بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلى الله وسلم على خاتم الرسل والأنبياء، وعلى آله وصحبه الأصفياء وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم اللقاء. أمَّا بعد.. فإنَّ ديننا الحنيف وشريعتنا السمحة تقوم على مبدأ الحقوق والواجبات، فمن حق الله علينا أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، ومن حق العباد عليه تفضلاً منه ومنة أن يدخلهم الجنة. ورحم الله القائل:
ما للعبــاد عليه حق واجــب --- كـلا ولا سعـى لديه ضائـع إن عُذبوا فبعد له أو نعمــوا --- فبفضله وهو الكريم الواسع
كذلك من الرعية على الراعي –الوالي– أن يُحَكِّم فيهم شرع الله، وأن يحفظ حوزة الدين، ويقيم العدل، ويؤمِّن حق الطرق، ويسعى لمصالح الخلق، ومن حقه عليهم أن يطيعوه في المعروف، ويدعوا له، ويعينوه على القيام بالواجب. وكذلك الحياة الزوجية تقوم على مبدأ الحقوق والواجبات: "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ" (سورة البقرة: 228)، وهكذا. فالشيخ عليه واجبات نحو طلابه، أن يخلص لهم النصيحة، ويرشدهم لما فيه خيرهم، وأن يتدرج معهم في التعليم، وأن يصبر عليهم، ولا يميز بين فقير وغني وهكذا، وله حقوق على طلابه، وهي التي سنشير إليها في هذه العجالة. وقد قيل:
عَلِّم العلم لمن أتـاك لعلــم --- واغتنم ما حييت منه الدعاء وليكن عندك الفقير إذا ما --- طلب العلــم والغني ســواء
كل من تعلمتَ منه علماً أو صنعة فهو شيخك، ورحم الله الإمام الشافعي عندما رأى أعرابياً، فقال: هذا شيخي، فَتَعُجِّبَ من ذلك، فقال: تعلمت منه أن الكلب إذا بلغ وأراد أن يبول رفع رجله، أمَّا قبل ذلك فلا يرفع. رحم الله ابن منده عندما قيل له إن شُعْبَة قال: (من كتبتُ عنه حديثاً فأنا له عبد، قال هو: من كتب عنِّي حديثاً فأنا له عبد) (كتاب ذيل الطبقات لابن رجب الحنبلي جـ1/28). لاشك أن حقوق وواجبات كل من الشيخ والطالب على الآخر كثيرة، وسنشير إلى ما يسره الله، وهو ولي التوفيق.
العلم رحم بين أهله الرحم الذي بين أهل العلم مشايخ وطلاباً لا يقل عن الرحم الذي بين الأقارب وذوي الأرحام، ولهذا لابد من رعايته والاهتمام به، وأداء حق الرحم. فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا لكم مثل الوالد لولده" وفي لفظ: "بمنزلة الوالد – أعلكم" (أبو داود رقم [8]، وابن ماجه جـ1/131، والدارمي جـ1/172، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح جـ1/13). قال النووي رحمه الله في مقدمة (تهذيب الأسماء واللغات) عن أهمية تراجم العلماء: (إنهم أئمتنا وأسلافنا، كالوالدين لنا). وفي المجموع قال وهو يترجم لابن سُرَيج: (وهو أحد أجدادنا في سلسلة الفقه). وقال كذلك: (الشيوخ في العلم آباء في الدين، ووصلة بينه وبين رب العالمين، فكيف لا يقبح جهل الأنساب، والوصلة بينه وبين ربه الكريم الوهاب، مع أنه مأمور بالدعاء لهم، وبرهم، والثناء عليهم، والشكر لهم) (مواهب الجليل جـ1/8). ورحم الله القائل:
أفضِّل أستاذي على فضـل والدي --- وإن نالني من والدي المجـد والشرف فهذا مربي الروح والروح جوهر --- وذاك مربي الجسم والجسم كالصدف
قال الشيخ المقدم حفظه الله: (فبين العالم والمتعلم أبوة دينية)، قال تعالى: "النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ" (سورة الأحزاب: 6)، وفي قراءة أُبَيّ (وهو أب لهم) (حرمة أهل العلم للمقدم صـ199)، وهي قراءة شاذة يستفاد منها في التفسير. الصفات الثلاثة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفع به، أو ولد صالح يدعو له" (مسلم رقم [1631])، لا تجتمع إلاَّ للعالم إذا صلحت نيته، وتُقُبِّل عمله، فعلمه صدقة جارية له، وكل تلاميذه أبناء له، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
أولاً: الدعاء والاستغفار له بظهر الغيب، في حياته وبعد وفاته هذا من اوجب الواجبات، وأنفعها لكل منهما. فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلاَّ قال الملك: ولك بمثل" (مسلم رقم [2732]). وعنه كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل" (مسلم رقم [2733]). على كل من الشيخ والطالب أن لا يبخل بالدعاء للآخر، فما جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان وكما تدين تدان، وليس هنالك ما هو أحسن وأفضل لك ولشيخك من الدعاء بالصلاح وبحسن الختام وبالعافية والاستغفار في الحياة وبعد الممات إن لم يكن في ذلك إلاَّ التشبه بالرجال الأخيار وبالأئمة الكبار لكفى أمثال أبي حنيفة وأحمد وغيرهما من سلف هذه الأمة. • قال أبو حنيفة رحمه الله: (ما صليت صلاة منذ مات حماد –بن أبي سليمان، شيخه– إلاَّ استغفرت له مع والديَّ، وإني لاستغفر لمن تعلمت منه علماً أو علمته علماً) (تهذيب الأسماء واللغات للنووي جـ2/218). • وقال أبو يوسف القاضي، تلميذ أبي حنيفة رحمهما الله: (إني لأدعو لأبي حنيفة قبل أبويَّ، وسمعت أبا حنيفة يقول: إني لأدعو لحماد مع والديَّ) (المصدر السابق جـ2/219). • وقال أحمد بن حنبل عن شيخه واستاذه الشافعي رحمهما الله: (الشافعي من أحباب قلبي، وقد باينا وبيناه، ما رأينا منه إلاَّ خيراً وكان شديد الاتباع للسنن) (طبقات الحنابلة لأبي يعلى جـ2/289، وكان يدعو له وقت السحر مع والديه). • قال عبدالله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: (أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟، فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر! هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض) (السير جـ10/45).
