أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
? إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ?76? وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ?77? قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ?78? فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ?79? وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ?80? فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ?81? وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?82? تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ?83? مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ?84? إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ?85? وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيرًا لِّلْكَافِرِينَ ?86? وَلاَ يَصُدُّنُّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?87? وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ?[القصص: 76: 88]
أما عن قصة قارون فافتتحها رب العالمين -سبحانه وتعالى- بقوله: ? إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ? إلى آخر ما جاء في هذا السياق، ? إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى ? ظاهر القرآن هنا الذي دَلَّت عليه هذه الآية أن قارون كان من جماعة موسى، وقيل: كان قريبا له، ذكر بعض المفسرين أنه كان ابن عمه، وبعضهم قال بأنه أيضا كان عمًّا لموسى -عليه السلام- وقد ذكر قَتَادَة بن دَعَامَة السَّدُوسِيّ -رحمه الله- أنه كان ابن عم موسى -عليه السلام- وكان يُقال له الْمُنَوَّر لحسن صوته بالتوراة، ولكنه نافق كما نافق السَّامِرِيّ، وتفيد مجموع هذه الروايات أنه كان مؤمنًا، وبالتالي إشارة القرآن الكريم إلى أنه من قوم موسى يعني أنه كان قد آمن وصدَّق بموسى -عليه السلام- ولكن هذا الرجل قد أعطاه الله -عزّ وجلّ- من المال الشيء الوفير، فلما أُعطي هذا المال قال الله عنه: ?فَبَغَى عَلَيْهِمْ ? يعني تجبر وتكبر على خلق الله -تبارك وتعالى- قيل: بَغْيُهُ كان في أنه لا يعطي الفقراء حقهم من المال، وقيل: كان يتسلط بماله على عباد الله، وقيل: كان يتبختر ويخرج في ميادين عامة ومعه من الحشم ومن الخدم وبين يديه من الكنوز ومن المال الشيء الكثير يباهي به عباد الله -تبارك وتعالى- وغير ذلك من ألوان البغي، وكل هذا يدخل تحت قول الحق -تبارك وتعالى: ? فَبَغَى عَلَيْهِمْ ?.
ثم يخبر رب العالمين سبحانه أن الذي أعطاه المال هو الله، وما كان ينبغي له أن يفعل ذلك، فقارون في الأصل لا يملك شيئًا، والذي مَلَّكَهُ هو رب العالمين، وفي ذلك يشير الله -عزّ وجلّ: ? وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ ? كلمة "وآتيناه" تفيد أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- هو الذي يملك الملك كله، وأن ما أُعطيه قارون إنما هو من الله -عز وجل- والله قد أعطاه من الكنوز ربما يمكن أن نقول: ما لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى- وقد ذكر أهل العلم كلامًا كثيرًا فيما أعطيه هذا الرجل، وما تفضل رب العالمين -سبحانه وتعالى- به، ولكن القرآن الكريم هنا اقتصر على قول الحق -تبارك وتعالى: ? مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ?، العبارة القرآنية تفيد: أن مفاتيح الخزائن التي وضع فيها قارون ما لديه من مال يتمتع به كانت تَعْجَزُ العصبةُ القويةُ من الرجال عن حملها المفاتيح، قيل: كان هذه المفاتيح من جلود، وكل مفتاح على قدر إصبع كامل، ومع كل ذلك كانت العصبة القوية من الرجال تعجز عن أن تحمل هذه المفاتيح.
لو تخيلنا يعني.. إذا كان هذا مجرد المفاتيح فما بالنا بالخزائن أنفسها! إذن ملك عريض، جاه كبير، أعطاه رب العالمين -سبحانه وتعالى- لهذا الرجل، كَمٌّ عظيمٌ جِدًّا من المال، والعصبة عدد كبير لا يقل عن عشرة، كما جاء في قول إخوة يوسف: ? وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ? وكانوا عشرة؛ لأن يوسف وأخاه لم يكونا معهم، هم كانوا اثني عشر، فعندما يقولوا: ? وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ? ونُخْرِج منهم اثنين سيصبحون عشرة.
