حتى الآن لم يُعرف على وجه اليقين ما الذي جعل رئيس الائتلاف السوري الشيخ معاذ الخطيب يفاجئ الشعب السوري والمعارضة السورية ومعظم المتابعين لهذا الأمر عربا وعجما وروسا وأميركيين، بـ«مبادرة» فتح أبواب الحوار مع نظام بشار الأسد بشروط غير واضحة المعالم وهي بحاجة إلى «بصارة» وضاربة ودعٍ لتقول ما المقصود ولتحدد ما فرص النجاح ولتتكهن بمن سيكون الرابح ومن سيكون الخاسر في النهاية. لا يجوز التشكيك في وطنية الشيخ معاذ الخطيب ولا في صدق نواياه ولا في أبعاد دوافعه، لكن في العمل السياسي، وبخاصة بالنسبة لقضية أصبحت على كل هذا المستوى من التشابك والتعقيد والصراع الدولي والإقليمي.. لا يجوز الركون إطلاقا إلى صدق النوايا وطيبة القلب، وتحديدا عندما يكون الخصم هو هذا النظام الذي لا قلبه طيب ولا نواياه صادقة والذي ارتكب كل هذه الجرائم التي ارتكبها ولا يزال يرتكبها على مدى نحو عامين غاص خلالهما في دماء شعبه حتى الركب. لو أن الشيخ معاذ الخطيب قد بادر إلى هذه «المبادرة» انطلاقا من الحيثيات التي ذكرها ومن بينها أن الشعب السوري لم يعد قادرا على المزيد من الاحتمال، وأن الدول الكبرى ليس لديها أي تصور لحل هذه الأزمة، لكان عليه أن يناقش هذه الخطوة الخطيرة فعلا مع زملائه في الائتلاف الذي يرأسه، ومع «المجلس الوطني» الذي يشكل العمود الفقري لهذا الائتلاف، وأيضا مع الدول العربية المعنية، ومع الدول الأوروبية الصديقة، ومع الولايات المتحدة.. أما أن يبدو وكأنه متفرد في رأيه، وأنا لا أعتقد أنه كذلك، فإن هذا هو ما جعل ردات فعل بعض رفاقه، الذين يسيرون معه على هذا الطريق الصعب، تأتي على كل هذا النحو من الحدة والعنف و«الاتهامية»!! ربما، ومع أن بعض الظن إثم، أن هذه «الطبخة» المُرة كانت نتيجة تشاور هذا الشيخ الجليل، الذي لا يحق لأي كان أن يمس بوطنيته أو يشكك في صدق نواياه ونقاء سريرته، مع الإخوان المسلمين (السوريين) الذين بقيت فكرة طرق أبواب التفاوض مع هذا النظام والتحاور معه تطرح عليهم منذ البدايات. وحقيقة أنهم بقوا يرفضون هذا رفضا مطلقا وبخاصة بعدما حول بشار الأسد بتصرفاته الطائشة الرعناء مطالبات إصلاحية سلمية إلى مواجهات عنيفة ما لبثت أن تحولت إلى كل هذه الحرب الطاحنة المحتدمة الآن التي تغطي الجغرافيا السورية وخلفت كل هذا الدمار والخراب. وربما، ومع أن بعض الظن إثم أيضا، أن «إخوان» سوريا، هداهم الله، قد تشاوروا مع أقرب «الأصدقاء» إليهم من الدول العربية وأن هؤلاء بادروا إلى إعطائهم «الضوء الأخضر» لأسباب بعضها يتعلق بمستجدات الواقع السوري لجهة هذا النظام، الذي يبدو أنه كلما ازدادت الأمور تعقيدا، ازداد هو تمترسا في خنادقه وتمسكا بمواقفه واستشراسا بعدوانيته، وبعضها الآخر يتعلق ببعض التأثيرات العربية في المسألة السورية ويتعلق أيضا بما بين روسيا والولايات المتحدة من أمور مخفية تجاه هذه المنطقة ومستقبلها وتجاه موازين القوى العالمية والعالم الأحادي القطبية والمتعدد الأقطاب. وحقيقة - ومع أخذ كل هذه الأمور بعين الاعتبار، ولكن مع الحرص الشديد على عدم الأخذ بها على أنها مسلمات تُبنى عليها مواقف سياسية - فإنه من المستبعد جدا أن يكون وراء «مبادرة» الشيخ معاذ الخطيب اتفاق أميركي - روسي كامل متكامل، فهذا غير وارد على الإطلاق؛ إذ إن الروس حتى الآن ما زالوا يخيطون بمسلة غير المسلة التي يخيط بها الأميركيون. وإنه غير صحيح كل ما يقال عن أن لافروف ومجموعته، وعلى رأس هؤلاء جميعا فلاديمير بوتين، أصبحوا أكثر اعتدالا وأنهم باتوا أقرب إلى مواقف الذين