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 1 - 6].

 

وكما يكون التطفيف في الكيل والميزان يكون من أمور أخرى غيرها تشمل بخس العامل حقَّه من الأجرة، فالمطفِّف - كما يقول الطبري - المقلِّل حقَّ صاحِب الحق عمَّا له من الوفاء والتمام، وأصل ذلك من الشيء الطفيف، وهو النَّزر القليل[77].

 

5- عدم تكليف العامل من الأعمال بأكثر من المتفق عليه في عقد العمل.

 

6- الالتزام بالموضوعية في تقييم أداء العامل.

 

7- منحه حقَّه من الإجازات الاعتياديَّة والاضطراريَّة.

 

8- منحه فترة زمنية مُناسِبة لأداء الواجبات الشرعيَّة في مقرِّ العمل.

 

ولالتزام ربِّ العمل بخلق العدل والإحسان آثارٌ إيجابيَّة حسنة على العمل وأطرافه؛ حيث يُقوِّي ذلك مشاعر العامل نحو المؤسَّسة التي يعمل فيها، وينمي روح انتِمائه إليها، وسيدفعه بالتالي إلى بذل أقصى جهده لرفع مستوى الأداء والإنتاج.

 

3- التواضع:

التواضع فضيلة خلقيَّة محمودة مطلوبة، ورَد الحثُّ عليها والنهي عن ضدِّها في كثيرٍ من النصوص الشرعيَّة؛ يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]، ويقول أيضًا: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ﴾ [الإسراء: 37].

 

يقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: "يقول - تعالى -: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾ [الإسراء: 37]؛ أي: كبرًا وتِيهًا وبَطَرًا، متكبِّرًا على الحق، ومتعاظمًا في تكبُّرك على الخلق، ﴿إنك ﴾ في فعلك ذلك ﴿ لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً ﴾، بل تكون حقيرًا عند الله ومُحتَقَرًا عند الخلق، مبغوضًا ممقوتًا، قد اكتَسَبت شرَّ الأخلاق، واكتسبت بأرذلها، من غير إدراكٍ لبعض ما تَرُوم[78].

 

ويقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما تَواضَع أحدٌ لله إلا رفَعَه))[79]، ويقول عبدالله ابن مسعود - رضِي الله عنه - تبعًا لذلك: "مَن تواضَع لله تخشُّعًا رفَعَه الله يوم القيامة"[80].

 

ويتأكَّد الالتِزام بخلق التواضُع بصفةٍ خاصَّة في تعامُل ربِّ العمل مع مرؤوسيه من عمَّال وأُجَراء، ويدخل في ذلك: مجالستهم، والتبسُّط في الحديث معهم، ومشاركتهم همومهم الوظيفيَّة، وتفقُّد متطلَّباتهم وحاجاتهم وتفهُّمها، والسعي إلى توفير سُبُل الراحة لهم، وعدم الاحتِجاب عنهم؛ يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ولاَّه الله - عز وجل - شيئًا من أمر المسلمين فاحتَجَب دون حاجتهم وخلَّتهم وفقرهم، احتَجَب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره))[81].

 

إنَّ التعالي والغرور والكبر من قِبَل المديرين وأرباب الأعمال مرضٌ سلوكي نفسي قبل أن يكون مرضًا وظيفيًّا، يجعلهم لا يرَوْن خلل أنفسهم، ناهيك عن السعي إلى سدِّ عيبها وتقويم اعوجاجها، كما أنَّه يؤدِّي - غالبًا - إلى تفشِّي الكراهية والحقد بينهم وبين العمال، ويَحُول دون التواصل الفعال معهم.

 

4- احترام العامل وتقدير كرامته الإنسانية:

لقد كفَل الإسلام لكلِّ إنسان كرامته الإنسانية؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، وأقرَّ مبدأ الأخوَّة بين المؤمنين؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وجعَل المعيار الوحيد للتفاضُل بينهم هو مستوى التقوى والتديُّن، فلا يكرم أحد منهم ولا يفضل على غيره إلا بالتقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا فضلَ لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر - إلاَّ بالتقوى))[82].

