المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا جاز لي أن أتوسع في معنى المخضرم، فإنني من جيل مخضرم أكثر من مرة. من جيل مخضرم بين ذيول فترة زمنية خيم عليها الجهل والتخلف، وفترة تتسم بانتشار نور المعرفة. من جيل عاش حياة الحارات القديمة المغلقة، وحياة الأحياء الحديثة المنفتحة. عاصرت الخوجة والكتّاب، وتعلمت في المدارس الحديثة التي انتشرت في كل حي وقرية وشارع. وعاصرت ألعاب الورق والإدريس والخمسات، ومارست ألعاب الشطرنج والكلمات المتقاطعة، وشاهدت الفيديو والكمبيوتر. تمتعت برؤية شاشة خيال الظل (الكركوز) وشاهدت أفلام السينما، وأدركت برامج التلفزيون.
لامجال لمتابعة المقارنة بين الماضي والحاضر ولكنني مثل العديدين الذي أدركوا حضارة أواخر القرن العشرين وتمتعوا بها. أقول: رحم الله تلك الأيام، لأنها لاتخلو من ميزات، ففيها البساطة والهدوء، ويسودها الرابط العائلي والتراحم والتوادد، وليس لنا من تلك الأيام إلا الذكريات. ومن تلك الذكريات أمسيات وسهرات ونزهات وألعاب تسودها المحبة والمودة والبراءة والانشراح، وتؤكد كلها على قوة الرابط الاجتماعي والأسري.
وكلما جلست أشاهد برامج التلفزيون مع غيري من الجلساء، أشعر أننا نشد إلى برامجه فلا يرى أحداً رغم قربه منه، ولا يستأنس ضيف أو جليس بجليسه، فالكل يتابع المسلسل أو الفيلم أو البرنامج أو المشهد. وتتعطل لغة الكلام، كما تتوقف معظم الأعمال والأنشطة اليومية مع بدء البث التلفزيوني، الذي أصبح الفيديو يحتل مكانه مؤخراً.
وبحكم عملي الوظيفي كنت استعرض لوائح عناوين الكتب الواردة حديثاً إلى المكتبة, فاستوقفني عنوان كتاب حرصت على تصفحه، فوجدت فيه شرحاً لألعاب شعبية في إحدى المدن. فثارت في نفسي الذكريات، وعادت بي إلى سنين مضت، فارتسم على شاشة ذاكرتي ألعاب كنت أمارسها، وصور أشخاص كانوا رفاقي في اللعب، وتخيلت مناطق كانت مسرح طفولتي. وتعددت اللوحات، وكأنني أستعرض بعض أفلام الفيديو لماض بعيد وشباب لن يعود، وطفولة مبكرة بريئة، وسهرات عائلية تضم العديد ممن أفتقدهم الآن ويستحيل اللقاء بهم في هذه الحياة الدنيا استحالة العودة إلى تلك الأيام الخالية.
وبعد أن عدت إلى واقعي، أسرعت لتسجيل ماخطر في ذهني من ألعاب لأحتفظ بها، فإنها تحمل ذكريات جميلة. ثم نظرت فيها متفحصاً فوجدت ألعاباً كنت أمارسها مع زملاء المدرسة، وأخرى كنا نلعبها في الحي. وألعاباً كنت أجلس لألعبها مع والدتي وأقربائي. ومنها ماكانت من رفاق الشباب. وهكذا كانت كل لعبة لسن معينة، وكان مع كل منها موقف ولوحة. وكم تمنيت لو أتقن فن الرسم لأجعل منها لوحات فنية رائعة.
بدأت أجمع ألعاباً أخرى من الأصدقاء والأقرباء، ومن هنا وهناك، فوجدت أنني كلما ذكرت لعبة، أسترسل الحاضرون مع ذكرياتهم في جلسة من نشوة الماضي، وأعدنا الحياة مرة ثانية إلى لوحة من تلك اللوحات ولو لساعات محدودة تبعث في نفوسنا النشوة والسرور المشوبان بالحسرة والأسى على ما فقدناه ولم نستطع توريثه لأبنائنا من ألعاب شعبية، لأن تيار الحضارة كان أقوى منا، وأتى على كل ما يبعث في نفوسنا الفرح والسعادة.