كان الشافعي يبادل أحمد الحب والتقدير والإجلال فقال فيه: قالوا: يزورك أحمد وتزوره --- قلت: الفضائـل ما تعدت منزلـه إنْ زارني فبفضله أو زرتـه --- فلفضله، فالفضل في الحالين له
• قالت أم الدرداء: (كان لأبي الدرداء ستون وثلاثمائة خليل في الله، يدعو لهم في الصلاة، فقلت له في ذلك، فقال: إنه ليس برجل يدعو لأخيه إلاَّ وكَّل الله به ملكين يقولان: ولك بمثل، أفلا أرغب أن تدعو لي الملائكة) (السير جـ2/351). • قال إسحاق بن راهويه: (قل ليلة إلاَّ وأنا أدعو فيها لمن كتب عني، ولمن كتبنا عنه) (فتح المغيث جـ3/ 301). • وقال الحارث بن سُريج: (سمعت يحي القطان يقول: أنا أدعو الله للشافعي، أخصه به). • وقال الإمام أحمد: (ما بت منذ ثلاثين سنة إلاَّ وأنا ادعو للشافعي، واستغفر له). • وقال ابن أبي حاتم: رأيت في كتاب عبدالرحمن بن عمر الأصبهاني، المعروف برسته إلى أبي زُرعة بخطه: (اعلم –رحمك الله– أني ما أكاد أنساك في الدعاء لك ليلي ونهاري: أن يمتِّع المسلمون بطول بقائك، فإنه لا يزال الناس بخير ما بقي من يعرف العلم، وحقه من باطله، وقد جعلك الله منهم) (الجرح والتعديل جـ1/341). • وقال عبدالله بن أحمد: (ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام باسمائهم). • وسأل رجل الإمام أحمد فقال: بالري –مدينة– شاب يُقال له: أبو زُرعة، فغضب أحمد، وقال: تقول شاب؟ كالمنكر عليه، ثمَّ رفع يديه يدعو الله عز وجل لأبي زُرعة ويقول: (اللهم انصره على من بغي عليه، اللهم عافه، اللهم ادفع عنه البلاء، اللهم..، اللهم..، في دعاء كثير) (طبقات الحنابلة).
ثانياً: تجنب المراء والجدل الجدل والمراء لا يأتيان بخير، لا مع المشايخ ولا مع غيرهم، ولهذا نهى الشارع الحكيم عن ذلك: "ما ضل قوم بعد هدي إلاَّ أوتوا الجدل" (الحديث)، وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم ببيت في ربض الجنة، لمن ترك المراء ولو كان محقاً". ومن وصايا لقمان الحكيم لابنه: (جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، ولا تجادلهم، خذ منهم إذا ناولوك، والطف بهم في السؤال، ولا تضجرهم، إن تأذيت به صغيراً انتفعت به كبيراً) (تهذيب الأسماء واللغات للنووي جـ2/71-72). وقال الحافظ ابن عبدالبر: (وروينا من وجوه كثيرة عن أبي سلمة –وكان يجادل ويماري ابن عباس– قال: لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً) (جامع بيان العلم لابن عبدالبر رقم [843]، وقال المحقق: صحيح)، وقال الشعبي: كان أبو سلمة يماري ابن عباس، فحرم بذلك علماً كثيراً) (المصدر السابق رقم [844]). وفي رواية كان أبو سلمة يسأل ابن عباس فيخزن عنه، وكان عبيدالله بن عبدالله يلاطفه، فكان يغره غراً. وقال ميمون بن مهران: (لا تمار من هو أعلم منك، فإنك إن ماريته خزن عنك علمه،و لا يبالي ما صنعت) (جامع بيان العلم رقم [838]). قال الشاطبي: (الاعتراض على الكبراء قاضٍ بامتناع الفائدة، مبعد بين الشيخ والتلميذ ولا سيما عند الصوفية، فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري منهم أن التوبة منه لا تقبل، والزلة لا تقال..، وقد قال مالك بن أنس لأسد حين تابع سؤاله: هذه سلسلة بنت سلسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق، فهدده بحرمان الفائدة منه بسبب اعتراضه وكثرة سؤاله، فإن كان كذا) (الموافقات للشاطبي جـ4/343-324). وقال عميرة بن أبي ناجية المصري وقد رأى قوماً يتمارون في المسجد، فقال: (هؤلاء قوم قد ملوا العبادة وأقبلوا على الكلام، اللهم امت عميرة، فمات من عامه ذلك في الحج)، (الاعتصام للشاطبي جـ2/94-95). قال أبو حازم: (لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم، أربعين فقيهاً، أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت في مجلسه متماريين، ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا) (السير جـ5/316).