ولذلك قال أهل العلم: العصبة تطلق ويمكن أن تبدأ من العَشرة، فالله -عزّ وجلّ- يبين أن العصبة؛ يعني العشرة الأقوياء الأشداء من الرجال كانوا يعجزون عن حمل المفاتيح التي أُغلقت عليها كنوز هذا الطاغية، ولكنه كما ذكر الله في أول الآية كان يبغي بهذا المال الذي أعطاه الله إياه، هنا انبرى له أهل الصلاح والخير من قومه، ونصحوه بنصائح ثمينة غالية بدؤوها بقولهم له: ? لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ?؛ يعني لا تفرح فرح المستكبرين، لا تكن أَشِرًا بما أعطاك الله -عزّ وجلّ- من مال، لا تتخذ هذا المال وسيلة من وسائل البغي والسيطرة والتجبر والتكبر على عباد الله -تبارك وتعالى- ثم توالت النصائح على هذا الرجل وقالوا له: ? وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ?، "وابْتَغِ": يعني اطلب فيما أعطاك الله -عزّ وجلّ- الدار الآخرة، فرصة أن مكَّنك الله وأعطاك من المال ما أعطاك ويَسَّرَ لك أمرك في هذه الحياة، فأعطاك الله -عزّ وجلّ- مالاً، والمال حقيقة هو مال الله، فهي فرصة أنك تبتغي وتطلب فيما أعطاك الله -عزّ وجلّ- ما يجعل الله -تبارك وتعالى- يرضى عنك في الدنيا والآخرة؛ لأن المال مال مَن؟ مال الله -تبارك وتعالى- فابتغِ فيه ما أعده الله لعباده وأوليائه المتقين، ولم يقفوا عند هذا الحد وإنما نصحوه أيضا نصيحة غالية، ولعل الرجل كان مغترًّا غاية الغرور بماله وجاهه، وكان حريصا غاية الحرص على دنياه وعلى التمتع فيها، فقالوا له: ? وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ? بعد أن نصحوه بالنصيحة الغالية: ? وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ? ربما خشي هؤلاء الناصحون أن يفهم هذا الرجل أنهم يريدوا أن يوصلوا إليه رسالة وهي أنه لا يستمتع بما أعطاه الله من المال، وأن يُحرَم من ماله الذي أعطاه الله إياه، فكأنهم استدركوا على أنفسهم أن يفهم هو هذا الفهم، وبينوا له مَزِيَّة عظيمة جِدًّا من مزايا الدين عموما الذي نزل من عند رب العالمين سبحانه، وهذا فيه من التوازن ما فيه ? وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ?؛ يعني استمتع بما أعطاك الله -عزّ وجلّ- من الطيبات، كُلْ بالمعروف، واشرب بالمعروف، والْبَس بالمعروف، استمتع مما أعطاك الله -عزّ وجلّ- ونحن في قرآننا يقول رب العالمين: ? قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ?[الأعراف: 32]، فلا حَرَجَ أبدًا أن يستمتع الإنسان بما تفضَّل الله -تبارك وتعالى- به عليه، ولكن كل ذلك يكون بالمعروف، وهذا في الإسلام ظاهر وواضح غاية الوضوح، ويُعَدّ من خصائص الإسلام ومميزاته ألا وهو قضية التوازن بين الدنيا وبين الآخرة، فالإنسان لا يستغرق في دنياه بحيث يترك آخرته، ولا ينقطع لآخرته فقط بحيث يترك دنياه.
نحن ما عندنا محاسيب السيدة ولا محاسيب الحسين، وإنما يجب على الأمة الإسلامية أن تكون عاملة في هذه الحياة الدنيا، وأن تنتج، وأن تعبد الله -عزّ وجلّ- كما أمرها رب العالمين سبحانه، ولكن أيضا تسعى في الأرض، وتضرب في الأرض، وتبتغي الرزق الحلال الطيب من الأرض، وأن يستمتع الإنسان بما أحل الله -تبارك وتعالى- له من الطيبات.