 

والعامل مهما كان مستواه التعليمي أو المهني أو الاقتصادي أو الاجتماعي له شأن مهم وأثر بالغ في حياة المجتمع الذي يَعِيش فيه؛ فعلى كاهله يقوم النشاط اليومي، فهو عضو فعَّال في المجتمع أيًّا كان النشاط الذي يُزاوِله، أو المجال الذي يعمل فيه، كما أنَّه ورب العمل كلٌّ منهما يُتِمُّ رسالة الآخر، فهو يحتاج إلى تأمين مصدرٍ للعيش والرزق بالأجر الذي يتقاضاه، ورب العمل يحتاج إلى إنجاز العمل وإتقانه، وكلاهما يحقِّق تطلُّعات المجتمع في الإنتاج والرُّقِيِّ، وغاية الأمَّة في الرخاء والأمن بكافَّة مجالاته المتعدِّدة.

 

ولذا فمن أبرز الأخلاق التي ينبَغِي على رب العمل الحرصُ عليها والالتِزام بها: احتِرام العامل وتقدير كرامَته الإنسانية، ومُعامَلته بالرِّفق واللين، واجتناب كلِّ سلوك أو تصرُّف يتضمَّن مهانة أو مذلَّة له، ولرب العمل في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأسوة والقدوة الحسنة في معاملة العمَّال؛ فعن أنس بن مالكٍ - رضِي الله عنه - أنه قال: "خدَمتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عشْر سنين، فما قال لي: أف، ولا: لمَ صنعتَ؟ ولا: ألا صَنعت؟"[83].

 

وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يدعو إلى حسن الخلق، حيث يقول: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا))[84]، ويقول: ((أثقل شيءٍ في الميزان يوم القيامة الخلق الحسن))[85]، ويقول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كذلك: ((إنَّ الله يحبُّ الرِّفق في الأمر كلِّه))[86]، ويقول أيضًا: ((إنَّ الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانَه))[87].

 

ومن المعلوم أنَّ التزام رب العمل بهذا المبدأ الخلقي يؤدِّي - غالبًا - إلى بَثِّ الرُّوح المعنويَّة في نفوس العمَّال والأُجَراء؛ من حيث حماسهم لعملهم واهتِمامهم به، وإتقانهم له، وإظهارهم لروح المُبادَرة والابتِكار فيه، وامتثالهم للتعليمات والتوجيهات الصادرة من قيادتهم في المؤسسة التي يعملون فيها.

 

5- توفير الرعاية الصحيَّة للعامل ووقايته من أخطار العمل:

ومن المبادِئ التي ينبغي على أرباب العمل الحرصُ عليها في علاقتهم مع العمَّال: توفير الرعاية الصحيَّة الشاملة لهم، وتأمين العلاج اللازم والفحْص الطبي الدوري - ولا سيَّما في الأعمال المهنيَّة التي تتطلَّب ذلك - ونحو ذلك ممَّا يحقِّق لهم الرِّعاية الصحيَّة المطلوبة.

 

كذلك اتِّخاذ كُلِّ الاحتِياطات الوقائيَّة المناسبة لحماية العمَّال من أخطار العمل وإصاباته المختل

التحميلات المرفقة

amer123123

اللهم احفظ المسلمين من شر وسوء المنافقين والخونة والعملاء والكافرين يارب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 203 مشاهدة
نشرت فى 20 أغسطس 2015 بواسطة amer123123

ساحة النقاش

عبد الفتاح أمير عباس أبوذيد

amer123123
موقع لغوي تربوي وأدبي وقيمي الرؤية والرسالة والأهداف: رؤيتنا: الرؤية : الارتقاء بالمنظومة التعليمية والتربوية بما يؤسس لجيل مبدع منتمٍ لوطنه معتزاً بلغته فخوراً بدينه رسالتنا: السعي لتقديم خدمات تربوية وتعليمية ذات جودة عالية بتوظيف التقنية الحديثة ضمن بيئة جاذبة ومحفزة ودافعة للإبداع الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها · إعداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

14,474,885