تحدث أحدهم، وكان يتلقى الأدب على «المبرد»، فقال: خرجت ذات مساء، بعد أن انتهى الدرس من بيت المبرد فرأيت إنساناً أشعث، في أسمال بالية، ولما أن كدت أتجاوزه، أومأ إليَّ وبادرني بقوله.. «أنت تلميذ المبرد»، وإنني أعلم أنه عقب إلقاء درسه اليومي، يختتم حديثه ببيتين من الشعر، فماذا كانا اليوم؟ فقلت بسرعة لأتخلص منه.
لقد ختم حديثه بهذين البيتين:
أعار الغيثَ نائلــــــــــــــــه إذا مــــــــا ماؤه نَفِدا
وإن أسد شكا جُبنا أعار فؤاده الأسدا
وما إن انتهيت، حتى أسرع هذا بقوله:
لو أعار نائله للغيث، لأصبح بلا نائل، أي بخيل
ولو أعار الأسد فؤاده، لأصبح بلا فؤاد، فهل هذا مديح أم هجاء؟
فدهشت وقلت: «إذاً ماذا كان يقول؟» وكنت أريد إحراجه، فأجاب بعد تمعن وببطء:
علم الغيث الندى حتـــى إذا ما وعاه علم البأس الأسد
فإذا الغيث مقرٌّ بالكــــــرم وإذا الليـــث مقرٌّ بالجلد
وتركني مشدوهاً ومشى..
كان كسرى أنو شروان أشهر ملوك الفرس وأعدلهم وأحسنهم سيرة، وأحبَّهم إلى قلوب الرعايا.
وكان على عهده رجل حكيم يقول للناس: من يشتري ثلاث كلمات بألف دينار؟ فلم يأته منهم أحد. فلما سمع به كسرى أحضره وسأله عنها، فقال: ليس في الناس خير.
قال كسرى: هذا صحيح، ثم ماذا؟ قال: ولكن لا بد للناس من الناس.
قال: صدقت، ثم ماذا؟ فإن خالطْتَهُم فخالِطهُم على قدر ذلك.
قال كسرى: أحسنت يا هذا! هَاكَ الألف دينار. قال الرجل: لا حاجة لي بها، وإنما أردتُ أن أعرف هل بقي في الدنيا من يشتري الحكمة بالمال.
أبو العلاء المعري:
لا تفرَحنّ بفـــــألٍ، إنْ سمعـــتَ به
ولا تَطَيّرْ، إذا مـــــا ناعــِبٌ نعبـــــا
فالخطبُ أفظــــعُ من ســرّاءَ تأمُلها
والأمـــــــرُ أيسرُ من أن تُضْمِرَ الرُّعُبا
إذا تفكّرتَ فكــــراً، لا يمازِجــــــــُهُ
فسادُ عقلٍ صحيحٍ، هـــان ما صعبُا
فاللُّبُّ إن صَحّ أعطى النفس فَترتها
حتى تموت، وسمّى جِدّهــــا لَعبِــــا
وما الغواني الغوادي، في ملاعِبهــــا
إلاّ خيالاتُ وقـــــــتٍ، أشبهتْ لُعَبا
زيادَةُ الجِسمِ عَنّتْ جسمَ حاملـــــــه
إلى التّرابِ، وزادت حـــــافراً تَعَبــــا
ساحة النقاش