ونستمر في نصائح هؤلاء الصالحين لهذا الرجل بَعْدَمَا قالوا له: ? وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ? قالوا له: ? وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ? وكأنهم يُذَكِّرُونه بشكر نعم الله -تبارك وتعالى- رب العالمين -سبحانه وتعالى- أَحْسَنَ إليك وأعطاك ما أعطاك، فأنت أَحْسِنْ في هذا المال كما أَحْسَنَ الله إليك، وإن شكرت يا أيها العبد؛ سيزيدك رب العالمين -سبحانه وتعالى- المال لن ينقصه رب العالمين إذا تصدقت وأعطيت منه الفقراء والمساكين وهو مال الله -سبحانه وتعالى- ثم بعد ذلك قالوا له كلمة عامَّة تبين ما افتتحه الله -عزّ وجلّ- عنه في مطلع القصة: ? إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ? نصحوه بعدم البغي قائلين: ? وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ? هذه في الحقيقة نصائح غالية، نصائح قَيِّمَة للغاية، لو أنها وَجَدَتْ قلبًا واعيًا، لو أنها وجدت رجلا يَفْقَه وقد فتح الله -تبارك وتعالى- عليه. قوم يقولون له: مَنَّ الله -تبارك وتعالى- عليك وتفضَّل عليك، وهذا المال فرصة لأَنَّ تحجز لك مقعدًا عظيمًا جِدًّا في الدار الآخرة عند رب العالمين -سبحانه وتعالى- ولن يكلفك ذلك شيئًا.
ولكن هذا الرجل بغى بألوان الفساد المتعددة في الأرض، وكان من بغيه وجبروته وطغيانه أن أجاب بهذا الجواب على هؤلاء الذين نصحوه: ? قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ?، هذا الرجل لما سَمِعَ هذه النصائح لم يستمع إليها، وإنما أخذه الغرور والكبر وقال: كل ما لَدَيَّ ? إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ?، قال أهل العلم: يريد أنه كان يعرف ألوان المكاسب والتِّجَارَات، وأنه يريد أن يقول لهم: هذا "بشطارتي" وبذكائي، هذا المال الذي تقولون بأنه مال الله أنا ما حصلت عليه إلا بسبب ما لَدَيَّ من مواهب متعددة، استطعت من خلالها أن أجمع هذا المال، وقيل: معنى ? إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ? يعني أن الله -تبارك وتعالى- أعطاني هذا المال لعلمه أنني أَسْتَحِقُّ هذا المال، وللأسف الشديد هذا المفهوم موجود عند بعض الناس حتى يوم الناس هذا، نسمع بعض الناس يقول لك: غَنِيّ الدنيا هو غَنِيّ الآخرة، وأنه طالما أن رَبَّنَا وَسَّعَ عليه في الدنيا فهو كذلك أيضًا مُوَسَّع عليه في الدار الآخرة، هذا فهم مغلوط، وهو من فهم قارون في الأصل: ? قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ? رَدَّ الله -تبارك وتعالى- عليه هذا القول وقال: ? أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ ? هذا الرجل يعلم، والإشارة بـ ? أَوَلَمْ يَعْلَمْ ? لأنه -كما ذَكَرْتُ سابقًا- كان يقرأ التوراة، وكانت هذه الأخبار موجودة لديهم، فكان يعلم من خبر السابقين أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- أهلك مَن هو أشد منه قوة وأكثر جمعا، وهذا واقع، وكان هذا الرجل يعلمه، والله -عزّ وجلّ- لما أشار: ? أَوَلَمْ يَعْلَمْ ? فهمنا من ذلك أنه كان يعلم ذلك، ولكن رب العالمين -سبحانه وتعالى- يُذَكِّرُهُ كَمَا ذَكَّرَهُ الصالحون، ولكنه لم يَسْتَجِبْ، ولذلك سيأتي أن رب العالمين -سبحانه وتعالى- أخذه، والله -عزّ وجلّ- قال: ? وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ? الإنسان إذا وصل إِلَى هذه المرحلة لا يُسْأَلُ عن ذنبه، ما معناها؟
