تصميم برامج تدريب الدماغ تتجه لتصبح صناعة واسعة الانتشار 

إدارة العواطف أو القدرة على تقبل المشاعر السلبية وتصريفها كما يجب هي إحدى نقاط ضعف الشخصية الأكثر انتشاراً، لدرجة أن هناك من يشبهها بـ»كعب أخيل» في إشارة إلى حجم تأثيرها على الشخص، إذ من شأن الفشل في إدارة العواطف والمشاعر أن يُطيح بالإنسان مهما علا برجه العاجي، وينسف كل جوانب القوة الأخرى التي يتمتع بها. ولعل أكثر من يعانون العجز عن إدارة العواطف هم أولئك المصابين باضطرابات ذات صلة بالقلق واضطرابات الأكل، علاوة على اضطرابات الشخصية. ويحتاج كل واحد من هؤلاء عادة إلى سنوات من العلاج النفسي لتقوية قدراته على تنظيم عواطفه وتصريفها في القنوات اللازمة. لكن الأمر قد يتطلب أسابيع معدودة من تدريب الدماغ على شحذ الذاكرة على المدى القصير وزيادة فعالية الذاكرة العاملة، وفق دراسة حديثة نُشرت في العدد الأخير من دورية «علم الأعصاب».

يبدو أن دارة الدماغ المسؤولة عن تنظيم العواطف تتقاطع على مساحة شاسعة مع شبكة بنيات الدماغ التي تتحكم في نشاط الذاكرة قصيرة الأمد، أي القدرة على استحضار ثلاثة أشياء أو أكثر في الذاكرة لمدة دقيقة أو اثنتين. وهذه الذاكرة التي يُصطلح عليها «الذاكرة العاملة» هي التي تُساعدنا على تذكر محتويات قائمة التسوق أو أرقام هاتف بعض أفراد الأسرة أو حل مسألة رياضية في الرأس دون الاستعانة بآلة حاسبة أو ورقة وقلم.

وسواءً كنا نحاول احتواء غضبنا حتى لا ننفجر في وجه رئيس عمل يُرغد ويُزبد في اجتماع ما دون وجه حق، أو لتذكر تسلسل أسماء الشوارع واللفات المتجهة يمين يسار، فإن الدائرة العصبية التي تغطي المنطقة الممتدة من الناصية إلى العظم الجداري للجمجمة لا تعمل بسهولة. وعندما تنبعث منها إشارات كهربية، فإنها تسري بين مختلف أجزاء الفصوص الجبهية الواقعة خلف الناصية والفص الجداري الواقع في مؤخرة تاج الرأس.

 

مجال تجاري

 

يرى باحثون بريطانيون وكنديون أن تمارين تقوية إحدى مهارات الذاكرة العاملة قد تُحسن قدرة الشخص على الإدارة الذاتية لعواطفه. وتأتي هذه الدراسة في الوقت الذي أصبح فيه تدريب الدماغ يتجه ليُصبح مجالاً تجارياً واعداً ذا أهمية متزايدة.

ومع تضافر جهود علماء الأعصاب ومصممي الألعاب لتطوير برامج جديدة لتحدي الدماغ وتنظيم حملات تسويق وترويج متكاملة لهذه البرامج، يُتوقع أن يرتفع إنفاق الأميركيين وحدهم على ألعاب تدريب الدماغ من 175 مليون دولار سنة 2012 إلى 600 مليون دولار بحلول عام 2020، وذلك بحسب موقع «SharpBrains.com»، المتخصص في تعقب نشاطات سوق برامج تدريب الدماغ.

وبالرغم من أن بضعة برامج تدريب الدماغ، بما فيها تلك التي صممتها شركتا «كوجميد» و»ليموزيتي»، خضعت لاختبارات وتجارب سريرية، فإن العديد منها يقدم فوائد مشكوكاً فيها. غير أن السؤال الذي يظل مطروحاً، حتى بالنسبة للبرامج التي تم التحقق من قدرتها على تحسين أداء المهارات الإدراكية، هو «هل يُترجم تحسين هذه المهارات إلى إنسان أذكى وسلوك أكثر قابلية للتكيف مع تقلبات الحياة اليومية؟»

لعبة عاطفية

لاكتشاف مدى إمكانية تمارين دماغ من هذا النوع أن تُحسن الأداء في المجالات الإدراكية للذاكرة العاملة والإدارة العاطفية، قام باحثون بتكييف برنامج تدريب للدماغ على مستوى الذاكرة العاملة حتى يكون هذا البرنامج مشتملاً على محتوى عاطفي. وفي اختبار للذاكرة العاملة يُصطلح عليه «n-back»، عرض الباحثون على طالبة سلسلة صور قيل لها إنها قد تحوي حروفاً أو أرقاماً أو ألواناً أو غيرها. وكلما كانت هذه الطالبة تمضي قدماً في التعرف إلى سلسلة الصور، كان يُطلب منها أن تتذكر صورة سبق لها أن رأتها ضمن السلسلة، وذلك حتى تعود بذاكرتها خطوتين أو ثلاثاً إلى الوراء. ومع الممارسة والتدريب، أصبحت هذه الطالبة أفضل وأكثر قدرة على تذكر أشياء أبعد في سلسلة الصور.