فأين الأطفال الذين يلعبون في الحارات (الدحل) و (الطمّيمة)؟ وأين الفتيات اللاتي يشكلن دوائر الدويحة ويقفزن أمام منازلهن وهن يلعبن لعبة الدوائر؟ وأين المقرعة التي كانت تضبط ألعاب الأمسيات العائلية؟
لقد ضاع كل ذلك واندثر ولم يبق له في الواقع أثر.
عندما خطر لي أن أخرج ماجمعته في كتاب، ولكن لم تتوفر لي القناعة الكاملة بجدية هذا العمل، إلا بعد أن وجدت فيه حلقة متممة لعدة كتب صدرت تتحدث عن مظاهر مختلفة لماضي دمشق القريب. فتتكامل الصورة الجميلة لمدينة دمشق العريقة الأصيلة التي يصعب عليها أن تنسى شيء من ماضيها أو تتنصل منه لتظهر بثوب حضاري جديد. ووجدت أن جميع هذه الألعاب يشكل مظهراً من مظاهر الحياة الاجتماعية. ويظهر مواقف ومحطات لمختلف مراحل حياة الفرد. ويعكس صورة لحياة المجتمع في النصف الأول من القرن العشرين. بل فيه وصف لجانب من جوانب الحياة التي لن يبقى لها ذكر إلا في الكتب. وبحصر الألعاب الشعبية التي كان يمارسها الناس أضيف لوناً جديداً إلى تلك الكتب والألوان التي ساهمت في إتمام لوحة خالدة اسمها : دمشق.
هذه الكتب تحاول أن ترمم لوحة فنية من الفسيفساء تسقط كل يوم قطعة من نقوشها.
تحاول أن تحافظ على نغم خالد رائع يضيع كل يوم جزء من ألحانه.
تحاول أن تجمع ذكريات جسم غض لفاتنة ساحرة اسمها الفيحاء، تذرف كل يوم دمعة حزن وأسى، وتصرخ كل يوم آهات الألم لبتر عضو من أعضائها الطبيعية والاستعاضة عنه بعضو اصطناعي يشوه جمالها.
ستبقى قصائد الشعراء الذين تغنوا بدمشق وغوطتها ذكرى للتاريخ بعد أن ابتلعت الحضارة قسماً من هذه الغوطة.
وستبقى الكتب التي تتحدث عنها وعن ماضيها مصادر توثيق لما يصف الواصفون ويكتب الأدباء ويؤرخ المؤرخون ويتغنى المعجبون. وإن كنا أمام التطور الحضاري الجارف لانستطيع أن نحتفظ لدمشق بواقعها القديم، فمن واجبنا حفظه في الكتب واللوحات والأفلام ليبقى ذكرى لأجيالنا.
وسيكون كتابي هذا أحد الكتب التي تستطيع الرد على تساؤلات ابن دمشق وكل سائل في المستقبل القريب، وبعد أن تثبت الحضارة المادية الغربية في كل مكان، ويصبح الإنسان آلة تسعى وتعمل دون توقف ، وبعد أن تصبح الحياة تتطلب السعي الحثيث لتأمين ضرورات الحياة الحديثة ولاهدف سواها. سيتساءل: كيف كان يعيش أباؤنا وأجدادنا بدون فيديو وتلفزيون وكمبيوتر ورجل آلي، وما سيأتي به العلم والعلماء من جديد؟.. وربما تخيل أبناء المستقبل القريب حياة أجدادهم كما نتخيل نحن اليوم حياة رجال العصور القديمة!..