قال أهل العلم: الله -تبارك وتعالى- إذا أَهْلَكَ هؤلاء الظالمين لا يَسْأَلُهُم عن ذنوبهم؛ لأنَّ بعض هؤلاء الظالمين لا يستحقون أن يُسألوا حتى ولو للحساب، وإنما يُجَرُّون جَرًّا إِلَى نار جهنم بسبب شدة البغي والطغيان، فَبَعْدَمَا يهلكهم رب العالمين -سبحانه وتعالى- لا يحتاج الأمْرُ معهم إِلَى مراجعة ولا إلى سؤال، وهذا الجزء من الآية لا يتعارض أيضًا مع قول الحق -تبارك وتعالى: ? فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ?[الأعراف: 6]، ظاهر الآية تفيد أن الجميع سَيُسْأَل، قال أهل العلم بأن هذا يكون في مواطن مختلفة؛ يعني قد يُسأل في موطن ولا يُسأل في موطن آخر، وقيل أيضًا كلامٌ جميلٌ: أنه لا يُسأل عندما يكون باغِيًا وظالِمًا عن جرمه وظلمه لشدته وبغيه، وإنما يؤاخذ فلا يُسأل عن ذلك، والسؤال إن طُلِبَ منه فَيُمْنَع منه، سؤال ماذا؟ سؤال الاستعتاب والاعتذار، فقد يطلب الكافر، وقد يطلب المنافق، وقد يطلب المشرك، قد يطلب الكلام والاستفسار والسؤال، فيمنع من ذلك لماذا؟ إذا كان السؤال من أجل الاعتذار، وهذا وارد في قول الله -تبارك وتعالى: ? وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ?[المرسلات: 36].
ثم يقول رب العالمين -سبحانه وتعالى- مصورًا حال هذا الرجل بعدما ذَكَرَ عنه أنه آتاه من المال ما آتاه، وأن قومه قد نصحوه بهذه النصائح الثمينة الغالية، ولو فَقِهَهَا وفَهِمَهَا وعَمِلَ بها لكان له شَأْنٌ آخر، ولكن إرادة رب العالمين -سبحانه وتعالى- سابقة.
قارون بعدما نُصِحَ بهذه النصائح لعله أخذ في نفسه من قومه، وكأنه من بغيه وطغيانه وجبروته قال: كيف يتوجه إِلَيَّ هؤلاء الفقراء الضعفاء المساكين بهذه النصائح؟ كيف يخاطبونني بهذا الأمْر؟ فَجَهَّزَ موكبًا عظيمًا وخرج به على قومه، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: ? فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ?79? وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ? أولاً: يمكن أن نستفيد من هذه الآية حَقًّا أن المال فتنة؛ لأنه فَتَنَ بعض هؤلاء الناس كما سنقف على ذلك الآن، قارون خرج على قومه في زينته، وقد ذَكَرَ بعض المفسرين بعض ألوان الزينة التي خرج فيها هذا الرجل، ولم يَرِدْ إلينا فيما قرأتُهُ وتَتَبَّعْتُه أَيُّ خبر صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يَذْكُرُ شيئًا من ذلك، ولكن ظاهر القرآن يفيد أنه خرج معه مراكب عظيمة، وبين يديه من الحشم والزينة والخدم الشيء الكثير مما يمكن أن يظهر به الملوك، خاصَّةً إن كان هذا الرجل خرج لِيُبَيِّنَ لقومه الذين نصحوه أنه لا يقبل منهم هذا الكلام، وما كان ينبغي وهو بهذه المكانة والعظمة والأُبَّهَة والزينة أن يتطاولوا -من وجهة نظره- عليه بهذا الكلام، فكأنه أراد أن يُسْكِتَهُم بموكبه الذي ظَنَّ أنه عظيم، فخرج على قومه في زينته.
