محمد علي يوسف
ليلة مظلومة هي !
نعم…
إنها تلك الليلة التى تلى الليلة الكبيرة!
و الليلة الكبيرة طبعا اعنى بها تلك الليلة التى يعتبرها البعض الليلة الختامية لرمضان و ما بعدها هو الوقت الإضافى أو الوقت بدل الضائع كما فى مصطلحات كرة القدم
الليلة الكبيرة طبعا هي ليلة السابع و العشرين العتيدة
و بعيدا عن الخلاف الكبير فى تحديد ليلة القدر و بغض النظر عن الأقوال الكثيرة التى صال و جال بينها أهل العلم فأنا أحب ليلة السابع و العشرين سواءً كانت هى الليلة المنشودة أم لا
أحبها لما أجد فيها من إقبال على الله من أناس لم أتعود منهم ذلك
أحبها لما أرى فيها من عمران لبيوت الله أتمناه فى كل ليلة من رمضان و من غير رمضان و ليس كل ما يتمناه المرء يدركه
أحبها لما أشهد فيها من اجتهاد الشباب فى طاعة الله و لما يتبع ذلك من مداومة بعضهم ممن ذاق و عرف ثم اغترف و فهم فلزم و التزم
و أحبها لأن ظنى بالله أنه لا يرد هذا القدر من الضارعين بين يديه و لا يخزى هؤلاء البكائين الذين أحسب ألا نعدم فيهم مخلصا تقيا خفيا لعلنا نرحم بصالح عمله أو بدعوة صادقة خرجت من قلبه
أحبها لكل ذلك و لغيره لا ينغص على هذا الحب لها و ذاك الفرح بها إلا ما بعدها
ما بعدها على المدى البعيد و القريب
أما عن البعيد = فتلك المشاهد التى أعرفها جيدا و التى تبدأ ليلة العيد حين تفتح أبواب كانت قد غلقت و تغلق أبواب كان قد فتحت و تستبدل دمعات الخشية بأصباغ الزينة تلطخ الوجوه التي كانت متوضأة بينما تتوسط أعمدة الدخان الأزرق و الأبيض و سائر الألوان تلك الأنامل التي كانت منذ ساعات ذاكرة شاكرة مسبحة
و أما عن المدى القريب = فهى تلك الليلة المظلومة التى تلى تلك الليلة السعيدة ليلة الثامن و العشرين حين تبدأ المساجد مرانها على الخواء على عروشها و العودة لسابق عهدها و فراغ صفوفها و الشكوى من الهجران
ليلة الثامن و العشرين من رمضان...
تلك الليلة التى رغم أنها ليلة عتق من النار كسائر الليالى إلا أن راغبى ذاك العتق فيها و الثابتين على التماس الفتح خلالها يعتبروا ندرة نفيسة وقلة عزيزة
و هذه الليلة على زهد الكثيرين فيها إلا إنها من أحب ليالى رمضان إلى نفسى ربما لأنها تحمل ذكرى أيام البدء و لله در القائل "واها لأيام البدء"
نعم إنها ليلتى !!
ليلة بدأت فيها ما يمكن تسميته بمحاولة الاستقامة و التسنن و السير إلى الله أو ما يعرف بين الناس تجوزا بكلمة "التزام " و إلا فما أثقلها من كلمة نسأل الله أن نكون أهلا لها
كانت هذه الليلة على فراغها و خلو مساجدها هى أول لحظات علاقتى الحقيقية ببيوت الله و بكلامه وبأهله وخاصته
كنت فى تلك الأيام فى عامى الثالث من دراستى الجامعية و قد ضقت ذرعا بالبعد عن الله و الغفلة عن إرضائه أسأل الله العفو و العافي
أذكر أنه كان لى زميل و صديق أحسبه من الصالحين لا أنسى فضله جزاه الله عنى خيرا ذهبت إليه فى اليوم السابع والعشرين من رمضان و أنا مثقل بالذنوب مكبل بهمومها و أنا الذى طالما صددت محاولاته لدعوتى و تغافلت عن صحبته التى أحسبها صالحة
لم أكن حينئذ قد سمعت بالاعتكاف و هو أمر لم يكن فى ذلك الوقت معروفا كما هو الآن (أقصد قبل تقنينه وتجفيف منابعه الآن)
ذهبت إلى زميلي و كلى رغبة فى أن يساعدنى للإقبال على ربى ويدلني على سبيل أصلح فيه ما بيني وبينه
ولم يتأخر الرجل
لقد دعانى لعكوف معهم فى بيت من بيوت الله يعكفون فيه منذ أول ليال العشر
لكن... يا أبو حميد
المذاكرة !!