ثالثاً: العلم لا حد له، فلا غنى لك عن شيخك البعض إذا نال قسطاً من العلم، اكتفى بذلك واستغنى عن شيخه، وانقطع عنه وفي هذا قنوع. رحم الله أبا حنيفة حيث قال: (دخلت البصرة وظننت أني لا أسأل عن شيء إلاَّ اجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألاَّ أفارق حماد حتى يموت، فصحبته ثماني عشرة سنة) (تهذيب الأسماء واللغات للنووي جـ2/218). قال مالك: لما أجمعت تحويلاً عن مجلس ربيعة –شيخه– جلست أنا وسليمان بن بلال في ناحية المسجد، فلما قدم ربيعة بن أبي عبدالرحمن من مجلسه عدل إلينا، وقال: يا مالك تلعب بنفسك، زفنت وصفق لك سليمان، أبلغت أن تتخذ لك مجلساً؟ ارجع إلى مجلسك (الانتقاء صـ37). قال الدكتور ناصر العقل عن خطورة تلقي العلم من الأشرطة ونحوها: (إن بعض الناس بمجرد ما تتوفر لديه الأشرطة والكتب، ينقطع عن حلق الذكر، وعن دروس المشايخ، ويقول: أنا بحمد الله أتلقى العلم بالشريط بالسيارة أو بالبيت، وأتلقى العلم من الإذاعة، وعن طريق الجرائد والمجلات التي فيها شيء من العلم الشرعي... إلخ، وليس هناك حاجة لأن أتكبد المشاق، وأجلس على ركب العلماء. وهذا قول خطير، بل لو استمر الناس على هذا فسيخرج جيل ليس عنده علم، ولا عنده فقه، لا يفقه من الدين إلاَّ ما تهواه نفسه، وقد استغنى كثير من المثقفين والشباب بهذه الوسائل عن المشايخ، بالقصور والتقصير، ويتهمونهم بعدم ادراك الواقع... إلخ، من الأمور التي هي من سمات أهل الأهواء) (الفقه في الدين صـ57).
رابعاً: الصبر على ما يصدر من المشايخ التواضع من سمات الأخيار، وأولى الناس بالتحلي بالحلم والتواضع والرفق هم العلماء وطلاب العلم، وليكن لهم في رسول الهدى ونبي الرحمة القدوة الحسنة، والمثال الذي يحتذى حيث وصفه ربه بقوله: "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (سورة القلم: 4)، "وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ" (سورة آل عمران: 159). رويَ عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً وموقفاً أنه قال: (تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولمن تعلمونه، ولا تكونوا جبابرة العلماء) (جامع بيان العلم لابن عبدالبر رقم [803]). ورحم الله موسى عندما قال له الخضر: "إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا" (سورة الكهف: 67)، لم يستنكف عن ذلك بل قال: "سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا" (سورة الكهف: 69)، وقال صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" (البخاري في العلم رقم [69]). فالرفق ما دخل في شيء إلاَّ زانه، وما فارق شيئاً إلاَّ شانه كما قال الصادق المصدوق. لكن الكمال لله، والعصمة لرسوله، فقد يصدر من الشيخ بعض الجفاء وشيء من الغلظة، فلا ينبغي أن يكون هذا حائلاً أو مانعاً من الاستفادة منه والانتفاع بعلمه والصبر عليه، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
ينبغي لطالب العلم: (أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته، وحسن عقيدته، ويتاؤل أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تاويل، ويبدأ هو عند جفوة شيخه بالاعتذار والتوبة مما وقع، والاستغفار، وينسب الموجب إليه، ويجعل العتب عليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه، وأحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته) (تذكرة السامع والمتكلم صـ91). • قال أحد السلف: (من لم يحتمل ذل التعلم ساعة، بقي في ذل الجهل أبداً). • وقال بلال بن أبي بردة: (لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا، أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا) (جامع بيان العلم جـ1/529). • قال أبو يوسف القاضي: (خمس يجب على الناس مداراتهم: الملك المتسلط، والقاضي المتاؤل، والمريض، والمرأة، والعالم ليقتبس من علمه) (الجامع للخطيب البغدادي جـ1/222). • قال الشافعي: قيل لسفيان بن عيينة: (إن قوماً يأتونك من أقطار الأرض، تغضب عليهم؟ يوشك أن يذهبوا ويتركوك، قال: "هم حمقى مثلك أن يتركوا ما ينفعهم لسوء خلقي") (الجامع جـ1/223). • وقال المعافي بن عمران: (مثل الذي يغضب على العالم مثل الذي يغضب على أساطين –أي سوارى– الجامع) (الجامع جـ1/223). • قال الشيخ عبدالقادر الجيلاني: (لا تهربوا من خشونة كلامي، فما رباني إلاَّ الخشن في دين الله عز وجل، ومن هرب مني ومن امثالي...، لا يفلح) (الفتح الرباني صـ22). • ولله در القائل:
إن المعلـم والطبيــب كلاهمــا --- لا ينصحان إذا هما لم يكرمــا فاصبر لدائك إن جفوت طبيبه --- واقنع بجهلك إن جفوت معلماً
• والقائل:
لمحبــرة تجالسنــي نهــــــاري --- أحب إلـيَّ من أنس الصديــق ورزمة كاغد* في البيت عندي --- أحب إلـيَّ من عـَدْل الدقيـــق ولطمـة عالم في الخـد عنـــدي --- ألذ لــديَّ من شرب الرحيــق
(* قرطاس).