هنا انقسم الناس في شأنه إلى فريقين: قوم كفار وهؤلاء معروف أمرهم، وقيل: كان مع هؤلاء الكفار أيضًا بعضُ جَهَلَةِ وضِعافِ النفوس من المؤمنين من بني إسرائيل، وهذا هو الفريق الأول، لَمَّا شاهدوا قارون وقد خرج عليهم في أبهى حُلَّة وأفضل زينة، قال هؤلاء الناس الذين يحبون الدنيا والحياة الدنيا: ? يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ? تمنى هؤلاء الناس أن يكون لهم شَيْءٌ مما أعطاه الله -عزّ وجلّ- لهذا الرجل، هؤلاء القوم نفوسهم تطلعت إِلَى الحياة الدنيا، ركنوا إليها، أحبوها، أعرضوا -لا شك- عن الآخرة، والله -عزّ وجلّ- بَيَّنَ نوعية الفريق الآخر وماذا قالوا، وهم أُولُوا العلم: ? وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ?، أهل العلم، أهل الفضل، أهل الخير، أهل الإيمان ردوا على هؤلاء القوم السابقين الذين تَمَنَّوْا أن يكون عندهم ما عند قارون، ولفتوا أنظارهم إلى أن ما أعده الله -عزّ وجلّ- لأهل الإيمان في الدار الآخرة خير وأبقى: ? ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ?.
كلمة ? وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ ? ذَكَرَ بعض أهل العلم أنها من كلام هؤلاء الناس، أنهم قالوا ذلك، وقيل بأنها من كلام رب العالمين -سبحانه وتعالى- ويصبح المعنى: أن هذه الكلمة أن الله -عزّ وجلّ- يقول: هذا الكلام الذي قاله أهل العلم لا يُلَقَّاهُ إلا مَنْ؟ لا يُلَقَّاهُ إلا الصابرون.
وفي هذه الآية فائدتان لا ينبغي أن نتركها إلا بعد الإشارة إلى هاتين الفائدتين، الفائدة الأولى: فضل العلم، مكانة العلم عظيمة، وتظهر مكانة العلم من خلال هذه الآية؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- قال ماذا؟ ? وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ? فَدَلَّ ذلك على أن العلم يَعْصِمُ أهله عن الوقوع في الزلل والخطأ، العلم من أعظم النِّعَم التي يَمْتَنُّ رب العالمين -سبحانه وتعالى- بها على عباده، ونحن الآن في مجلس علم، وندعو إخواننا المسلمين إِلَى العلم وإلى طلب العلم، وفضل العلم ظهر أثره النافع في هذا المكان، فأهل العلم هؤلاء لم تبهرهم هذه الزينة، ولم تأخذ بِلُبِّهِم أبدًا، ولم ينظروا إليها نظر إعجاب كما نظر أصحاب الحياة الدنيا، فاستفادوا هذه الفائدة العظيمة.
الفائدة الثانية في هذه الآية: أن مَعْقِدَ النجاة في الدار الآخرة يقوم على الإيمان والعمل الصالح، لأنهم قالوا ماذا؟ ? وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ?، وبالتالي الذي أود أن ألفت النظر إليه أن الإيمان ليست مسألة قلبية فقط أو كلمة تقال باللسان، "وإنما الإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان".
وتبقى كلمة "ويل" الواردة في هذه الآية، كلمة "ويل" أصلها الدعاء بالهلاك ثم استعملت في الزجر والردع، فأهل العلم هنا أرادوا أن يزجروا الذين تمنوا أن يكون لهم ما لقارون فقالوا لهم: ? وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ?.
ثم تستمر الآيات لِتُبَيِّن... لأنه قد يَسْأَل سائل: قارون قد خرج على قومه في زينته، ماذا كانت نهايته، وإلى أين انتهى قدمه، فرب العالمين -سبحانه وتعالى- قرر ذلك فقال: ?فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ?، هذا الرجل لَمَّا خرج يتبختر على عباد الله -تبارك وتعالى- يتجبر عليهم، خرج في هذه الزينة، وقد جاء في الحديث: "بينما رجل خرج يَجُرُّ رداءه إِذْ خُسِفَ به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة"، وقد ذكر أهل العلم -والحديث في صحيح البخاري- أن هذا في قارون الذي خرج يتبختر في خُيَلاَء بين قومه أن عاقبه رب العالمين -سبحانه وتعالى- بهذا العقاب، وتأتي "الفاء" هنا لتبين أنه بمجرد أنه خرج يتبختر في زينته عاقبه رب العالمين -سبحانه وتعالى- مباشرة بذلك؛ لأنَّ "الفاء" تفيد الترتيب والتعقيب.
