ادَّعى بعض الحكماء في القديم أنَّ كل امرئ - في حقيقته - مستتر ومختبئ تحت طي لسانه؛ (أي: مقاله وكلماته) لا تحت طيلسانه؛ (أي: ثيابه وما يقوم مقامها)، فحقيقة المرء - كما يزعمون - تكمن في أثناء كلماته وتعبيراته، والباحث الحصيف عنها ينبغي ألا تخدعه تلك الصور والمظاهر الأخرى التي يستتر بها المرء عن الآخرين حقيقة أو مجازًا.
لعل بعضَ الجوانب من ذات الكاتب وحقيقة ما يكتب - قياسًا على الادعاء المذكور آنفًا - مخبوءة في ظلال ما يسطِّره من كلمات، وما يعرضه من أفكار وصور واستعارات وأخيلة، ولكن ما يدركه القُرَّاء عن ذات الكاتب يتفاوت ويختلف ويبتعد ويقترب، فهو مرهون بزاوية النظر وجهة التأمُّل وحال المتأمل، فالظلالُ - كما يعرف الجميع - تختلف في طولها واتجاهها وزمنها عن الأصل والشاخص، ومرجع ذلك دوران الأرض حول نفسها ورحلتها حول مصدر الضوء: الشمس.
إنَّ هذا الخلاف قديم ومتجدد بين فريقين يرى أحدهما استحالة استقامة ظل العود الأعوج، وفريق آخر يرى أن علّته من الفهم السقيم، ويستشهد لرأيه ببيت المتنبي:
فَمَنْ يَكُ ذَا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ*** يَجِدْ مُرًّا بِهِ الْمَاءَ الزُّلاَلاَ
النص واحد، والفهم متعدد، الكلمات محدودة القوالب والحروف، والمعاني ليس لها حدٌّ معروف، وشتان ما بين جمع الأرقام وطرحها وقسمتها، وبين جمع الكلمات وقسمة المعاني، وطرح الفكر، وضرب المثل، وكذلك فالبون شاسع بين فهمنا وتفحُّصنا لنص أدبي تخيلي حالم، منعتق من سجن المألوف، ومحلق في عوالم الإبداع، وفهمنا أو تفحصنا لآية قرآنية كريمة، وحديث نبوي شريف، وَفْقَ قواعدَ وأطر معلومة ومحددة من لسان العرب وأسباب النُّزول، والناسخ والمنسوخ وعلم الحديث والمصطلح والأصول.
يلحُّ السؤال ويعلو، وتشتد الرغبة وتغلو:ماذا يقصد الكاتب بالتحديد؟ ومن هو؟ وما مشربه؟ وما حقيقة ذاته؟
يتصدى للإجابة الكثير والكثير، ويثار النقع في الميدان.
ويتسابق الظنُّ الجازم المبني على الحكم المبيت مع حسن الظن المرتكز على أصل البراءة للمتهم.
هذا يشق عن قلب الكلمات وكبد المعاني، وآخر يقول: رويدًا وحنانيك، وهلا تأولت وأنزلت الأمور على أحسن وجه ومحمل.
يرفع الكل سبابة اللائم، ويجحظ بصر الاتهام: أنت متساهل ساذج ومخدوع، بل أنت قاسٍ وظالم ومتحامل.
ويتسلل صاحب الهوى والمكر إلى الميدان؛ لينفثَ سُمَّه، والكل منشغل عن العدو الحقيقي، وكلما زاد نفثه، كثُر الخلط، واضطربت الموازين.
وتقبل أصداء صيحة حكيمة من بعيد تقول: عيال الحرام لم يتركوا لعيال الحلال مدخلاً ولا حاجة، وتحول ذلك الزمن الأول.
تزداد الحيرة، ويقترب سكين اليأس، وفجأة ينقشع الظلام، وتشرق الشمس، وتأخذ بناصية الحائر والمحير يد عجوزٌ متوضئة، تضمُّه إلى صدرها الحاني، وتهمس بحب وصدق: بُنَيَّ وحبيبي، أنا لا أجيد دندنتك، ولا أفهم ولا أتقن اللعب بالكلمات وتمويه المصطلحات، ولكنني وجدت بعد هذا العمر الطويل راحة وطُمأنينة ورضا وسعادة، وجدت هذا الكنز؛ لأنني أوقن بأن السعادة - كل السعادة - في الصدق مع الله ومع النفس والخلق، ولن تحتار في الاهتداء إلى الصدق، فله نور في القلب والوجه والكلمات والدرب.
المصدر: منتديات حبة البركة
نشرت فى 25 مارس 2013
بواسطة alsanmeen
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,305,342
ساحة النقاش