السؤال الأول
((قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (( [الحجر40]
عندما قرأت هذه الاية جاء سؤال في عقلي يحيروني : يقول الشيطان لله عز و جل "رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي" هل الله هو من اغوي الشيطان كي لا يسجد و يقوم الخلاف بينه و بين الانسان ؟ و لماذا يحدث هذا ؟ او ما تفسير هذا رجاء الاجابة و شكرا
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبى الله ورسوله سيدنا محمد، رحمة الله للعالمين، وبعد؛ فيا أيها الأخ السائل الكريم:
• هذا باب فى قواعد البلاغة العربية اسمه: فن المشاكلة
ومعناه ذكر الشئ أو المعنى بلفظ غيره لوقوعه فى صحبته؛ لإيقاظ العقل ولفت الانتباه وبيان أن الجزاء من جنس العمل.
• لقد شاءت حكمة الحكيم أن خلق الإنسان حرًّا مختارًا فالإنسان حيث يضع نفسه، فإن اختار الطاعة والذكر نال الجزاء المناسب لذلك {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ومعنى أذكركم هنا ليست بمعنى فاذكرونى.
فاذكرونى أى بالذكر القولى سبحان/ الحمد لله... القرآن ... إلخ.
وبالذكر العملى.. وهو فعل الطاعات والصالحات.
أما معنى، أذكركم: أى أذكركم بالتوفيق والقبول والتأييد والحفظ والمنازل العالية والدرجات الرفيعة يوم القيامة وهكذا.
وهذا الأسلوب مألوف لدى العرب، كما فى قول الشاعر:
من بلغ أفناء يعرب كلها إنى بنيت الجار قبل الدار
فالذى سوغ بناء الجار هو بناء الدار
ومنه قول الشاعر:
قالوا اقترح شيئًا نجد لك طبخه قلت: اطبخو لى جبة وقميصا
فالذى سوغ اطبخو لى جبة وقميصا وهما لا يطبخان هو وقوعهما فى صحبة كلمة نجد لك طبخه
بعد هذا التمهيد، نصل إلى الآية موضوع السؤال..
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} الحجر.
والقرآن كتاب محكم يفسر بعضه بعضه وبتدبر الآيات التى قبلها فى سورة الحجر سيظهر الله البيان الحق. تدبر معى هذه الآيات:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} الحجر.
أقول بتوفيق الله: بتدبر الآيات ترى أن الخالق بعد أن بَيَّن أنه من طلاقة قدرته أنه خلق نوعين مختلفين، كل نوع له نظامه الخاص فى الخلق، وكما أن صانع الصنعة هو الأعلم بأفضلية صنعة على أخرى، فهكذا ولله المثل الأعلى أعلم بما خلق وبما خلقه له.
وهكذا شاءت حكمة البارى أنه خلق الجان من نار السَّموم، ثم الإنسان من صلصال من حمإ مسنون، وحين خلق الإنسان أمر الملائكة بالسجود لهذا المخلوق الجديد (الإنسان) واستجابت الملائكة كلهم أجمعون لأمر الخالق الحكيم، لم يتخلف منهم عاصيًا متمردًا على الخالق إلا إبليس حيث أبى أن يكون من الطائعين.. تكبرًا أو غرورًا لأنه رأى أنه خُلق من أصلٍ (النار) أَفضل من أصل خلقة آدم (التراب) ولم ينظر إبليس إلى عظمة الآمر وحكمته.
فاستحق الطرد بمعصيته واستوجب اللعنة لعناده وِكبْره ثم سأل الله بعد ذلك أن يمد له فى البقاء إلى يوم الدين ....؛ فأستجاب الله له....، وهكذا إبليس هو الذى اختار...
هنا قال إبليس
{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)} الحجر.
(أغويتنى) هنا فى هذا السياق يفسرها كل ما ذُكر قبلها: أن إبليس اختار المعصية وسأل الله البقاء والإمهال إلى يوم القيامة فاستجاب الله له، فاعتبرها إبليس فرصة للانتقام من عدوه الذى تسبب (بحسب ظن إبليس) فى طرده وَلعْنته فقال:
{لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)}
(ولأغوينهم) هنا بمعنى الإضلال وغواية الآخرين وإغرائهم بالشرور والفساد والفحشاء والمنكر والبغى.
وبحسب القاعدة البلاغية فى قواعد العربية:
يكون الذى سوَّغَ ذكر (بما أغويتنى) يعنى وصف الجزاء على المعصية بالغواية هو وقوع هذا المعنى فى صحبة كلمة لأغوينهم وفى هذا لفت للانتباه من جانب، ومن جانب آخر فيه بيان لتدليس إبليس وتخبطه حتى فى حواره مع الخالق؛ لأن الآية جاءت حكاية عن قول إبليس فى حواره مع الخالق وبهذا يتضح المعنى وتظهر المزية فى أسلوب القرآن الكريم.
وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ
ساحة النقاش