خامساً: التوقير والاحترام مع الحذر من الغلو والإطراء التوسط والاعتدال في أي أمر من الأمور مطلوب، وهو السمة البارزة لشرعنا المصفى، فديننا لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا وكس ولا شطط، وقد جعل الله لكل شيء قدراً. فمن حق العالم على طلابه أن يوقروه ويحترموه، والحذر الحذر من الغلو والإطراء، ومجاوزة الحد في ذلك. إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرأ فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبدالله ورسوله" (البخاري). وقال: "احثوا في وجوه المداحين التراب" (الحديث)، ولهذا عندما سمع المقداد بن الأسود رجلاً يمدح عثمان بن عفان وهو أهل للمدح حثى في وجهه التراب مستدلاً بهذا الحديث. وقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والمدح فإنه الذبح) (رواه أحمد جـ10/478، وابن ماجه رقم [3743])، وقال لمادح: (ويلك قطعت عنق أخيك) (البخاري رقم [2662])، ومن قبل نهى ربنا عن التزكية قائلاً: "فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى" (سورة النجم: 32). فالاطراء والمدح في الوجه ممنوع سيما لمن يخشى عليه من الرياء والعجب، وهل هناك أحد يسلم من ذلك في هذا الزمان؟!. قال الحافظ ابن حجر معلقاً على قول أبي بكر عندما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إسبال الإزار: (إن إزاري يسقط من أحد شقيه، قال: لست منهم)، وفي لفظ: (إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء)، وهذا من جملة المدح، لكنه لما كان صدقاً محضاً، وكان الممدوح يُؤمن معه الإعجاب والكِبْر مدح به، ولا يدخل ذلك في المنع، ومن جملة ذلك الأحاديث المتقدمة في مناقب الصحابة ووصف كل واحد منهم بما وصف به من الأوصاف الجميلة، كقوله لعمر: "ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلاَّ سلك فجاً غير فجك"، وقوله للأنصاري: "عجب الله من صنعكما"، أو غير ذلك من الأخبار، (الفتح جـ10/478-479). كان الأخيار من سلف هذه الأمة هاضمين لأنفسهم، ذامين لها، فها هو ابن مسعود رضي الله عنه يقول لاتباعه وتلاميذه: (لو تعلمون من نفسي ما أعلم لرجمتموني بالحجارة، ولما وطئ عقبي منكم أحد). وقال رجل للإمام أحمد بعد أن سأله عن شيء أو كلمه في شيء: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فغضب عليه وقال له: من أنا حتى يجزيني عن الإسلام خيراً؟! (طبقات الحنابلة لأبي يعلى جـ1/298)، وزجر أحمد رجلاً طلب منه الدعاء، وقال: من أنا حتى أدعو لك؟!. وكذلك عندما قال رجل لعمر بن عبدالعزيز: جزاك الله عن الإسلام خيراً، قال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً. ولله در القحطاني حين قال في مقدمة نونيته: والله لو علموا قبيح سريرتي --- لأبى السلام عليَّ من يلقاني لقد وصَّى ابن مسعود تلاميذه قائلاً: (كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت –أي سقط المتاع–، سرج الليل، جدد القلوب –أي متقدة– بالإيمان، خلقان الثياب، تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض) (سنن الدارمي رقم [262]).
نماذج من إجلال الطلاب لمشايخهم: إليك هذه النماذج التي تدل على احترام وإجلال العلماء، وطلاب العلم لبعضهم البعض: • روى ابن عبدالبر عن الشعبي من وجوه، قال: صلى زيد بن ثابت على جنازة، ثمَّ قُرِّبت له بغلة ليركبها، فجاء ابن عباس وأخذ بركابه، فقال له زيد: خل عنه يا ابن عم رسول الله، فقال ابن عباس: (هكذا يفعل بالعلماء والكبراء) (جامع بيان العلم جـ1/128). • وعن ابن عباس: مكثت سنتين أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن حديث، ما منعني منه إلاَّ هيبته، حتى تخلف في حجة أو عمرة في الأراك الذي ببطن –مر الظهران– لحاجته، فلما جاء وخلوت به، قلت: يا أمير المؤمنين، أريد أن أسألك عن حديث منذ سنتين، ما منعني إلاَّ هيبة لك، قال: "فلا تفعل إذا أردت أن تسألني فسلني، فإن كان عندي منه خبر أخبرتك، وإلاَّ قلت لا أعلم، فسألت من يعلم"، قلت: من المرأتان اللتان ذكرهما الله تعالى أنهما تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قال: "عائشة وحفصة" (جامع بيان العلم جـ1/456). • وعن الليث قال: (كان سعيد بن المسيب يركع ركعتين، ثم يجلس، فيجتمع إليه أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فلا يجترئ أحد منهم أن يسأله عن شيء إلاَّ أن يبتدأهم بحديث، أو يجيئه سائل، فيسأل) (الجامع للخطيب جـ1/400). • وعن محمد بن سيرين قال: (رأيت عبدالرحمن بن أبي ليلى، وأصحابه يعظمونه ويسودونه، ويشرفونه مثل الأمير) (المصدر السابق صـ182). • وعن الأعمش قال: (كنا نهاب إبراهيم –النخعي– كما يُهاب الأمير) (تذكرة الحافظ جـ1/74). • وعن أبي عبدالله المعيطي قال: (رأيت أبابكر بن عياش بمكة، فأتاه سفيان بن عيينة، فبرك بين يديه، فجعل أبوبكر يقول له: يا سفيان كيف أنت؟ يا سفيان كيف عيال أبيك؟