مبنى معهد فالنسيا في مدريد يبرز معالم الفنون الإسلامية
في قلب العاصمة الإسبانية يقع هذا المعهد الثقافي، الذي يمتلك عدة أفرع في بعض المدن الأوروبية، وقد أعلن كمؤسسة ثقافية في عام1981، ويحتل قصراً شيد في عام 1916 على طراز يجمع بين ملامح عمارة عصر النهضة والتأثيرات المعمارية لمباني الفترة الأولى من حكم الأسبان للبلاد عقب سقوط غرناطة، وهي تأثيرات تفصح عن جذور إسلامية واضحة بسبب اعتماد حرف البناء والزخرفة على الصناع المسلمين الذين أخفوا عقيدتهم تحت وطأة السياسات الدموية لمحاكم التفتيش.
أحمد الصاوي - تتجلى تلك الملامح الإسلامية بشكل واضح في مدخل معهد بلنسية الذي يتخذ هيئة «حدوة» الحصان الشائعة في العمارة الأندلسية، وكذلك في النوافذ الثلاثية الشديدة الشبه بالنوافذ في المسجد الجامع بقرطبة.
وبداخل المتحف عدة صالات تعرض نماذج من الأعمال الفنية التي أنتجت في إسبانيا عبر المراحل التاريخية المختلفة، ومنها العصر الإسلامي الذي انتهى فعليا بسقوط غرناطة آخر ممالك المسلمين بالأندلس في عام 1492.
تحف فنية
والاعتراف الواسع بين الأوساط العلمية الأسبانية بأن الميراث الحضاري الإسلامي للمسلمين بالأندلس جزء من التاريخ والإرث الثقافي الوطني للبلاد أتاح الفرصة لعرض التحف الفنية الأندلسية والحفاظ عليها وإعادة الاعتبار لما أنتجه الفنانون المسلمون وفقاً لتقاليدهم الفنية حتى بعد إرغامهم على إظهار البعد عن الإسلام وذلك ضمن ما يعرف بمنتجات الفن المدجن الذي بدأت بشائره الأولى في طليطلة أولى الحواضر الأندلسية الكبيرة التي استولى عليها ملوك أسبانيا بعد سقوط خلافة الأمويين في الأندلس وبداية عصر ملوك الطوائف.
ويمتلك المعهد أحد الصناديق الأندلسية التي شاع صنعها من العاج لحفظ أمتعة وحلي النساء بوجه خاص منذ عهد الخلافة في القرن الرابع الهجري وتبلغ أبعاد هذه التحفة 41 سم طولاً و38 سم عرضاً، وارتفاع الصندوق بغطائه المنشوري 14 سم وصنع الصندوق في نهاية القرن السادس الهجري «12م»، ولذا خلا من الزخارف الكثيفة والمحفورة حفراً عميقاً والتي كانت تلبي احتياجات النخبة الأندلسية في بلاط خلافة قرطبة، وإن لم يخل من زخارف نفذت بالتطعيم قوامها منطقة زخرفية مكررة تجمع بين الزخارف النجمية المألوفة في الفن الأندلسي وزخارف الورود التي تتوسط كل منطقة زخرفية فضلاً عن زخارف من رسوم المراوح النخيلية بأركان الصندوق.
الشعر الأندلسي
وكعادة صناع الصناديق العاجية في تسجيل عبارات دعائية لصاحبة الصندوق التي صنع من أجلها حرص الفنان على نقش بيت من الشعر الأندلسي مصحوب بعبارة «اليمن والسعادة» من دون إشارة لصاحبة الصندوق، وهو ما يعني أنه أنتج بغرض العرض للبيع، ولعلَّ ذلك كان وراء التخلي عن أسلوب الحفر البارز في زخرفته لأنه سيرفع من سعر تكلفته أما بيت الشعر فنصه:
صنعت في جمال سحر بالأعاجيب
لاحتوى البيض الرغائب
وكأنها توشحت من روض من زهري
وتشير هذه الشطرات الثلاثة من أحد الموشحات الأندلسية إلى أن الغرض من صناعة الصندوق هو حفظ المقتنيات الثمينة من حلي وزينة النساء.
ويضم المعهد بين معروضاته عدة تحف من النسيج الأندلسي الذي أنتج بغرناطة آخر معاقل المسلمين بالأندلس تحت رعاية سلاطين بني نصر أو بني الأحمر لأن بلاط غرناطة شأنه شأن أي بلاط إسلامي بالشرق كان يوجه عناية خاصة للملابس والمنسوجات باعتبارها من علامات التشريف التي تمنح لرجال البلاط وللسفراء الأجانب.