وكانت هذه اللعبة العاطفية «n-back» التي صممها الباحثون تحتوي على سلسلة واسعة من وجوه ملتوية تحمل تعابير عاطفية مختلفة. واستخدمها الباحثون لتحدي 17 مشاركاً، إذ طلبوا من كل واحد منهم قضاء ما بين 20 إلى 30 دقيقة كل يوم، ولمدة 20 يوماً متواصلة في لعب هذه اللعبة. وبالتوازي مع هذا، طلب الباحثون من 15 مشاركاً آخر لعب لعبة تدريب دماغ وهمية يُطلب فيها من لاعبها القيام بأشياء بسيطة جداً لا تتطلب من ذاكرته العاملة إلا جهداً أدنى، ولا يمكن أبداً التعويل عليها لتقوية مهاراته الإدراكية على مستوى الذاكرة.

وكان الباحثون قاموا بفحص وتخطيط أدمغة المشاركين أثناء انشغالهم بأداء سلسلة مهام ذات صلة بإدارة العواطف في بداية الدراسة، ثم عقب مرور 20 يوماً على ممارستهم اللعبة، وأيضاً بعد انقضاء فترة العشرين يوماً وعودتهم إلى الباحثين، مع الحرص على أن يكون ذلك خلال انهماك المشاركين في أداء مهام عاطفية وإدراكية.

نتائج واعدة

تبين للباحثين في نهاية الدراسة أن المشاركين الذين قضوا الوقت في تحسين مهارات ذاكراتهم العاملة أصبحوا أفضل على مستوى الإدارة العاطفية. أما المشاركين الآخرين الذين مارسوا لعبة تدريب دماغ وهمية، فلم يظهر على أدائهم أي تحسن أو تقدم طوال العشرين يوماً التي قضوها في ممارسة تلك اللعبة. ولاحظ الباحثون أن معظم المشاركين في برنامج تدريب الدماغ حققوا تحسناً ملحوظاً في إدارة عواطفهم، لكنهم أرادوا التركيز بالتحديد على مدى تطور ذاكراتهم العاملة في أداء مهامها مع التدريب.

وخلال إجرائهم فحوص تخطيط نشاط الدماغ، سجل الباحثون أن نشاط دارة الدماغ الممتدة ما بين الناصية إلى الجدار العظمي كان أعلى بكثير على مستوى أداء مهام إدارة العواطف وحسن تصريفها لدى متدربي المجموعة الأولى، مقارنة بمتدربي المجموعة الثانية الذين صُممت لهم لعبة تدريب دماغ وهمية.

وخَلُص الباحثون في نهاية دراستهم إلى أنه إذا كانت برامج تدريب الدماغ لديها آثار إيجابية أفضل بكثير من دروس برامج الحاسوب وبرمجياته التي يتلقاها الطلبة في صفوفهم الدراسية، فإنه سيتعين على علماء الأعصاب أن يتعرفوا أولاً إلى مهارات الحياة التي يتم فيها تشارُك الدارة العصبية مع المهارات الإدراكية الأضيق نطاقاً، والقابلة للتقوية عبر التداريب والتمارين المتكررة. فهذه ستكون أول خطوة إلى الأمام يُطلب من علماء الأعصاب القيام بها.

ويقول الرئيس التنفيذي لموقع «SharpBrains.com»، ألفارو فيرنانديز، «تدريب الذاكرة العاملة يتجه ليصبح عنصراً أساسياً ضمن جهود واسعة لتحسين الإدارة الذاتية للعواطف وتطوير الأداء الأكاديمي لدى المجموعات الهشة عاطفياً وإدراكياً». ويضيف «ما نحتاجه في الوقت الراهن هو إيجاد طرق أفضل لإفادة الطلبة المستهدفين من مثل هذه البرامج، مع الحرص طبعاً على أن يتم ذلك بشكل منهجي وداعم لكل طالب وطالبة».

هشام أحناش

عن «لوس أنجلوس تايمز»

الذاكرة العاملة

هي نظام في الدماغ يعمل على تخزين معلومات انتقالية متعددة في الذهن تمهيداً لمعالجتها. وهذا يشمل تنفيذ المهام الشفهية وغير الشفهية، مثل مَنْطَقَة الأشياء واستيعابها، وجعلها متاحة من أجل إتمام معالجتها. وتختلف الذاكرة العاملة عن الذاكرة قصيرة الأمد. فمهام الذاكرة العاملة تتطلب معالجة المعلومات أو السلوكات كجزء من إتمام أفعال تبتغي تحقيق هدف ما، في سياق تتواتر فيه التدخلات وعناصر الإلهاء. ومن العمليات المطلوب توافرها لتفعيل الذاكرة العاملة مراقبة جانب الانتباه وجانب التنفيذ في الذاكرة قصيرة الأمد، والتي تسمح بالإدماج المرحلي الانتقالي للمعلومة، ومعالجتها واستعادتها أو التخلص منها. وتتفاوت حساسية هذه العمليات بحسب العمر. فالذاكرة العاملة وثيقة الصلة باللياقة الإدراكية، وأداؤها يتراجع مع التقدم في السن. ويُعد مصطلح الذاكرة العاملة مفهوماً نظرياً مركزياً بالنسبة لعلم النفس الإدراكي وعلم الأعصاب. كما أن غالبية دراسات علم الأعصاب تشير إلى وجود علاقة بين الذاكرة العاملة وعمليتي التعلم والانتباه. ويعتبر العلماء أن الفص الجبهي والفص الجداري والمنطقة الطوقية الأمامية اليسرى وأجزاء من العقد القاعدية تلعب دوراً أساسياً في نشاط الذاكرة العاملة.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 169 مشاهدة
نشرت فى 26 مارس 2013 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,276,391