مقال رائع سيادة الأب جورج ، لكن المقصود في القول أن الدين " الاسلام بشرائعة المحمدية أو العيسوية أو الموسوية" صالح لكل زمان ومكان ، هو: أن في هذا الدين الحلول المناسبة للمشاكل التي يواجهها الانسان في مسيرة حياته في هذه الدنيا وفق ما هو أصلح له تقديرا من الله خالقه سبحانه وتعالى وفق مجموعة من القيم الناظمة للسلوك البشري وهي الاسمى للانسان لو تفكرنا بها بشكل دقيق ، وليس المقصود والمطلوب بهذا القول التجمد في مسيرة حياة الانسان شكلا ومضمونا للعيش كما هي حياة الانسان في العصور الغابرة... ، والله أعلم ، وشكرا لكم على هذا الطرح ،ووفقفكم الله لما فيه خير البشرية... .
الأب د. جورج مسّوح:
كلّ الديانات العالميّة، وبخاصّة المسيحيّة والإسلام، تزعم بأنّها منذ نشوئها إلى انقضاء العالم، صالحة لكلّ زمان ومكان. فإذا سلّمنا جدلاً بصحّة هذه الصلاحيّة التي تسمو على كلّ الأزمنة والأمكنة، فهل على التاريخ أن يوقف عجلته كي يبقى منسجمًا مع أحكام الديانة السائدة وتعاليمها، أم على الديانة المعنيّة أن تجتهد لتواكب تقدّم التاريخ وتطوّره؟
هذا المأزق عاشته المسيحيّة قديمًا حيث حاولت إيقاف عجلة التاريخ عبر تصدّي الكنيسة في القرون الوسطى خصوصًا لمعظم منتجات العقل البشريّ، فاضطهدت العلماء الذين، وفق ضيق أفقها، قد خالفوا باكتشافاتهم العلميّة الوحي الموجود في الكتاب المقدّس، فاعتبرتهم هراطقة يستحقون النفي والجلد والقتل... ولم تتحرّر المسيحيّة من هذا المأزق إلاّ حين نُزعت السلطة من قادة الكنيسة، ودخلنا في الحداثة من باب الفصل ما بين السلطتين الزمنيّة والدينيّة.
يسعنا القول، إذًا، إنّ العلمانيّة قد أسهمت في تحرير الكنيسة من السلطة الغاشمة التي كانت تحاول إبقاء الجمود مسيطرًا على الحياة بميادينها كافّة. فالمسيحيّة أدركت، على مضض، وبدون رضًى كامل من قادتها، أنّ الخروج من المأزق قاعدته احترام الحرّيّات العامّة وحقوق الإنسان الأساسيّة، والقبول بمواكبة حركة التاريخ والاجتهاد في سبيل شهادة أفضل في عالم متغيّر، وسريعًا متغيّر. وهذا تطلّب كي يتحقّق زمانًا غير يسير، مخاضًا استمرّ قرونًا عدّة.
أمّا الموقف الإسلاميّ من هذا المأزق فيمكننا إيجازه بالإشارة إلى موقف المفكّرين المسلمين في القرن التاسع عشر إزاء الفصل في الغرب ما بين السلطتين الزمنيّة والدينيّة، هؤلاء المفكّرين الذين اعتبروا أنّ الديانة المسيحيّة هي ديانة غير عقلانيّة وعدوّة للعقل لذلك كان الفصل بين السلطتين المدخل الحصريّ للتقدّم في أوروبا، بينما الإسلام هو الدين الذي يقتضيه العقل، لذلك يتوجّب على المسلمين، إذا أرادو التقدّم والتطوّر، العودة إلى الإسلام، دينًا ودولةً، والعودة إلى دولة الخلافة.
ما شهدناه خلال القرنين المنصرمين، وما زلنا نحياه إلى اليوم، يجعلنا نستنتج أنّ الموقف الإسلاميّ الداعي إلى إقامة دولة دينيّة وإلى اعتماد الشريعة الإسلاميّة دستورًا لهذه الدولة إنّما هو موقف مكابر يقف في وجه حركة التاريخ والعلم والتطورّ والتقدّم والحرّية. فإذا كانت مقولة "الإسلام يصلح لكلّ زمان ومكان" تعني أن تحيا شعوب الأرض كافّة في القرن الراهن كما عاش أبناء الجزيرة العربيّة في القرن السابع الميلاديّ، فذلك لن ينجح ولن يثمر سوى مزيد من الخراب دينًا ودنيا. أمّا إذا كانت مقولة "الإسلام يصلح لكلّ زمان ومكان" تعني السعي إلى الاجتهاد كي يكون الإسلام دينًا يليق بالقرن الحادي والعشرين كما كان يليق بالقرن السابع، فذلك هو المستحسن والممدوح.
لقد أجمع المفكّرون المسلمون على القول بأنّ الإصلاح الإسلاميّ يبدأ بالتمييز ما بين الجوهريّ وغير المتغيّر في الدين، وبين غير الجوهريّ والمتغيّر فيه. مشكلتنا في شرقنا البائس أنّ الداعين إلى الحلّ الدينيّ ما زالوا يرفعون من شأن القشور على حساب الجوهر. أمّا نحن، مسلمون ومسيحيّون ولا أدريّون وملحدون معًا، فمتشبّثون بخيار الدولة المدنيّة غير الدينيّة وغير الطائفيّة مدخلاً لا بدّ منه لتحقيق إنسانيّتنا المستهدَفة في الصميم.