والله -عزّ وجلّ- أيضًا -وهذه من مهمات تتبُّع آيات القرآن الكريم وتذوقه- قال: ? فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ ? ما قال فخسفنا به فقط لماذا؟ هذا بيان للناس كافة، ولمن أُشْرِبُوا في قلوبهم حب الدنيا خاصة، أن هذه الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة، لأنَّ المال والكنوز الكثيرة التي كانت عند قارون لو كانت نافعة ومهمة، أو تَلْفِتُ النظر وتسترعي الانتباه حتى لدى أهل الإيمان الذين كانوا هم أهل العلم في هذه الفترة، أو أن الله -عزّ وجلّ- بحاجة إلى شيء من هذا المال ليستكثر به، ما خسف رب العالمين -سبحانه وتعالى- به، ولكنه لا قيمة له ولا وزن، فالدنيا كلها من أولها إِلَى آخرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولذلك قال رب العالمين: ? فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ ?، وقارون الذي دفعه أن يخرج متبخترًا في خُيَلاَء وعظمة أمام قومه ما كان لديه من مال وما كان عنده من حشم وخدم وجنود وغير ذلك، ولكن الله -عزّ وجلّ- يقرر في هذه الآيات أن ذلك لم ينفع: ? فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ?، ما كان هناك أحدٌ لا مال ولا جماعة ينصرونه من دون الله، وما كان هو أيضا من المنتصرين لنفسه، ثم يقول سبحانه: ? وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?.
قلت سابقًا بأن قارون لَمَّا خرج يستعرض زينته أمام قومه، انقسم الناس إِلَى فريقين: الفريق الأول الذي تمنى أن يكون له مثل ما لقارون لَمَّا شاهد خَسْفَ الله -تبارك وتعالى- به وبداره فَاقُوا واستيقظوا ورجعوا إِلَى أنفسهم، ولذلك هذا دفع بعض أهل العلم إِلَى أن قال: إنه كان فيهم كافرون وبعض ضِعاف النفوس من المؤمنين: ? وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَّشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ ? يعني أن هذه الدنيا يعطيها رب العالمين -سبحانه وتعالى- لمن يشاء من عباده، سواء آمن بالله -عزّ وجلّ- أو كفر بالله -تبارك وتعالى، لأنَّ هذه الدنيا حقيرة وضعيفة، ولا يُقاس أصحابها بما لديهم من مال، ولذلك تَنَبَّه هؤلاء الناس وذكروا هذه الحقيقة، ثم رجعوا وعادوا إِلَى أنفسهم قائلين: ?لَوْلاَ أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا ?؛ يعني فضل الله -تبارك وتعالى- علينا هو الذي أبقانا، وهو الذي جعلنا نبقى بعد هذا الطاغية، رغم أنهم شاركوه نوع مشاركة عندما تمنوا أن يكون لديهم ما عند هذا الطاغية: ? وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?، وهذا يدل على أن قارون كان كافرًا؛ لأنَّ هؤلاء صرحوا بذلك: ? وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ?، "ويكأن" اختلف النحاة في هذه الكلمة، ما معنى "ويكأن"؟ قيل معناها: "ويلك اعلم أن"، فَخُفِّفَت "ويلك" إِلَى "ويك"، وحُذِفَت "اعلم"، وفُتِحَت نون "أن" لتدل على هذا المحذوف، فصارت: "ويكأن".
وقيل معناها: "ألم تر أن"، وقد رَجَّحَ هذا الزمخشري في "الكشاف"، أن كلمة "وَيْ" مفصولة عن "كأن"، و "وَيْ" كلمة تقال إمَّا للتنبيه أو للتعجب، و "كأن" معناها في هذا الموطن: "أظن أو أَحْسِب" لتتمشى مع السياق؛ لأنَّ "وَيْ" عندما تكون للتنبيه أو للتعجب فكأن ظنه.. أو أنه كان يحسب أن الأمْرَ كما كان يشاهده أو يراه.
ساحة النقاش