، فجاء رجل يسأل سفيان عن حديث، فقال سفيان: لا تسألني ما دام هذا الشيخ قاعداً) (الجامع للخطيب جـ1/320). • وعن الحسن بن علي الخلال قال: كنا عند مُعْتَمر بن سليمان يحدثنا، إذ أقبل ابن المبارك، فقطع مُعْتَمر حديثه، فقيل له: (حدثنا)، فقال: (إنا لا نتكلم عند كبرائنا) (المصدر السابق جـ1/321). • وكان عبدالرحمن بن مهدي: (لا يُتحَدَّث في مجلسه، ولا يُبرى قَلَم، ولا يقوم أحد كأنما على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة) (تذكرة الحافظ جـ1/331). • وعن أبي عاصم قال: (كنا عند ابن عون –وهو يحدِّث – فمر بنا إبراهيم بن عبدالله ابن حسن في موكبه، وهو إذ ذاك يدعى إماماً بعد قتل أخيه محمد، فما جسر أحد أن يلتفت، فينظر إليه، فضلاً عن أن يقوم هيبة لابن عون) (الجامع للخطيب جـ1/185). • وقال حرملة –وهو من كبار تلاميذ الشافعي–: (سمعت الشافعي يقول وذكر له أصحاب الحديث وأنهم لا يستعملون الأدب، فقال: ما اعلم أني أخذت شيئاً من الحديث، ولا القرآن، أو النحو، أو غير ذلك من الأشياء مما كنت أستفيد، إلاَّ استعملت فيه الأدب، وكان ذلك طبعي إلى أن قدمت المدينة، فرأيت من مالك ما رأيت من هيبته وإجلاله للعلم، فازددت من ذلك، حتى ربما أكون في مجلسه، فاصفح الورقة تصفحاً رقيقاً هيبة لئلا يسمع وقعها) (توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس صـ153). • وقال الربيع بن سليمان، وهو كبار تلاميذ الشافعي كذلك: (والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليَّ هيبة له) (مناقب الشاقفي للبيهقي جـ2/145). • وقال الإمام أحمد رحمه الله: (لزمت هشيم أربع سنين ما سألته عن شيء إلاَّ مرتين هيبة له) (تذكرة الحفاظ جـ1/249). • في ترجمة إبراهيم بن أبي طالب قال الإمام أحمد بن إسحاق الفقيه: ما رأيت في المحدثين أهيب من إبراهيم بن أبي طالب، كنا نجلس كأنَّ على رؤوسنا الطير، لقد عطس أبو زكريا العنبري، فأخفى عطاسه، فقلت له سراً: لا تخف! أنت بين يدي الله (المصدر السابق جـ2/683). • وقال أبو زكريا العنبري: (شهدت جنازة حسين القباني 289هـ، فصلى عليه أبو عبدالله البوشنجي، فلما انصرف قدمت دابته، فأخذ أبو عمرو الخفاف بلجامه، وابن خزيمة إمام الأئمة بركابه، والجارودي وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه، فمضى فلم يكلم واحداً منهم) (تهذيب التهذيب جـ9/9). • وقال إسحاق الشهيد: (كنت أرى يحي القطان يصلي العصر، ثمَّ يستند إلى أصل منارة مسجد، فيقف بين يديه علي بن المديني، والشاذكوني، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل، ويحي ابن معين وغيرهم يستمعون الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لأحد منهم اجلس، ولا يجلسون هيبة وإعظاماً) (مناقب اللإمام أحمد لابن الجوزي صـ83). • قال أبو مصعب: (كانوا يرذُحمون على باب مالك حتى يقتتلوا من الزحام، وكنا إذا كنا عنده لا يلتفت ذا إلى ذا، قائلون برؤوسهم هكذا، وكانت السلاطين تهابه، وكان يقول: "لا"، و"ونعم"، ولا يقال له من أين قلت ذا؟) (السير جـ8/111). قال ابن الخياط يمدح مالك بن أنس:
يَدَع الجواب فلا يراجَعُ هيبــة --- والسائلــون نواكس الأذقــان نور الوقار وعز سلطان التقى --- فهو المهيب وليس ذا سلطان
• لما بلغ الثوري مقدم الأوزاعي، خرج حتى لقيه بذي طوى –موضع بمكة– فحل سفيان رأس البعير عن القطار –كانت القافلة تسير في شكل قطار– ووضعه على رقبته، وكان إذا مرَّ بجماعة قال: "الطريق للشيخ" (السير جـ12/432). • وقال عاصم بن أبي النجود: "ما قدمت على أبي وائل من سفر إلاَّ قَبَّلَ كَفِّي" (السير جـ5/257). • وقال إبراهيم بن الأشعث: "رأيت سفيان بن عيينة يقبل الفضيل مرتين" (السير جـ8/438). • وقَبَّل الإمام مسلم الإمام البخاري بين عينيه، وقال له: دعني أقَبِّل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيِّد المحدِّثين، وطبيب الحديث في علله.
الحذر من مسلك المريدين الطرقية هناك فرق بين تحمل الجفاء والإجلال، وبين الخنوع والانكسار والإذلال الذي يمارسه بعض الطرقية مع مشايخهم، فهذا مذموم منهي عنه. الفاصل بين الإجلال والتقدير، وبين الخنوع والذلة رقيق جداً. ومما تجدر الإشارة إليه، ويجب التحذير منه التمسح والتقبيل المبالغ فيه، والتبرك بما انفصل من الصالحين والعلماء من وضونهم ونحوه؛ لأنَّ هذا من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم التي لم يشاركه فيها أحد من الخلق، ولو جاز ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاز لخلفائه الراشدين ولصحابته المهديين. قال الشيخ الدكتور بكر أبو زيد رحمه الله محذراً من ذلك: (أُعيذك بالله من صنيع الأعاجم والطرقية والمبتدعة الخلفُية، من الخضوع الخارج عن آداب الشرع من لحس الأيدي، وتقبيل الأكتاف، والقبض على اليمين باليمين، والشمال عند السلام، واستعمال الألفاظ الرخوة المتخاذلة: سيدي، مولاي، ونحوها من ألفاظ الخدم والعبيد) (حلية طالب العلم للشيخ بكر أبو زيد صـ35-36)، كذلك من الأمور التي ينبغي أن يحذر منها طلاب العلم الانحناء والوقوف عند مغادرة الشيخ أوعلى رأسه.