ولئن تساءل طفل اليوم تلك التساؤلات فقد يجد من يجيبه، أما طفل الغد فلن يجد جواباً إلا في بطون التي ربما تصبح بالنسبة له كتباً يتندر لشكلها وإخراجها وطباعتها. وستقول الكتب لتلك الأجيال: كان الآباء والأجداد يعيشون حياة هادئة هنيئة في أسر متماسكة, وكان البيت الشامي الواحد يضم الأسرة بكاملها الآباء والأبناء والأحفاد وتجمعهم الألفة والمحبة، ويسودهم الطاعة والاحترام. احترام الابن لأبيه، والحفيد لجده. كان الحي كتلة واحدة متراحمة يسوه الحب والمودة والتعاون, كان للأولاد ألعابهم، وللشباب مرحهم، وللأسرة سهراتها ولياليها. وكان يتوفر لهم الوقت مايرفهون به عن أنفسهم، ويجددون نشاطهم متكاملين في تعاونهم. فزعيم الحي قاضيهم لحل مشاكلهم ومنازعاتهم، وإمام المسجد مفتيهم ومرجعهم الديني، وحلاق الحارة مركز الإعلام ووكالة الأخبار، عنده أخبار الحي بأبنائه وأبناء الأحياء المجاورة. والمسنون من الأجداد، مذياع ذلك الزمان، يسردون على الأولاد والأحفاد القصص والحكايات. والحكواتي مركز التقاء الرجال مساء في المقهى يقص عليهم أخبار البطولات بأسلوب شائق جذاب. أما شاشة خيال الظل فهي تلفزيون ذلك الزمان... آه يازمان. رحم الله تلك الأيام بكل مظاهرها الاجتماعية الجميلة التي نودع نحن أبناء هذا الجيل كل يوم مظهراً منها.
ولإصدار هذا الكتاب استجمعت الأفكار، وغصت في باطن الذكريات، واستمزجت الآراء. واستعنت بهذا وذلك للتأكد من فكرة، والاستفسار عن لعبة. وقصدت بعض الأصحاب في الأحياء القديمة لاستكمال ما فاتني مما أجمع. ووجدت بعض ما فاتني في كتب الفولكلور المتوفرة بين يدي. وبعد أن حصرت ما استطعت من الألعاب التي كان يمارسها أبناء دمشق منذ مطلع هذا القرن وأردت تصنيفها، وجدت صعوبة لأن منها ماهو للأطفال والشباب والرجال وبعضها تتناسب مع ميول الإناث والذكور، كما أن لكل مجموعة ألعاب طابع خاص وتمارس بظرف معين، وبعضها تحتاج لأدوات. كما أن منها ألعاباً هادفة وأخرى غير هادفة، وهذه يلعبها الأميون وتلك لابد لممارستها بعض الثقافة، وكلها تتداخل بشكل يصعب معه تصنيفها في زمر متميزة عن بعضها تماماً. فآثرت أن أعرضها حسب تسلسل الأعمار والجنس قدر الإمكان.
كما مسميات بعض الألعاب والعبارات التي يرددها اللاعبون تحوي ألفاظاً عامية يمكن التعبير عنها بالفصحى، فعمدت إلى ذلك، وأحياناً يصعب هذا فحافظت على الألفاظ والكلمات كما كانت شائعة في وقتها.
وربما أغفلت ذكر بعض الألعاب فذلك لصعوبة التعبير عنها أو لأنها معروفة على نطاق ضيق جداً في بعض الأحياء، أو أنه لم تتخذ طابعاً شعبياً، ولاشك أنه غاب عني ألعاب لم أستطع التعرف عليها.
وسيجد القارئ المخضرم متعة كبيرة عند قراءة هذا الكتاب، واستعراض الألعاب لما تحمله معها من ذكريات. وأرجو أن يجد الجيل الصاعد فيها مصدراً للترفيه والتسلية تعود به إلى الماضي القريب.
وفي ختام مقدمتي أتوجه بالشكر الجزيل لكل من ساهم في إخراج هذا العمل المتواضع الذي أرجو أن أكون موفقاً في إنجازه. ولما كان الهدف استكمال المعلومات الخاصة بمدينة دمشق أرجو إسداء كل نصيحة وملاحظة تساعد في إتمام هذا العمل والله ولي التوفيق.
دمشق، 1/8/1987م ماجد اللحام
ساحة النقاش