ومن أجمل تلك القطع ستارة يبلغ طولها 180 سم وعرضها 63 سم محاطة بشريط كتابي ضيق به كتابة بخط النسخ الأندلسي تتضمن عبارة واحدة مكررة نصها «عز لمولانا السلطان أبي الحجاج الناصر لدين الله» ويعتبر هذا السلطان الذي حكم مملكة غرناطة بين عامي 1408م و1417م آخر الملوك العظام في هذه الدولة إذ تعاقب من بعده مجموعة من الأمراء الذين تصارعوا فيما بينهم حتى سقطت الدولة في أيدي فرديناند ملك قشتالة في عهد أبي عبد الله آخر ملوك بني نصر بغرناطة.
وتحتل ساحة الستارة زخرفة نباتية باللون الذهبي قوامها زخارف نباتية من أفرع حلزونية تختلط بها رسوم أنصاف مراوح نخيلية وورود شائعة الاستخدام في الفن الأندلسي وتمتزج بها أشكال دروع تذكرنا بتلك التي كانت سائدة في الدوقيات الأوروبية خلال عصور الإقطاع مما يفصح عن أن مملكة غرناطة عرفت أيضاً هذه الدروع كرموز ملكية تحت تأثير الاتصال الحضاري بالممالك التي كانت تحيط بغرناطة إحاطة السوار استعدادا للانقضاض عليها.
نسيج غرناطة
ومن تلك الفترة تقريبا يعرض المتحف لقطعة من نسيج غرناطة في عهد النصريين تزدان بزخارف باللون الأحمر على أرضية صفراء، وهي مثال لما انتهت إليه الزخارف الإسلامية في أخريات أيام ملوك غرناطة.
وقوام الزخارف المصبوغة في تلك القطعة مناطق مكررة في صفين بالتبادل وقد نشأت تلك المناطق من تقاطع وتلاقي الجدائل وبداخل كل منطقة زخرفة متكررة قوامها في أحد الصفين زهرتين من زهور اللوتس باللون الأصفر يفصل بينهما ما يشبه الراية الحربية أما الصف الثاني فقوام الزخرفة فيه رسم لمزهرية تخرج منها أوراق نباتية وزعت بتماثل على الجانبين وبقمتها ما يشبه ثمرة الرمان، وقد زخرفت تلك المناطق باللون الأحمر الذي اشتهرت به منسوجات الأندلس بغرض تحقيق التباين اللوني مع الزخارف الصفراء.
كما يعرض متحف فالنسيا بمدريد أيضاً قطعة من النسيج الأندلسي المنفذ بأسلوب الزخرفة المنسوجة أو التابستري، وهو أسلوب صناعي اشتهرت به مصر، ثم عرف على نطاق واسع في العالم الإسلامي، وكانت رقعة النسيج عادة من الكتان، بينما تستخدم خيوط الحرير أو الصوف في تنفيذ الزخرفة المنسوجة بعدة ألوان تتكرر هي والتصميمات في قطعة القماش بحكم استخدام الأنوال اليدوية في صناعتها.
وقوام الزخرفة مناطق مستديرة مكررة داخل ساحة النسيج المحصورة بين شريطين من الزخرفة المنسوجة، ويتوسط كل منطقة رسم لطاووس على أرضية باللون البني الفاتح، وقد عني النسّاج بإبراز تعدد الألوان في ذيله المنشور في تأنق وتيه مستخدماً بعض الخيوط الذهبية، بينما تتكرر نصف مروحة نخيلية فوق وتحت الطاووس ويحيط بالرسم منطقة زخرفية متكررة قوامها مراوح نخيلية كاملة تتبادل مع ورقة نباتية بوسطها دائرتان زخرفيتان.
الألوان المتعددة
وأظهر النساج الأندلسي براعته الخاصة في استخدام الألوان المتعددة في تنفيذ زخرفة هذه القطعة باهظة الثمن فنراه يجمع في ذوق رفيع بين درجات من الأسود والأحمر والبني الفاتح والأصفر القاتم مع لمسات من اللون الأبيض تتناثر هنا وهناك بدقة تثير الإعجاب.
وتتصل المناطق فيما بينها بواسطة دائرة باللون الأصفر الداكن ولم يترك النساج المساحة بين تلك المناطق خالية من الزخرفة، بل شغلها بزخارف قوامها مناطق ذات عقود خماسية مكررة بالأسفل والأعلى تنطلق منها نصف مروحة نخيلية باللون الأسود وفوقها دائرتان باللون الأصفر الداكن يتوجهما مثلث بدايته بالون الذهبي وقمته باللون الأسود لتحقيق التوازن الفني في توزيع الألوان.
ولا جدال في أن ما يعرضه معهد فالنسيا بمدريد من منتجات الفنون الإسلامية بالأندلس يعطي فكرة واضحة لقصاده عن مبلغ النضج الفني الذي وصلت إليه تلك المنتجات الفنية حتى لحظة مغيب شمس دولة الإسلام بشبه الجزيرة الإيبيرية.
ساحة النقاش