سادساً: الالتفاف حول العالم ومشاورته والصدور عن أمره وتوجيهاته، وعدم قطع أمر دونه من حق العالم على طلابه الالتفاف حوله ومشاورته، وألاَّ يقطع أمر ذو بال من دونه والصدور عن توجيهاته؛ لأنَّ كل ما يصدر من طلابه ينسب إليه ويحمل مسؤوليته. حاجة الجميع حكاماً وطلاباً وعامة لرأي العلماء واستشارة المشايخ الفقهاء لا تدانيها حاجة، وذلك بجانب علمهم فإن معهم من التجارب ونضوج العقل ما ليس عند الشباب وغيرهم، ولهذا قال بعض السلف: يجب أن يكون عند الحاكم شيخ عالم بمصالح الرعية؛ لأنَّ نظر الشيخ أتم من نظر الشاب. رحم الله مجاعة بن مرارة الحنفي عندما قال لأبي بكر الصديق: (إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه، ضاعت الأمور) (الآداب جـ1/201). ولهذا قال بعض الفضلاء:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها --- دون الشيوخ ترى في بعضها خللاً
وقال أبو الطيب:
الرأي فوق شجاعـة الشجعـان --- هــو أول وهــي المحـــل الثـــــاني
فإذا اجتمع حسن رأي المشايخ مع شجاعة الشباب وجرأتهم، يتم الأمر وتحمد العاقبة، أمَّا إذا استقل الشباب وانفردوا برأيهم واعتمدوا على شجاعتهم وأقدامهم نتج عن ذلك ما لا تحمد عقباه، وما لا يمكن تداركه. لله در عمر بن الخطاب عندما نزل الطاعون بالشام استشار أولاً المهاجرين الأول فاختلفوا عليه في الدخول على الطاعون وعدمه، ثمَّ استشار الأنصار فاختلفوا عليه كاختلاف إخوانهم المهاجرين، فقال عليَّ بمسلمة الفتح، وجلهم من الشيوخ ذوي التجارب والخبرة على الرغم من تأخر إسلامهم فما اختلف عليه واحد منهم وقالوا جميعاً بعدم الدخول على الطاعون، فأخذ عمر رضي الله عنه بمشورتهم وقال: إني صابح على ظهر. وعندما حضر عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائباً فروى الحديث الذي ينهي عن الدخول في الطاعون حمد عمر الله على توفيقه له. هذا الحق من أوجب حقوق المشايخ على طلابهم وتلاميذهم ويدل دلالة واضحة على إجلالهم وتقديرهم لمشايخهم وثقتهم بهم. الاستنكاف والاستكبار عن مشاورة المشايخ العلماء وقبول نصحهم، والعمل به، من سمات أهل الأهواء الخوارج والشيعة ونحوهم، حيث اغتروا بآرائهم الفاسدة وشبههم الداحضة، فشقوا عصا الطاعة، وفارقوا الجماعة، وحلت بهم الندامة، فقال فيهم عليّ رضي الله عنه متمثلاً بقول الأول:
بذلت لهم نصحي عند منعرج اللوى --- فلم يستبينوا النصح إلاَّ ضحى الغد
قالت عائشة: "لما اجتمع أصحاب النبي وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبوبكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنَّا قليل" (سيرة ابن كثير جـ1/439). ومن العجيب أن بعض المشايخ يسايرون طلابهم ولا يستطيعون توجيههم وردهم عن بعض الأمور. قال الإمام مالك رحمه الله: (لا ينبغي للرجل أنْ يرى نفسه أهلاً لشيء حتى يسأل من كان أعلم منه، وما أفتيت حتى سألت ربيعة ويحي بن سعيد فأمراني بذلك، ولو نهياني لانتهيت) (الفقيه والمتفق جـ2/154). وقال كذلك: (ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للتحديث والفتيا جلس، حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل، وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه أهلاً لذلك جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك) (الديباج المذَّهب في علماء المذهب لابن فرحون صـ21). قال الشافعي: (إذا تصدر الحدث فإنه علم كثير) (الفقيه والمتفقه جـ2/ص68).
سابعاً: الحذر من الاسقاط والتجريح بعد التعديل من الصفات الذميمة، والأخلاق السيئة، والجحود الذي ابتلي بها بعض طلاب العلم في الآونة الأخيرة إثر فتنة الخليج، مسألة اسقاط المشايخ وعدم الاعتداد بهم والأخذ بفتواهم لهفوة قد تكون صدرت منهم أو نسبت إليهم زوراً وبهتاناً، والتجريح والتشهير لمن كان عدلاً عندهم والكيد لهم. رحم الله الخليل بن أحمد القائل:
اعمل بعلمي وإن قصَّرت في عملي --- ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
فالحذر الحذر أخي الحبيب من هذا السلوك المشين والخلق اللئيم. قال الشافعي رحمه الله: (الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة). وقال محمد بن واسع: (لا يبلغ العبد مقام الإحسان حتى يحسن إلى كل من صحبه ولو ساعة)، وكان إذا باع شاة يوصي بها المشتري ويقول: (قد كان لها معنا صحبة). لقد صوَّر مرارة الجحود والتنكر إلى المحسن الذي يجازى بالحسنة السيئة أحدهم، فقال:
عجبـــاً لمن ربيتـه طفلاً --- ألقِّمــه بأطراف البنــــان أعلمـه الرمايـة كل يـوم --- فلما اشتد ساعـده رمانــي أعلمــه الفتوة كل حيــن --- فلما طــر شاربه جفـانــي أعلمـه الرواية كل وقت --- فلما صار شاعرها هجاني
هؤلاء الجاحدون المتنكرون لمشايخهم، الراجعون عن التعديل والتزكية إلى التجريح والانتقاص والذم ليس لهم مثل إلاَّ المشركون الأوائل الذين كانوا يصفون الرسول صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، وعندما بُعِثَ إليهم ونهاهم عن عبادة الأوثان والأصنام نفروا منه، وتقاسموا فيه القول، فمنهم من قال هو شاعر، ساحر، كاهن.. إلخ. وليس لهم قدوة في ذلك كذلك إلاَّ في علماء السوَّء بشر المريسي ومن لف لفه واقتفى أثره.
قال الإمام الزعفراني: (حج بشر المريسي، فلما قدم –بغداد– قال: رأيت بالحجاز رجلاً ما رأيت مثله سائلاً ولا مجيباً، يقصد الإمام الشافعي رحمه الله، قال: فقدم علينا، فاجتمع إليه الناس، وخَفُّوا عن بشر، فجئت إلى بشر، فقلت: هذا الشافعي الذي كنت تزعم قد قدم، قال: "إنه قد تغير عمَّا كان عليه" قال الزعفراني: "فما كان مثل بشر إلاَّ مثل اليهود في شأن عبدالله سلام") (تاريخ بغداد جـ2/65). فهل لمن كان يزكي الشيخ سفر الحوالي شفاه الله وعافاه، ويشهد بأنه ابن تيمية العصر ثمَّ عاد وجرحه وشانه حتى وصفه بلسان حاله بأنه عفريت العصر، ومبتدع الدهر، ومن كان مبجلاً ومقدراً، ومقدماً لسيد قطب رحمه الله ثمَّ عاد مجرحاً له بعد أن أفضى إلى ما قدم بأنه من دعاة عقيدة وحدة الوجود والاتحاد، فهل لذاك مثلاً وقدوة إلاَّ بشر المريسي مع الشافعي؟!.