هنعمل إيه و الامتحانات على الأبواب؟!
هكذا قلت مستفهما
قال متبسما : وفيها إيه؟!
هنذاكر سوا فى بيت الله ونتلمس بركة الوقت مع الطاعة
فكرت قليلا ثم قلت لنفسي: و ماذا فى هذا ؟!
الرجل دوما من أوائل الدفعة و ترتيبه يسبق ترتيبى و لم تنهه صلاته أو عبادته يوما عن التحصيل و التفوق
اتخذت قرارى فى نفس اللحظة و ذهبت بعد الانتهاء من "سكاشن" ذلك اليوم إلى بيتى لأجهز حاجياتى و كتبى و أستأذن والداى ثم ذهبت لألحق ببيت الله ليلة الثامن و العشرين من رمضان
لم يعد متبقيا إلا ثلاث ليال من الشهر لكن و الله كنّ من أجمل ليالى حياتى و أكثرهن سكينة وبركة
كانت أولاهن ليلة الثامن و العشرين
مسجد صغير هو؛ أو ما يعرف فى مصر بالزاوية
بسيط قليل البهرج حلو المعشر كحال رواده و أعمدة عبادته الذين رحبوا بالشاب الجديد الذى لا يستطيع قراءة سطر فى كتاب ربه دون أن يخطىء و يتلعثم و كأنه تلميذ فى رياض الأطفال
رحبوا به و ألفوا قلبه كأنما هو أخ قديم مخضرم بينهم
لم يشعروه لحظة بغربة أو بأنه مختلف عنهم بل مثله مثلهم يعامل كما يعامل أعلمهم
لم يكن الإمام فاره الصوت و لم يكن المأمومون كثر و لم تكن وسائل الإبهار المسجدية المزخرفة و الصوتيات الرنانة قد عرفت بعد لكننى انبهرت!!
انبهرت و ندمت أيما ندم ندمت أننى تأخرت
انبهرت بشعور جديد لم اعتده
شعور الحب فى الله و ألفة الصحبة الصالحة و سكينة المكث فى بيوت الله و روعة القرآن العظيم
ما أجملك و أحناك يا ليلة الثامن و العشرين يا من كنت بداية معرفتى بتلك الأحاسيس
بداية معرفتى بجلسة الضحى و دروس العلم و المقرأة و ما أدراك ما المقرأة
ذكريات كثيرة تتلاطم فى صدرى كلما استعدت تلك الأيام لا أريد أن أشغلك عزيزي القارىء بها و اعذرنى إن كنت قد استفضت فيها إنما فقط أردت أن أفضفض معك قليلا بين يدي تلك الليلة الهادئة
أردت أُذَكِّر و أتذكر ليلة الثامن و العشرين
ليلة من ليالى رمضان كانت بداية خير لإنسان ومنحى غير حياته كلها
لا أحد يدرى أين البركة و لا متى يأتى التغيير ولا كيف يأتي الفتح
إن ليلة ترزق فيها سجدة صادقة أو تتلذذ فيها بلحظة خلوة رائقة ودعوة صادقة تنكسر فيها بذلة و خضوع مظهرا الندم مخبتا فى خشوع قد تكون خير ليلة تمر عليك منذ ولدتك أمك و ربما تتغير حياتك كليةً بعدها
حتى لو قل السالكون وندر الطارقون لأبواب العتق المفتوحة فى كل ليلة من رمضان فهل عساك أن تكون من أولئك القليل الذين يطرقون الأبواب تلك الليلة فتنال فيها عتقا من النيران وفوزا بالجنان ولا تكونن من الزاهدين فى أى ليلة لعلها تكون هي الليلة
ليلة الفتح
حتى لو كانت تلك الليلة التى يظلمها كثير من الناس
ليلة الثامن و العشرين
ليلتي
ساحة النقاش