يرون أنه لا حل لهذه الأزمة السورية المستفحلة، إلا بالتوافق على رحيل بشار الأسد ومجموعته العسكرية والأمنية الحاكمة وبالتوافق أيضا على عدم انهيار الدولة السورية بوصفها دولة. فانسحاب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ومغادرة ميونيخ، بعدما التقى الشيخ معاذ الخطيب وبعدما ناقشه بالتأكيد في حيثيات مبادرته هذه، من دون قول ولا كلمة واحدة حول هذا المُستجد المهم جدا، يدل على أن الروس ما زالوا على موقفهم القائل إن بقاء بشار الأسد في المرحلة الانتقالية التي يجري الحديث عنها غير قابل للنقاش وإنه لا بد من أن ينهي «ولايته» الحالية ويترشح لولاية جديدة إن هو أراد ذلك، ثم إن الصلاحيات المقترحة التي ستتمتع بها الحكومة الوطنية قيد التداول مرفوض جدا أن تشمل القرارات المتعلقة بالقوات المسلحة والأجهزة الأمنية. ولهذا، وما دام أن هذا هو واقع الحال، فإن الخوف كل الخوف أن تأخذ «مبادرة» الشيخ معاذ الخطيب - حتى وإن كان الأميركيون والروس ومعهم بعض «الأشقاء»!! العرب قد أشعروه برضاهم عنها وترحيبهم بها - سوريا إلى أزمة أخطر كثيرا من المأزق الذي تمر بها حاليا، وبخاصة إذا أدى تضارب المواقف حول هذه المبادرة إلى المزيد من الصراع الدولي والإقليمي على الساحة السورية وإلى المزيد من انقسامات المعارضة السورية علاوة على انقساماتها الحالية التي هي لا جائزة ولا مبررة. وإزاء هذا كله، فإن المؤكد أن الشيخ معاذ الخطيب يعرف تمام المعرفة - هذا إذا كان فعلا قد طرح مبادرته هذه من قبيل المناورة - أن بشار الأسد، ولأنه يدرك ويعرف أن الخيارات المطروحة عليه لحل هذه الأزمة حلا سلميا ومن خلال الحوار والتفاوض، كل واحد منها أمرّ من الآخر، سيبقى يسير على هذا الطريق الذي وضع أقدامه عليه منذ أن اختار العنف والحلول الأمنية والعسكرية لمواجهة شعبية مطالبات عادلة كان المفترض أن يتعاطى معها إيجابيا وبالوسائل السلمية. إن المعروف أن بشار الأسد، وفقا لنصائح المحيطين به من أقارب وأبناء خؤولة وعمومة ووفقا لآراء الإيرانيين والروس، قد اتبع ومنذ اللحظة الأولى درس المجازر التي ارتكبها والده في حماه في مثل هذا الشهر؛ فبراير (شباط) عام 1982، فهؤلاء أقنعوه، وحقيقة فإن ثقافته أصلا هي هذه الثقافة الدموية، بأن الشعب السوري لا يفهم إلا العنف والقوة، ولهذا فإن مجزرة حماه هذه قد جعلته يبقى مستسلما وصامتا لأكثر من ثلاثين عاما. وبالطبع، فإن هذا غير صحيح وعلى الإطلاق، ولذلك فإن المؤكد أنه، أي الرئيس السوري، حتى وإن قُدمت إليه ألف مبادرة كهذه المبادرة، فإنه سيبقى متمسكا بدرس ما فعله أبوه بمدينة حماه، وإنه سيبقى يراهن على أن الشعب السوري في النهاية سيسأم هذه الأوضاع الصعبة التي بات يعيشها وأنه سيفقد الأمل وسيعلن الاستسلام ليسود الهدوء الطويل الذي سيمكنه من أن يورث لابنه «حافظ» الصغير ما أورثه أبوه له بعد وفاته في عام 2000. ثم حتى وإن كانت هذه المبادرة تنص نصا صريحا على أن التفاوض المقترح يجب أن يكون على رحيل بشار الأسد، فإنها في حقيقة الأمر بعدم تماسكها وبعدم وضوحها وبعدم اقترانها لا بجدول زمني ولا بضمانات دولية، لا يمكن أن تكون إلا مجرد قفزة في الهواء لم يفهمها نظام بشار الأسد إلا على أنها دليل على أنه قد أصاب الشعب السوري ما كان أصابه بعد مذابح حماه في عام 1982. وبالتالي فإنه لا بد من المزيد من العنف والقتل ليصل هذا الشعب إلى حالة الإحباط والاستسلام الكامل، وهنا فإنه يبدو، بل إنه المؤكد، أن هذه هي وجهة نظر الروس، وأن هذا هو رأي حكام إيران. |
ساحة النقاش