ثامناً: ألاَّ يضجره بكثرة الأسئلة، ولا يُلح عليه بالإجابة من أدب الصحابة رضوان الله عليهم مع رسولهم وإجلالهم له لم يسألوه إلاَّ عدة أسئلة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلاَّ ثلاثة عشرة مسألة حتى قُبض" (الموافقات للشاطبي جـ4/314) نحو: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى" (سورة البقرة: 220)، "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ" (سورة البقرة: 222)، ولهذا كانوا يفرحون عندما يأتي الاعراب، ويسألون الرسول صلى الله عليه وسلم فيتفقهون بذلك، على الرغم من أن أسئلتهم ليست أسئلة تعنت ولا امتحان، وإنما أسئلة معرفية –تعليم–. فينبغي لطلاب العلم أن يقتدوا ويتأسوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الادب، فلا يضجروا المشايخ بكثرة الأسئلة، ولا يلحوا عليهم في الإجابة، ولا يطالبوهم بالدليل إذا لم يوردوه عليهم إلاَّ فيما فيه نزاع.
تاسعاً: ألا تغتاب عنده أحداً من إجلال الشيخ ألاَّ يُغتاب عنده أحداً، وألاَّ يُذكر عنده أحد بسوء إلاَّ أصحاب الأهواء فإنهم لا غيبة لهم.
عاشراً: التثبت في النقل عنه وإليه لا يحل لطالب العلم أن ينقل إلى شيخه ما يوغر الصدور، ويثير الإحن، وكذلك عليه أن يتثبت في النقل عنه، ولا ينقل عنه كل ما سمعه منه، لأنَّ الشيخ قد يخص تلاميذه وطلابه ببعض الأمور التي لا يريد أن يطلع عليها غيرهم، وعليه أن يستصحب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع" (صحيح سنن أبي داود للألباني رقم [4992]، وقال: صحيح).
أحد عشر: الذب والدفع عنه من حق الشيخ على طلابه أن يذبوا ويدفعوا عنه بحق، غيبة كانت أو إذا نسب إليه شيء لا تصح نسبته إليه أو لا يليق بأمثاله. عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار"، (قال في مجمع الزوائد جـ8/98: رواه أحمد والطبراني وإسناد أحمد حسن). هذا الفضل لمن ذب عن أي مسلم، فكيف بمن يدفع ويذب عن ورثة الأنبياء من العلماء وطلاب العلم؟! لأن الطعن فيهم طعن في الدين، وصد للخلق من الانتفاع بهم والاستفادةمن علمهم، ورحم الله الحافظ بن عساكر حين قال: (اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب). فالعلماء هم أولياء الله، وإن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله وليَّ، كما قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي، وقد أعلن الله حربه على من عادى له ولياً من الأولياء: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" (البخاري)، فكما أن انتقاص العلماء وشينهم إثمه عظيم كذلك الذب والدفع عنهم فضله وثوابه جزيل، فالجزاء من جنس العمل.
الثاني عشر: تقال عثراتهم ولا تنشر زلاتهم من حق الشيوخ على طلابهم أن يغفروا زلاتهم، ولا ينشروا عثراتهم، ولهذا قيل: زلات العلماء تطوى ولا تروى، ولكن لا يقلدون فيها، قال سليمان التيمي: (لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله) (جامع بيان العلم رقم [1766]، وقال محققه: صحيح). ورحم القائل:
ومن الذي ترضى سجاياه كلها --- كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه
والقائل:
إن تجــد عيبــاً فسـد الخلــــــلا --- جــلّ من لا عيـــب فيـه وعــلا
قال الشيخ بكر أبو زيد: (وإذا بدا لك خطأ من الشيخ، أو وهم فلا يسقطه ذلك من عينك، فإنه سبب لحرمانك من علمه) (حلية طالب العلم لبكر أبو زيد صـ36). ما احسن ما قال سعيد بن المسيب كما قال السخاوي في (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) صـ118 أنه: (ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل –يعني من غير الانبياء عليهم السلام– إلاَّ وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله اكثر من نقصه، وهب نقصه لفضله). قال ابن عباس: (ويلٌ للاتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه، ثمَّ يجد من هو أعلم برسول الله منه، فيترك قوله ثمَّ يمضي الاتباع) (الموافقات للشاطبي جـ4/169).
الثالث عشر: لا يُقلد ويتعصب لكل ما يقول الحذر الحذر من التعصب للشيخ وتقليده في كل ما يقول، وعلى طالب العلم أن يميز بين الاتباع والتأسي من ناحية، وبين التقليد والأخذ بالزلات والهفوات من ناحية أخرى. فكل راد ومردود عليه، وكل يُؤخذ من قوله ويترك إلاَّ الرسول صلى الله عليه وسلم. قال المارودي: (ولا ينبغي للمتعلم ان تبعثه معرفة الحق له على قبول الشبهة منه، ولا يدعوه ترك الإعنات له على التقليد فيما أخذ عنه، فإنه ربما غلا بعض الأتباع في عالمهم حتى يروا أن قوله دليل وإن لم يستدل، وأن اعتقاده حجة وإن لم يحتج، فيفضي بهم الأمر إلى التسليم فيما أخذ....، ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلاً يناظر في مجلس، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة، فكان جوابه عنها أنه قال: هذه دلالة فاسدة، ووجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ فلا خير فيه، فأمسك عنه المستدل تعجباً؛ ولأنَّ شيخه كان محتشماً..، وليس كثرة السؤال اعناتاً، ولا قبول ما صح في النفس تقليداً) (أدب الدين والدنيا للمارودي صـ29).
الرابع عشر: تنبيه الشيخ إذا أخطأ وتذكيره إذا نسي كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فالكمال لله ولكتابه، والعصمة لرسله وأنبيائه، وكما قيل لكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة، فإذا أخطأ الشيخ، أو سها، أو صدرت منه زلة في مجلسه لابد من نصحه وتذكيره والاستدراك عليه، وبيان وجه الخطأ له، لكن برفق وتلطف، وحسن أدب، والأولى أن يتأنَّى في الرد عليه بعد الفراغ من الدرس. وليكن لنا في سلفنا الصالح رحمة الله عليهم الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة.
ليكن لك أخي الطالب في أدب الخليفة عمر بن عبدالعزيز مع مربيه صالح بن كيسان، حين قال له: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تأدبني؟! قال: أحسن طاعة، قال: (فأطعني الآن كما كنت أطيعك، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن ثوبك حتى تبدو عقباك) (عيون الأخبار لابن قتيبة جـ1/419).
وقال ابن وهب وهو من كبار تلاميذ مالك: (سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟، فقال: ليس ذلك على الناس، قال ابن وهب: فتركته حتى خف الناس –أي انصرفوا– فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟، قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبدالرحمن الحُبُلي عن المستورد بن شداد القرشي، قال: "رأيت رسول الله يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه"، قال مالك: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلاَّ الساعة، ثمَّ سمعته بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع) (مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم صـ25-26).
وحكى عبدالرحمن بن مهدي عن شيخه عبيد الله بن الحسن العنبري قائلاً: (كنا في جنازة فسألته عن مسألة، فغلط فيها، فقلت له: أصلحك الله، القول فيها: كذا وكذا، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه، فقال: إذاً ارجع وأنا صاغر، لأن أكون ذنباً في الحق أحب إليَّ من أن أكون رأساً في الباطل) (تهذيب التهذيب جـ7/7).
قال أبوبكر بن العربي في (أحكام القرآن): أخبرني محمد بن قاسم العثماني أنه حضر مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري، فقال في مجلس له: "إن النبي طلق وظاهر وآلى"، فقال له تلميذه العثماني: سمعتك تقول: "آلى رسول الله وصدقت، وطلق رسول الله وصدقت، وقلت ظاهر رسول الله وهذا لم يكن ولا يصح أن يكون؛ لأن الظهار منكر من القول وزور، وذلك لا يجوز أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم، فضمني إلى نفسه وقبَّل رأسي، وقال لي: أنا تائب من ذلك جزاك الله عني من معلم خيراً، وفي اليوم التالي عندما دخلت الجامع قال لي: مرحباً بمعلمي، وأفسحوا لمعلمي". والحذر أخي الطالب الحبيب من سلوك مريدي الشيوخ القبورييين من عدم استدراكهم على مشايخهم وتنبيههم ونهيهم عن الاعتراض على الشيخ حيث قال قائلهم: (لا تعترض فتطرد)، و(ينبغي للمريد ان يكون كالميت بين يدي مغسله، وكالريشة في مهب الريح).
ويشارك الصوفية في هذا السلوك المشين والخلق اللئيم بعض القادة الطغاة، من رؤساء بعض الجماعات الإسلامية، حيث لا يقبلون اعتراضاً ولا استدراكاً من أحد مهما صدر منهم من الطوام الجسام، فإنَّ بعضهم لا يرجع عن قول قط، وإن خالف الدين والعقل والعرف، ويفتخر أنه لم يعتذر لأحد قط ولم يقبل عذراً من أحد.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: (الاعتراض على الكبراء –المشايخ الطرقية والقادة الطغاة–قاضٍ بامتناع الفائدة، مبعد بين الشيخ والتلميذ، ولا سيما عند الصوفية فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري عنهم: أن التوبة منه لا تقبل، والزلة لا تقال) (الموافقات للشاطبي جـ4/324).
وقال ابن عبدالبر رحمه الله: (إلى الله الشكوى وهو المستعان على أمة نحن بين أظهرها، تستحل الأعراض والدماء، إذا خولفت فيما تجيء به من الأخطاء) (التمهيد لابن عبدالبر جـ14/344).
قارن بين هذا السلوك وبين ما ما قاله إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل: (لا نزال بخير ما كان في الناس من ينكر علينا) (الآداب جـ1/1950)، ومن قبل قال عمر: (رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي). حكيَ أن رجلاً من البصرة حج، فجلس بمجلس عطاء بن أبي رباح، فقال: (سمعت الحسن يقول: من كان فيه ثلاث خصال لم أتحرج أن أقول إنه منافق، فقال له عطاء: إذا رجعت له فقل له عطاء يقرئك السلام، ويقول لك: ما تقول في إخوة يوسف إذ حدثوا فكذبوا، ووعدوا فاخلفوا، وائتمنوا فخانوا، أكانوا منافقين؟! ففعل فسر الحسن، وقال: جزاه الله خيراً.
وقال لأصحابه إذا سمعتم مني حديثاً، فاصنعوا كما صنع أخوكم، حدثوا به العلماء فإن كان صواباً فحسن، وإذا كان غير ذلك فردوه عليَّ) (فيض القدير جـ1/63).
عندما سئل القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عن إتمام عائشة للصلاة الرباعية في السفر، قال للسائل: (عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن من الناس من لا يُعاب) (التمهيد جـ4/395).
ومن التعصب المقيت ما ذكره الذهبي رحمه الله عن أحدهم أنه قال: (إن الإمام لمن التزم تقليده كالنبي صلى الله عليه وسلم مع أمته لا تحل مخالفته).
ثمَّ علق الذهبي على هذا القول الساقط قائلاً: (قوله: لا تحل مخالفته مجرد دعوى، واجتهاد بلا معرفة، بل له مخالفة إمامة إلى إمام آخر حجته في تلك المسألة أقوى، لا بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كَمَن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه عمل به من أي مذهب كان، ومن تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رق دينه كما قال الأوزاعي أو غيره: "من أخذ بقول المكيين في المتعة، والكوفيين في النبيذ، والمدنيين في الغناء، والشاميين في عصمة الخلفاء، فقد جمع الشر، وكذا من أخذ في البيوع الربوية بمن يتحيل عليها، وفي الطلاق ونكاح التحليل بمن توسع فيه، وشبه ذلك، فقد تعرض للانحلال") (السير جـ8/90-91). والحمد لله حق حمده، وصلى الله على محمد نبيه، ورسوله وعبده، وعلى آله وأزواجه وصحبه
|
ساحة النقاش